ينظر شيوخ عشائر الإسكندرية الى المقدم (مايكل جيتشيل) على أنه (الشيخ الكبير) أو (المحفوظ) كما يسمّى في أوساط عشائر الجنوب، وتحت خيمة هذا الشيخ الأميركي يجد الشيوخ أنفسهم مدعوين دائماً الى مناقشة أعقد القضايا الأمنية أو المالية أو تلك التي تتعلق بثارات القتل التي استورثت من موجات العنف الشريرة في سنتي 2005 و2006. والمشكلة الآن لاسيما لدى شيوخ القبائل السنية أن القوات الأميركية ستغادر الشهر المقبل هذه المدينة التي كانت من أخطر مدن العراق –أيام سيطرة الإرهابيين والميليشيات عليها-ولذا فإنهم خائفون مما قد يحدث، لاسيما أن الأميركان تدخلوا في شعيرات الحياة اليومية لسكان المدينة، وبذلك سيتركون (فراغاً) مفتوح الاحتمالات لأنّ الحكومة كما يقولون غير قادرة على ملئه. ويجد أحد الشيوخ السنة نفسه مجبراً على القول إن إيران هي التي تتحكم بالعراق وأن السنة عاجزون عن فعل شيء لعدم وجود من يمثلهم في السلطة أو الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة. وفي مدينة الإسكندرية التي تعد بوابة الدخول الى المحافظات الشيعية يعيش أكثر من 150,000 من أبناء العشائر السنية (30 بالمائة) والشيعية (70 بالمائة) في حال تعقيد اجتماعي وارتباك في بناء العلاقات كنتيجة لفشل المصالحات حتى الآن، فيما تتربص بالجميع تلك الانتقامات بين الطائفتين الشيعية والسنية.
ويقول مراسل الأسوشييتد برس إن الجانبين زخرفوا خيمة كبيرة بما فيه الكفاية لعقد اجتماع بحضور 100 رئيس عشيرة سنية غاضبين، ورئيس شرطة عراقية شيعي، ومسؤولين حكوميين شيعة، ويشرف على الجميع ضابط كبير أميركي وصف بأنه كان محبطاً.
وترفع مثل هذه الخيم في الحياة العربية من أجل حفلات الزفاف، أو لمناسبات جلوس شيخ عشيرة كبير يصغي للشكاوى. و(الشيخ) في مثل هذه الحال هو الكولونيل (مايكل جيتشيل)، والخيمة هي ساحة الحرب الجديدة للقوات الأميركية التي أسفرت –كما تقول الوكالة الأميركية- عن بناء دولة شعب، مدينة بعد مدينة في عراق مزقته حرب الخمس سنوات ونزاعات العنف الطائفي. وتصفها الوكالة بأن العراق؛ أرض مجهولة بالنسبة للأميركيين. وبدلاً من الذهاب الى ساحات القتال، صبّوا الأموال الأعمال لتوليد الوظائف من أجل استيعاب العاطلين، والإصغاء لرجاءات إطلاق سراح الأقرباء المحتجزين في المعسكرات الأميركية، ومحاولة حل التنافسات القاسية بين الشيعة والسنة، كما كان المقدم (مايكل جيتشيل) يحاول في تلك الخيمة التي رفعت على مشارف مدينة الإسكندرية، المختلطة السكان (من السنة والشيعة) وذات البناء العشائري المعقد.
وبصوت ناعم -من جانب آخر- تحدث النقيب (مايكل بيني) 34 سنة الذي يعمل تحت قيادة المقدم (جيتشيل): ((قبل 4 أو 5 سنوات مضت، لم نكن نعرف أي شيء من هذا القبيل)). وأضاف: ((الحال ليست سهلة، وآخر مرة كنت هنا، كانت هناك إجراءات أمن صارمة..مطاردة للعدو الإرهابي ولمتطرفي الميليشيات، لكن الأمور تختلف الآن، وكان لابد أنْ أكيف نفسي مع الحال الجديدة أو أواجه الفشل)). ولكي ترى الأسوشييتد برس كيفية معالجة الجيش الأميركي لتكتيكاته الجديدة، دفعت مراسلها الى التعايش مع الوحدة العسكرية التي تشارك الشرطة العراقية في ضمان الأمن بهذه المدينة التي يسكنها 150,000 عراقي على امتداد الخط السريع لمسافة 30 ميلاً جنوب بغداد.
