من جديد عاودت الدولة العبرية التهديد، وكأن غزة قطعة جبن طرية، والسكين الإسرائيلي جاهز لتقطيعها، أو كأن التهديد والوعيد سيخيف أهل غزة التي تعودت على كل شيء، وخبرت كل القوة الإسرائيلية طوال سنوات الانتفاضة، لتذكرهم صحيفة (معاريف) الإسرائيلية في عددها الصادر اليوم أن أوساطا رفيعة المستوى في جيش الاحتلال تطالب بإنهاء التهدئة مع حركة حماس، وتفجير الأوضاع في قطاع غزة، وتجديد الحصار عليها بهدف الضغط على حماس للبدء في محادثات حول الجندي الأسير في غزة جلعاد شاليط. مثل هذه التهديدات كانت تمر كالسهم الخارق، وتجد من يروج لها في ذلك الزمن الذي كانت فيه إسرائيل تتصل بضابط التنسيق الفلسطيني، وتطالبه بعمل ما في غضون 24 ساعة، وإلا….، وكان الضابط الفلسطيني يلهث لتلبية الأوامر الإسرائيلية، وإلا…؛ فالويل لنا من إسرائيل، ومن دباباتها، وطائراتها، وجيشها الذي لا يهزم. وبالمناسبة، أذكر ذات يوم طلبت فيه إسرائيل من الأجهزة الأمنية إحضار والدي الشهيد ” رامز عبيد ” الذي نفذ عملية استشهادية في تل أبيب سنة 1996، أسفرت عن مقتل العشرات، وتسليمها إلى إسرائيل بهدف أخذ عينة دم للفحص، والتأكد أن قطع اللحم التي جمعتها إسرائيل من شوارع تل أبيب تعود فعلاً للشهيد، لقد هددت إسرائيل باجتياح مخيم خان يونس، واختطاف الوالدين إذا لم يتحقق طلبها على وجه السرعة، تماماً مثل قصة الثعلب والحمامة، عندما كان يقف تحت الشجرة مكشراً عن أنيابه، ويطلب من الحمامة أن تلقي له صغارها، وإلا صعد على الشجرة، وأكلها مع صغارها، كانت الحمامة المسكينة تلقي بصغارها باكية، طالبة السلامة. حاولت أن أقنع الأجهزة الأمنية باستحالة تسليم الوالدين، فكان ردهم: بأن تعليمات قائد الأمن العام الفلسطيني في حينه قضت بالخضوع للأوامر الإسرائيلية، ولا مناص للرفض، وكي نجنب المخيم الاجتياح، لا بد من الموافقة، وتسليم والدي الشهيد رامز عبيد، مع ضمانة عودتهما سالمين، ولم يكن أمامي خيار غير التفكير في حل المشكلة، والموائمة بين الأمر الإسرائيلي والخضوع الفلسطيني، فعرضت من جانبي على الأجهزة الأمنية أن يبلغوا الإسرائيليين بأنني سأحضر والدي الشهيد إلى بيتي القريب من بيت والدي الشهيد، ويأتي بشكل سري الطبيب الإسرائيلي إلى بيتي بصحبة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومن ثم يسحب طبيب عربي عينة الدم المطلوبة أمام ناظري الطبيب الإسرائيلي، ليأخذها بسلام، ولكن إسرائيل لم توافق، وكان رد جهازها الأمني بالنفي، وذلك لعدم الثقة بالعرب. عرضت على الأجهزة الأمنية الفلسطينية أن أصطحب والدي الشهيد رامز عبيد، وطبيب عربي إلى نقطة الارتباط الفلسطيني الفاصلة بين المستوطنات، ومخيم خان يونس، وبشرط أن يسحب عينه الدم الطبيب العربي وليس الطبيب الإسرائيلي، لأننا لا نثق بهم، وقد تمت الاتصالات بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وإسرائيل التي وافقت على المقترح. في اليوم الموعود حضر إلى المكان والدي الشهيد رامز عبيد، وأنا ، وبصحبتنا الدكتور حيدر القدرة مدير مستشفى ناصر