في 13/1/1993 وبعد سنوات مما يُسمى مفاوضات تم توقيع اعلان مباديء حول ترتيبات الحكومة الذاتيه غزة –اريحا اولا” والاتفاق على بحث (القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود، الامن…) لاحقاً باعتبارها بعرف هؤلاء قضايا ليست مهمة وتم تحديد ثلاث سنوات لحلها من خلال المفاوضات التي لم تنتهي منذ ذلك الوقت رغم أن المحتل عمل خلالها على تغيير ارض الواقع إلا أن المفاوض الفلسطيني أصر على السير خلف السراب واقناعنا بأنها حقيقة ستؤتي أوكلها رغماً عن أنفنا نحن معشر الرافضين لوطن بحجم القبر مشرذم مقطع الاوصال بحواجز وصل تعدادها لما يزيد عن الستمائة تتكاثر وتتناثر كالجدري في الارض الفلسطينية، تحرسها شرطية ترغم كل المناضلين القدامى على الوقوف الذليل بانتظار اوامرها بالمرور، هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم لتمثيلنا دون رغبة منا يلهثون خلف مسخ دولة منزوعة السيادة على 19% (مناطق أ حسب اتفاقية اوسلو قبل اجتياح الضفة بعملية السور الواقي عام 200) من مساحة الضفة المتبقية من المستوطنات وجدار الفصل العنصري يلتهم كل شيء، فانحصر مشروع التحرير الذي كان في الماضي تحرير فلسطين من البحر الى النهر الى دولة على ورق أُعلنت في العام 1988 ولا زالت المفاوضات تجري لمجرد الاعتراف بوجود لم يتم رسخوا خلالها الكيان الصهيوني واعترفوا باغتصابه لأرضنا وأصبحت مفاوضاتهم بعد أن كانت الارض مقابل السلام والامن مقابل السلام والتطبيع مقابل السلام الى مجرد وقف المستوطنات لأجل السلام. مفاوضات عبثية وتنازلات تلو التنازلات سيتبعها الاعتراف بيهودية الكيان فما هم إلا منفذين لرغبات الصهيوني.
قال لي احدهم ذات يوم ونحن نشاهد قدماء المناضلين يجتمعون مع الصهيوني في مدريد بأنها البداية الصحيحة وقد حان الوقت لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض فلسطين وسيعود الى قريته التي هجّر منها في العام 1967 وسيدعوني لزيارتها باعتباري من نتاج اولئك الذين طُهرّوا عرقياً في العام 1948 وأُلقي بهم أيتاماً في قلب العاصفة لتلتهمهم المخيمات ومعونات وكالة الغوث، لم يكن رجماً بالغيب حينما أخبرته بأنه إعلان رسمي بضياع فلسطين وقضيتها بعد سلسلة من الاخفاقات المقصوده لحركة نضالية كان طموح القائمين عليها الحصول على إذن الصهيوني لدخول الوطن وليس تحريره كما كانوا يزعمون وأن قريته ازدادت بعداً وسندخل في المجهول الذي لا نهاية له، عندها اختلفنا فكلانا يحمل فكراً لا نقاط التقاء به، ونعتني وأمثالي بالمنهزمين الذين يشككون بالواقعية النضالية باعتبار الظروف الدولية والمتغيرات تفرض على هؤلاء طرق كل الابواب لعل أحدها يفتح سبيلاً للوطن. كنت وقتها وعدته بأننا سنلتقي على الاقل بعد عشر سنوات وستبقى حقيبته كما هي بالانتظار وسيبقى مثلنا منفياً مشرداً عن قريته التي لو نظر اليها لرأها بأم عينيه لكن يفصله عنها خط وهمي مقدّس يبدأ ولا ينتهي اسمه حدود.
لازال اصحاب الواقعية النضالية يجادلون بأن الصراع انتقل من المنافي خارج الوطن الى داخله فتلك سياسة الخطوة خطوة او ما يؤمنون به خذ وطالب، ليلقى المناضلون بنادقهم ويخلعوا لباس المعركة ويستبدلوه بالبدلات النظيفة المستوردة وخطابات منمقة معلبة ويبدأوا معركة المفاوضات فأصبح عدو الأمس الصديق الحميم اليوم يحرص هؤلاء الابطال على الاجتماع به أمام عدسات الكاميرات ولا مشكلة على الاطلاق أن يصافحوه ويعانقوه ويقبلوا وجنتيه ويركعوا عند قدميه فتلك بطولة نادرة وشجاعة فائقة لإحراجه أمام الرأي العام الذي سيضغط من أجل تحقيق الحلم الفلسطيني، تلك هي اسطوانتهم المشروخة التي يكرروها كما الببغاء محاسيبهم وازلامهم ومجموعات مرتزقتهم، يعتقدون بأننا أغبياء لا نعلم بأنهم مجرد مجموعات من العملاء والخونة، مجموعات مرتزقة فاسدة يبيعون أنفسهم والوطن براتب قذر وحساب بنكي بالشيكل، يطلقون على انفسهم “شرفاء” وقد باعوا انفسهم في سوق النخاسه ليعملوا ليل نهار تحت إمرة الصهيوني، ويشاركوه بنوادي العهر لياليه الحمراء ويقسمون على انخابه وأجساد المومسات قسم الولاء والاخلاص لاسرائيلهم التي كانت ذات يوم تسمى فلسطين من البحر الى النهر، ويوقع هؤلاء الابطال سراً وعلانية اتفاقيات العار بالتنازل عن أرض استباحوا طهارتها وقزموها لتصبح مقاطعة يتناوبون عليها بعد أن حولوها لوكر يعج بالفساد والفاسدين.
