كان لكل مرحلة تاريخية دوماًَ طرائفها ونوادرها التي ميزتها وتميزت بها, ومن طرائف هذا الزمان الذي نعيش فيه ظهور جماعة من (أنصاف المفكرين), وهؤلاء مثل إخوانهم أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين وغيرهم من الأنصاف يعتاشون في الدرجة الأولى على الخواء الفكري والثقافي المستشري عند العامة من حولهم.
فيستطيع رجل لم يكمل الإعدادية مثلاًَ في مجتمع أمي أن يشغل منصب قاضي القضاة, ليس لأهلية ونبوغ فيه ولكن لأنه الوحيد بين تيوس قومه الذي يستطيع فك الخط, وهكذا أيضاًَ يمكن (لنصف مثقف) ممن قرأ كتابين ونصف في السياسة والتاريخ ويتابع احياناًَ وحسب ما يسمح به وقته الضيق بعض ما تنشره مواقع الإنترنت من بعض المقالات السطحية والأخبار الساخنة السريعة أن يحاضر في ( شلة) من الشباب الخاوي فكرياًَ والذي لا يقرأ الكتب والغير مهتم بتصفح مواقع الإنترنت الإخبارية, وطبعاًَ لن يسع هذا الشباب الخاوي إلا التصفيق والتهليل لهذا المحلل السياسي العبقري والذي عجزت النساء أن تلد من هو مثله في عبقريته وسعة أفقه وعمق تحليلاته, الخ.
ومع أن هذه الاشكال وجدت في كل زمان ومكان وتغذت ونمت وترعرعت على جهل المحيطين بها, إلا أن هذه الظواهر إنتعشت وإزدهرت وعلا ذكرها وصعد نجمها وإحتد بريقها و إشتد لمعانها في زماننا هذا بسبب التسهيلات التي وفرتها شبكة الإنترنت لهؤلاء الأنصاف, حيث لا رقابة ولا معايير على ما يكتب وينشر, كما إتسعت قاعدة المستهدفين من السذج أيضاًَ.
غير أن ما تميز به زماننا حقاًَ هو ظهور جماعة من أشباه المثقفين ممن قد نصبوا من أنفسهم مراجع فكرية وأخذوا على عاتقهم الترويج لعقائد أيديولوجية على الرغم من خوائهم الفكري الحاد. ولا أقول أبداًَ أن هؤلاء من الجهلة فبعضهم حاصل على شهادات جامعية عليا وبعضهم يحمل لقب دكتور وبعضهم يكتب دورياًَ في صحف كبرى, غير أنهم كلهم لا شيء إطلاقاًَ من الناحية الفكرية.
وهذا ليس بمستغرب, فالمثقف أوالمفكر هو غير المختص-الأكاديمي مع أن الوصف الأول يشمل الثاني إلا أن العكس غير صحيح, فكل مثقف ومفكر هو مختص في حقل علمي ما وفوق ذلك فهو أيضاًَ ملم إلماماًَ جيداًَ بتاريخ أمته ومراحل ضعفها وقوتها, وبأهم الفلسفات العالمية الحديثة والقديمة والتي تحدد مفهوم الوجود أو العدمية في حياة الإنسان وعلاقته بالطبيعة والكون من حولة وتبحث في مفاهيم مثل صراع الطبقات وتفسير حركة التاريخ, الخ. وهو كذلك على إطلاع جيد بالوضع السياسي القائم في محيطه والتغيرات السياسية والإجتماعية التي ألمت بمجتمعه ومحيطه الإقليمي والأممي في المئة سنة الماضية على الاقل, وهو كذلك على إلمام جيد ومقبول بعلوم دينة وفقهة وله بعض الإلمام بعلوم وحكم وأخبار القدماء وفنون حضاراتهم العالمية.
أما المختص الأكاديمي فهو المضطلع والملم بتفصيلات مجال تخصصه العلمي فقط, وكما ذكرت قد يكون لا شيء تماماًَ من النواحي الفكرية والثقافية الأخرى.
وهكذا ينبري لنا بين الفينة والاخرى بعض هؤلاء, فهذا يدعي انه مفكر وجودي, غير أنك إن ناقشته في بعض فصول كتاب الوجود والعدم لجان بول سارتر لفوجئت أنه لا يعرف من سارتر وفكره غير إسم الأول, وذاك يدعي السلفية وإلتزام منهج السلف ولم يعرف أبداًَ أن إبن تيمية كان مجدداًَ كبيراًَ وكان ثائر زمانه الأعظم ضد تقليد فكر السلف, ولا يعلم صاحبنا طبعاًَ أن تلميذ إبن تيمية الأبرز إبن القيم الجوزية قد خالف أستاذه في جل ما ذهب إليه من أراء, واّخر يدعي القومية العربية بينما لا يعرف عن مؤسسي الفكر القومي الحديث ومنتوجهم الفكري ومؤلفاتهم والتي تعتبر أمهات الفكر القومي العربي شيئاًَ, بل إن الكثيرين من دعاة التنظير للقومية العربية وممن قد نصبوا انفسهم مراجعاًَ في هذا المجال لم يقراَوا كتاباًَ واحداًَ لأحد أباء الفكر القومي العربي كساطع الحصري وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وأمين الريحاني ومع ذلك يعتبر أحدهم نفسه عفلق زمانه.
غير أن الطامة الكبرى هي في هؤلاء الذين لا يجيدون تأدية ركعة واحدة صحيحة لله ويريدون تعليمنا اصول ديننا وتجديد ما عتق من امر فكرنا الديني, بل ان بعض هؤلاء يخرج علينا متبجحاًَ بأن فهمه للإسلام هو الفهم الأشمل والأصح من فهم من سبقه ولحقه من أبناء عصره, وهم على قلة عبادتهم قليلوا الفقه ايضاًَ فكم هي دراية هؤلاء بالقياس والإستحسان والمصالح المرسلة والمحكم والمتشابه في الكتاب والسنة وتعليل الأحكام وأسباب النزول ومقاصد الشريعة الخمسة وفقه مدرستي الرأي والحديث والإختلافات الرئيسية عند المدارس الفلسفية الكلامية الإسلامية عبر التاريخ.
والخلاصة ان ما ينفع الناس يمكث في الأرض أما الزبد فيذهب جفاء.