وفي خلفيات الدعوة المصرية وسياقات نشاطها لإنجاز التهدئة تدخل عدة اعتبارات كما بعض الاستنتاجات التي يمكن رؤيتها من خلال الحركة السياسية لأمريكا من جهة والكيان الإسرائيلي من جهة أخرى . ولو بدأنا بخلفية المبادرة المصرية التي شملت في البداية حركتي حماس والجهاد ولقاءات العريش وامتدادها لتطال كل الفصائل والمجموعات المسلحة لوجدنا أن دوافع الحكومة المصرية لها جانبان الأول ينطلق من إحساس لدى الحكومة المصرية بتعاطف الشعب المصري مع غزة في ظل العدوان الوحشي الذي تقوم به اسرائيل عليها وسقوط العشرات من القتلى بشكل يومي ، وحالة الاحتقان التي يولدها ذلك في الشارع المصري مع صعوبة الوضع الاقتصادي والمعيشي للغالبية العظمى من الجماهير المصرية وبالتالي وجود خطر حقيقي في اندفاعة جماهيرية قد يصعب ضبطها إن امتزج فيها العامل الوطني الداخلي مع القومي في بعده الفلسطيني.
والجانب الثاني الخشية من وصول الأمور إلى خط اللاعودة بالنسبة للشارع الفلسطيني في قطاع غزة وانفجار الحالة بالاتجاهين والذي سيكون أحدهما رفح والحدود المصرية بكل تأكيد وما تداوله بعض مروجي الدعاية من أن هناك إمكانية لاستيطان فلسطيني في سيناء … إلى آخر المعزوفة المعروفة . وبعد هذا يمكن أن تأتي عوامل من نوع استقرار الحدود مع اسرائيل وانتظام بيع النفط والغاز المصري لها ، والحاجة المصرية لضبط الوضع الأمني بسيناء في ظل الاشتراطات الإسرائيلية القاسية حول عدد الجنود والشرطة المصريين المسموح بتواجدهم في سيناء ربطاً باتفاقية كامب ديفيد ، وبالتالي صعوبة ضبط الأمور بدون تهدئة تسمح بتنسيق أفضل مع الفلسطينيين وحماية الأماكن السياحية في سيناء والتي سبق استهدافها من مجموعات تصفها السلطات المصرية بالإرهابية .
وفي ظل اللقاءات السابقة للسيد عمر سليمان مع طرفي الصراع وتصدي مصر للعب دور الوسيط بهذه الكيفية وبغض النظر عن المصالح المصرية المرتبطة بالتهدئة فان الواضح أن مصر ما كانت لتتحرك لولا وجود طلبات أمريكية إسرائيلية بالخصوص ، ولعل توقيت المسألة يعزز الرغبة الإسرائيلية الأمريكية حيث تأتي التهدئة عشية أعياد صهيونية دينية وقومية في مقدمها ما يسمى عيد الاستقلال وهو ذاته النكبة الفلسطينية وأهمية وجود جو يسمح لإسرائيل بتمرير هذه المناسبة وخصوصاً أنها الذكرى الستين لقيام دولة يهود فوق أرضنا . وفي الشق الأمريكي للرغبة المشار إليها تأتي زيارة بوش الابن للمنطقة ولقاءاته المنتظرة خاصة قمة شرم الشيخ المزمع عقدها من أجل البحث عن صيغة عمل تمكن أطراف المفاوضات من الوصول إلى إعلان مباديء حول الحل النهائي قبل نهاية العام ، وحبذا لو حدث ذلك في هذه القمة ، كما الضغط الذي سيمارسه رئيس الإدارة الأمريكية على العرب من أجل مزيد من الاعتراف والتطبيع مع اسرائيل .