كنت أراقب مشهد عودة هؤلاء ببركة أوسلو واستقبالهم كما الابطال المحررين من شعب مناضل صامد يتوق للحرية والانعتاق لم يروضه محتل مجرم رغم سنوات طويله من القتل والتعذيب والانتهاكات وبنفسي خشية مما سيحدث ربما لأننا جربنا كيف نشأ بعض “الزعران” على اذيال الثورة، كانت مدرستنا قريبة نجتمع ونراقب من بعيد جلسات التعذيب، كنا نراهم يستبدون ويضطهدون ونسمع صوت سياطهم مع الصراخ المزلزل تكوي ظهور من يشذّ عن أبسط أوامرهم، عادت بي الذاكرة الى ذلك الزمن البعيد وأنا أشاهد مواكب المحررين تعبر للوطن المقهور، ترى هل سيُقهر ذلك الشعب من ابنائه بعدما يئس المحتل ولم يعدم وسيلة إلا واستخدمها وبقي الشعب صامداً مناضلاً متحدياً لم ترهبه آلة الموت التي تحصد أرواح ابنائه؟ كان ذلك سؤالي لأحد الشباب الذي كان عليه أن يلبي الاوامر للالتحاق بالقوات العائدة، قال لي يومها نحن ابناء ثورة ونضال ولسنا جلادين، لا أنكر بأني لمحت بعينيه صدق ما يقول وتمنيت أن اكون المخطيء الذي لازالت ذاكرته تختزن شيئاً من الماضي الذي لن يتكرر.
ما اشبه اليوم بالأمس وقد تحوّل الثوار لمرتزقة يستبيحون وينتهكون ويقمعون وينفذون أوامر دايتون الذي يعبث بالدم الفلسطيني “زعيم فلسطين” كما أسماه عبد الستار قاسم وهو محق وأكده لي أحد الاصدقاء العائد حديثاً من نابلس وأخبرني بأن أوامر دايتون مقدّسة لا يجرؤ أحد على مخالفتها، فماذا قدّم هؤلاء للشعب الفلسطيني عبر مفاوضات بدأت ولن تنتهي، فهي حياتهم كما وصفها احدهم بـ”المفاوضات حياة”، وهي كذلك لأنها تعطيهم الجاه وتدر عليهم الاموال والالقاب الفارغة وبطاقات VIPs “رجل مهم جدا” وهم لدى الصهيوني كذلك ففي عهدهم ازداد عدد الاسرى والمعتقلين، وتم القضاء على المقاومة لأنها بالنسبة لهم “ارهاب” وامتلأت سجون السلطة بالمقاومين “الارهابيين” لترويضهم، في عهدهم تم تهويد القدس واستُبيحت ومسجدها ومقدساتها جهاراً نهاراً و”رئيسهم” يتناول الكوشير ويسمع صرخات استغاثتها، في عهدهم انتشرت المستوطنات كالفيروس وتغول جدار الفصل العنصري باسمنتهم وابتلع المدن والقرى وفصل حتى بين اجزاء البيت الواحد، في عهدهم أصبحت الضفة قلعة المقاومة تُقمع من رجال دايتون إن خرجت في مظاهرة ضد العدوان على غزة أو دفاعاً عن عرضها ومقدساتها، في عهدهم أصبح الانتماء للفصيل أولا والوطن أخيراً وآخراً، في عهدهم تم التنازل علناً عن فلسطين لمغتصبيها وأصبح المزروعين بأرضهم مهددين بهجرة جديدة، في عهدهم أصبحت الاوطان تُستجدى من مغتصبها، في عهدهم أصبح التطبيع والدخول تحت حراب الصهيوني بطولة وتحدي، في عهدهم تم التنسيق والتعاون مع الصهيوني في القتل والاجتياحات والانتهاكات والاعتقالات والاعتداء على النساء والاطفال والشيوخ وشارك الثوار السابقين بقتل غزة عقاباً على تمردها، في عهدهم استفحلت البطالة وازداد الجوع، في عهدهم لطخ العار كل الثوار ودُفنت ثورتهم في مزبلة، في عهدهم ازدادت الحواجز وتقطعت اوصال الوطن المقطّع وابتلعته مستوطنات تحيط به من كل الجهات لم تترك لهم الا مساحة قبر ليس ليقيموا دولتهم بل ليدفنوا مسخاً لن يرى النور أبداً لا يستحق كل هذه التضحيات الذي قدمها الشعب طوال مسيرته المقاومة.