يعلم صناع القرار وراسمو السياسة في الولايات المتحدة أن التفوق الأمريكي على الدول التي قد تنافسها عالميا لا يكفي لتحقيق المكاسب السياسية المرجوة إلا عبر مزيد من الخسران ل”صدقية” أمريكا و “مشروعية تدخلاتها” في دول العالم, ومنه العالم الإسلامي؛ولذلك, هي محتاجة اليوم, كما ليس في أي وقت مضى, إلى تعزيز مشروعية الأدوار التي تلعبها. وليس البحث الآن في وجود منافس حقيقي لأمريكا, بقدر ما هو في قدرتها على المضي نحو خططها الاستراتيجية في ظل تنامٍ واضح, قادر, وإن لم يصل إلى درجة المنافسة الندية, على تحقيق مكاسب جزئية قد تكون على حساب التمدد الأمريكي. والولايات المتحدة مطالبة بوجه جديد يمحو تلك الندوب, بل, الجروح غير السطحية التي خلفتها إدارة بوش الآفلة على وجه أمريكا الذي تقابل به العالم. كما يدرك أولئك الحاجة الملحة لمعالجة الضرر الذي لحق بمكانة أمريكا في العالم, وبات يهدد قدرتها على الإمساك بقضاياه, محلِّ النزاع, ومن المؤشرات التي كشفت عن ذلك الإدراك تكليفُ اللجنة المشتركة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري “بيكر هاملتون” لتقديم توصياتها للمساعدة في الخروج من التورط الأمريكي في العراق.وقد أخرجت توصياتها في 6 ديسمبر/كانون الأول 2006 و أقرت بالفشل الذريع لأمريكا في العراق. ولم تكن الخسائر الحربية هي الهاجس الوحيد, ولا ربما الأخطر , الذي يقلق الساسة الأمريكان, إنما كان الإخفاق في تحقيق تلك الأهداف التي أعلنتها سببا لما سمته تحرير العراق؛ فأضحت مقياسا يقفز إلى أذهان المراقبين من خارجها, والمتابعين من أبنائها, وصار المشهد العراقي المأساوي عارا وسُبَّة في وجه الدولة المبشرة بالديمقراطية والحرية دينا للشعوب وقيما. كما لم يكن ما تكشف, وما يزال, من فضائح في سجون العراق ومعتقل غوانتانامو إلا فعالية لا تَفْتُر, تهشم الوجه الديمقراطي, وتُصدِّع الحرية, ذريعة أمريكا, وحليتها الأكثر بريقا, وجاذبية. ليس من لا شيء تهدِّىء أمريكا بؤرا كانت تبقيها متوترة, كما تفعل مع إيران, مثلا. وليس ذلك نتيجة نجاحات مدوية صادفتها أمريكا نتيجة الانحياز إلى الوسائل العسكرية المصحوبة بالدبلوماسية الخشنة. لقد اقتنعت أمريكا بحاجتها إلى من تسميهم حلفاءها في تحقيق أهدافها, وبدت السياسة الأمريكية الخارجية متحولة عن تلك العنجهية والغطرسة التي تلت الضربة التي تلقتها في 11 سبتمر, وهذا ملحوظ في أفغانستان, حيث التعاون قائم بين دول الناتو التي لأمريكا فيها الحضور الأبرز. ومع هذا ما زال في أمريكا توجهان أحدهما يعتدُّ بالقوة, ويعلي من شأنها على حساب الخطاب الديمقراطي, ويمثله ماكين, والآخر يحاول الارتفاع بالخطاب السياسي؛ ليغدو مدعوما بشرعية تسمح باستقطاب الحلفاء الأوروبيين, باستمالة شعوبهم, ومحاولة إغراء سياسييهم, ويمثله أوباما. كتب جوناثان ستيل مقالا في ذي غارديان عقب الجولة التي قام بها المرشح الديمقراطي, وشملت أوروبا بينَّ فيه ما حظي به المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية باراك أوباما من حفاوة وابتهاج في أوروبا، مشيرا إلى أن الأوروبيين يدركون أن الرئيس الأمريكي يملك مفاتيح الحرب والسلم، ويملك من النفوذ ما يؤهله لجر الحكومات الأوروبية وراءه، كما حدث في المغامرة الكارثية المعروفة بحرب العراق.لذلك -يتابع ستيل- فلا غرابة أن نجد أن الأوروبيين يهتفون لرجل في البيت الأبيض، ربما أوباما سيكون أقل عدوانية وأحادية وإمبريالية، وأكثر تناغما مع تعقيدات السياسة الدولية. هذا على صعيد العلاقة مع أوروبا؛ فماذا عن العلاقة التي يتوقع أن المرشح الديمقراطي يريدها مع العرب؟ يفترض أن يسعى إلى محاصرة الكراهية والغضب المتنامي من أمريكا في المنطقة العربية والإسلامية.وهو يحرص على إثبات تمايز موقفه من الوجود الأمريكي في العراق عن موقف إدارة بوش الحالية, أو توجه ماكين المنافس الجمهوري. هذا دون إغفال التكاليف الاقتصادية والخسائر البشرية لوجود أمريكي غير محدد الأجل في العراق في توجيه رأي المرشح الديمقراطي للرئاسة, ومن يمثل. تحتاج أمريكا على أقل تقدير في أيامها القادمة إلى تلطيف خطابها, والتخفيف من استفزازه, واصطناع التوازن, أو الاهتمام بالقضايا التي تثير العرب, وعلى رأسها فلسطين, وفي هذا السياق جاء وعد أوباما بالاهتمام بما يسمى بالنزاع العربي “الإسرائيلي”, وهو في هذه الاتجاه من السياسة الخارجية مُكَّبل, وحذر؛ لذلك يحرص على طمأنة”إسرائيل”: أنّ سعيه إلى حل النزاع, ينطوي على مصلحة لها, كما ينطوي على مصلحة للفلسطينيين. ولا يتوقع أن تحظى فلسطين من أوباما في حال فاز بالرئاسة الأمريكية بالأولوية, إذ يعتقد أن أوباما لن يركز على الشرق الأوسط إلا بعد حين، فقد نقل ستيل في مقاله الآنف الذكر عن مستشار فلسطيني في الفريق المفاوض قوله إن “أوباما سيصب اهتمامه على العراق أولا ثم إيران وأفغانستان، والاقتصاد، وهي القضايا التي تهم جميع الأمريكيين”.كما أن فرص إعلان دولة فلسطينية اضمحلت في ضوء تنامي بناء المستوطنات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية، وانتشار نقاط التفتيش.المؤسف أن “إسرائيل” وهي المتحكمة بما يجري على الأرض تتصرف, في الاستيطان وتهويد القدس, واستنزاف الموارد, والتضييق على أهل فلسطين في مرافق حياتهم ومعاشهم, تتصرف على أنه لا سلام, وهي بذلك تفرض على الأرض وقائع لم تمنع المعارضةُ الأمريكية من الشروع فيها, والإمعان في تنفيذها؛ فهل تقوى إدارة قادمة مدينة باستحقاقا
ت سياسية واقتصادية ذات تأثير على مكانة أمريكا العالمية, أو حتى ترغب, في التصدي لتلك الاعتداءات الصهيونية, وإرجاعها عنها؟! أم أنها , ولعله الأرجح, سوف تتكيف معها, وتبني عليها, مع تلطيفات شكلية, تتساوى وحجم القوة التي يملكها المفاوض الفلسطيني!
[email protected]