هذه هي باختصار خلفيات النشاط الكبير الذي شهدته القاهرة والعريش من قبلها لهذا الغرض كما التحركات الإسرائيلية الأمريكية التي تصب في ذات الغرض . لكن ما هي مبررات السعي ومن ثم الموافقة والالتزام أمام المصريين قبل أن تبدي اسرائيل ذات الشيء ولا حتى وعدت به ، والملفت أن تصريحات المسئولين الصهاينة تنفي صفة الجدية عن رغبة حماس في التهدئة رغم تيقنها من عكس ذلك . إن رضوخ حماس للطلب المصري بالمبادرة إلى التهدئة من طرف واحد على أمل موافقة اسرائيل على ذلك ، ومجرد وعود مصرية ببذل جهود الوساطة مع العدو الصهيوني للحصول على موافقة إسرائيلية لرفع الحصار وفتح المعابر له ما يبرره في ظل الوضع الذي آل إليه واقع الحياة وصعوبتها في قطاع غزة وكذلك حالة الحصار السياسي المفروضة على حماس في ظل سيطرتها الحصرية على مقاليد السلطة في غزة وتحملها مسؤولية حياة الناس التي طالها الكثير من العنت في ظل هذا الحصار الظالم ، كما أن العدوان المستمر على القطاع وسقوط الضحايا بهذه الكثافة وجلهم من المدنيين والأطفال في ظل صمت عربي وعجز عن ردع العدوان أو حتى المساعدة في رفع الحصار ، فقد وجدت حماس نفسها مرغمة على إبداء مرونة قد تعطي نتائج ايجابية على أكثر من صعيد رغم أن قبول حماس للتهدئة هو نكوص عن مفاهيمها السياسية والدينية من حيث المبدأ ، لسبب يتعلق بتشخيص حالة العداء مع اسرائيل وكل وجودها في فلسطين وتقييم الحركة لهذا الوجود وكيفية التعاطي معه ذلك أن التهدئة تختلف مع قصة الهدنة التي تؤمن بها حماس سياسياً ودينياً وتجد لها ما يبررها .
في ظل ما تقدم كيف يمكن تفسير الرفض الصهيوني المعلن للتهدئة وعدم التجاوب مع المطالب الفلسطينية حول وقف الاعتداءات وفتح المعابر وإنهاء حالة الحصار والعودة لتزويد غزة بالمحروقات إلى آخر مقومات الحياة ؟ هناك تفسير مباشر لذلك يرتبط بعدم اعتراف اسرائيل بحماس كجهة يمكن التفاهم معها أو تمثل الشعب في غزة ولا تريد منح حماس اعترافاً ولو ضمنياً بذلك إلا بشروط تضعها هي وأهمها اعتراف حماس بها ، وفي التفسير غير المباشر أو الهدف غير المعلن للرفض الصهيوني الحالي يكمن تكتيك المساومة المعروف عند هؤلاء والرغبة في ابتزاز أكبر قدر من المكاسب قبل تقديم أي ضمانات بالتهدئة وربما في انتظار السيد بوش .
الأرجح أن تقوم اسرائيل أخيراً بالموافقة على التهدئة كونها تغطي هذه الفترة الحرجة وزيارة بوش من ضمنها ، كما والأرجح أن تختار اسرائيل الوقت الملائم وفي فترة قريبة لخرق الهدنة تمهيداً لعدوان واسع على قطاع غزة .
إن قضية التهدئة ونجاحها يرتبط بعامل القدرة الفلسطينية على الردع وهذا غير متوفر حالياً في ظل الانقسام الفلسطيني ، وبتطورات المفاوضات على المسار الفلسطيني . ولعل التلويح الإسرائيلي بفتح المفاوضات على المسار السوري وما رافق ذلك من تصريحات يشير إلى لعبة إسرائيلية سبق لإسرائيل تجريبها علينا للضغط ، أو في التمهيد للعدوان إن كان هنا أو هناك . نتوقع من الإخوة في فصائل المقاومة الفلسطينية المزيد من الحذر والتنبه في الفترة القادمة ، ونتوقع أكثر تركيز نشاطها على إنجاز تهدئة جدية بين فتح وحماس تمهيداً لعودة الوحدة الوطنية وبين غزة والضفة سياسياً وعلى كل الأصعدة ، والرفض الإسرائيلي العلني هو مناورة ليس إلا .
زياد ابوشاويش