سابقاً، والدكتور ناصر الأزعر، وللتاريخ فقد أخذ أفراد الأجهزة الأمنية كامل الاستعداد، وانتشروا بأسلحتهم في المنطقة تحسباً من الغدر الإسرائيلي، واختطاف والدي الشهيد، وانتظرنا في المنطقة الفاصلة زمناً من الشك، والخوف، والحذر، والتحسب لكل احتمال، وأخيراً جاء الرد الإسرائيلي، لا نريد عينه الدم بهذه الطريقة، من جانبنا أبلغنا ممثل الأجهزة الأمنية؛ أننا لن نقدم أكثر من ذلك، ليقتحموا المخيم. الغريب في الأمر؛ أنه لم يحدث شيء، لا اقتحام، ولا اعتقال، ولا أخذ عينه دم. اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات، وفي زمن الانتصارات، تهدد إسرائيل قطاع غزة بالاجتياح من جديد، وكأن مذاق النصر الممتزج بالدم لا يجلل سماء غزة بالكبرياء، وكأن أهل غزة لا يعرفون أن هنالك مصلحة إسرائيلية في التهدئة مثل المصلحة فلسطينية، وأن غزة هاشم تشعر بكيانها المقاوم يوماً بعد يوم، وقد خبرت ساحات الوغى مع الإسرائيليين، واكتشفت طاقتها، ووضعت أصبعها على الوريد النابض بالخوف في قلب الجندي الإسرائيلي، وأن الانتصار العربي الباهر في الجنوب اللبناني سنة 2006 قد أوجد معادلة جديدة للصراع مع الدولة العبرية، وأوجد حالة نفسيه مسايرة لها، وأن التوازنات الإقليمية بعد صمود إيران في وجه الضغوط الأمريكية، كشفت عن الضعف، والخوف، والخواء العبري، وأن المتغيرات الدولية بعد صعود روسيا على الساحة الدولية قد رفعت مكانة المقاومة الفلسطينية، وخفضت مستوى المغامرة الإسرائيلية، فكيف تخاف غزة بعد كل هذا من الاجتياح؟. إن نهاية التهدئة فيها خطر يهدد وجود الكيان الصهيوني نفسه أكثر من تهديده لوجود حماس، ونخالف رأي كاتب أحد الأعمدة في صحيفة الحياة الجديدة، عندما كتب: بأن غزة لا تحتاج أكثر من فائض القوة في الجيش الإسرائيلي. لقد كان هذا الكلام صحيحاً قبل عشر سنوات، ولكن غزة اليوم تردد ما قاله جنرال الاحتياط، موشي عبري سوكينيك، بأن الجيش الإسرائيلي كان صدئاً قبل حرب لبنان، ويعتبر نتائج الحرب مخجلة، وأحسب مع أهل غزة أنه مازال صدئاً أمام المرابطين على الثغور من رجال المقاومة. لو لم تكن التهدئة مصلحة إسرائيلية لما وافقت عليها إسرائيل، ولو استطاعت إسرائيل أن تجتاح غزة لما أرسلت لمصر، تحذرها، وتستأذنها، ولو استطاعت إسرائيل لفعلت، وما تأخرت، ولكن الدولة العبرية تسعى لابتزاز المفاوض الفلسطيني في قضية الأسرى، وهذا ما يعتبر من وجهة النظر الفلسطينية مساساً بقدسية الأسير الفلسطيني، وحقه في الحرية، فنحن أمام فرصة لتحرير الأسرى يجب ألا تفوت، وإن أدت إلى اجتياح غزة، وغرقها في البحر، كما يتوهم أعداء غزة، وعلى إسرائيل أن تدفع استحقاق تحرير أسيرها دون تهديد ووعيد. في يد إسرائيل ورقة ضغط واحدة على غزة، ورقة إغلاق المعابر كلياً بدل الإغلاق الجزئي الحاصل حالياً، ولو استخدمتها، سيكون ذلك فضحاً إسرائيلياً للصمت للعربي، ومقدمة لحراك سينزف خجلاً على جبين الأنظمة، وبداية فعاليات دولية لفك الحصار عن غزة، وعن القضية الفلسطينية التي بهت بريقها على طاولة المفاوضات العبثية.