وكانت الإسكندرية ذات يوم من أكثر المناطق دموية. لكن العنف بدأ يتضاءل فيها مع أواسط سنة 2007، كنتيجة لفعالية قوات السورج الإضافية، وقرار العشائر السنية بمحاربة القاعدة والتحالف مع الأميركان. وخلال السنة الماضية، كانت قوات المقدم (جيتشيل) قد كافحت للإمسكاك بحبال السلام الهش في هذا المكان المعقد في حياته الاجتماعية. وحتى الآن تعمل بهذا الاتجاه على الرغم من (تفجرات عرضية) للعنف هنا أو هناك. والمشكلة الرئيس هي أن القوات الأميركية تدخّلت في كل مظهر من مظاهر الحياة اليومية، ولهذا فإنها –كما ترى الأسوشييتد برس- ستترك فراغاً كبيراً عندما تغادر المدن، طبقاً لاتفاقية (صوفا) بعد توقيعها.
وتقول الوكالة إن معظم القوات الأميركية، انتقلت الى حافات المدينة هذه، وآخر الجنود سيغادرون الإسكندرية الشهر المقبل. وعبّر بعض الضباط الأميركان عن ثقتهم بأن الهدوء سوف يبقى على ما هو عليه عند مغادرتهم، لكنّ الشيوخ الشيعة والسنة –كما تزعم الأسوشييتد برس- يجدون أنفسهم مستائين من ذلك!. إن وجهات النظر المتعاكسة ليست مفاجئة. وبينما كان العراقيون والأميركان يتحدثون مع بعضهم البعض كـ (أصدقاء) بحسب وصف مراسل الوكالة، وتبادل الأحضان والقبلات على الطريقة العربية، فإنهم غالباً ما يتحدثون عن ماضي كل منهم. والضباط الأميركان الذين يعملون بروح الفريق الواحد لتشجيع الجميع على العمل والتعاون في المسألة الأمنية، يجدون أن شيوخ العشائر، يصرون على العمل طبقاً لنظرة عشائرية محدودة، يميلون فيها الى اللف والدوران بشأن الموضوعات المعقدة التي تُناقش، ويمكن من خلالها أن يكونوا (طليقي اللسان) في تلطيخ سمعة الآخر من أجل الحصول على مكاسب ذاتية لعشيرتهم.
وكانت وحدة (ألفا) القوة العسكرية الأميركية التابعة للفرقة 101 المحمولة جواً، والمكونة من 120 رجلاً، قد وصلت الى الإسكندرية في شهر تشرين الثاني الماضي. وهذا المكان الطيني الذي تنتشر فيه أشجار النخيل الباسقة والبنايات الفلاحية الطويلة، يُشتهر أيضاً ببناية منشأة الإسكندرية الشهيرة التابعة للدولة، والتي كانت ذات يوم مكاناً لعمل 36,000 عامل لصناعة الباصات والشاحنات والمكائن الزراعية. إنّ ما يقرب من 70 بالمائة من سكان الإسكندرية شيعة، والباقون هم من السنة. وهي جزء من محافظة بابل، والمدينة بوابة للجنوب الشيعي ونقطة التقاطع بين بغداد وبين مدينة كربلاء الشيعية التي تضم ضريح الإمام الحسين، ولهذا فإن ملايين الزوار الشيعة يجتازون الطريق الذي يمرُّ بالمدينة سنوياً لأداء مراسم زيارة إمامهم الذي ضحى بنفسه وبعائلته من أجل العدالة الإنسانية.
وحتى سنة مضت، كانت الإسكندرية معقلاً للميليشيات بجانبيها السني والشيعي. ويقول سكان في المنطقة إن العنف الطائفي كان (شريراً للغاية) ولم يكن المرء قادراً حتى العمل لتحصيل لقمة الخبز لعائلته، أو الذهاب للعمل في المصانع. وكانت الحياة تنتهي تماماً مع وقت ما بعد الظهيرة. ويقول (رعد بهلول موسى) مدير مصنع الشاحنات: ((كان سلفي في هذا المنصب قد قتل وهو في طريقه الى العمل على الرغم من أنه يعيش فقط على مبعدة كيلومتر واحد من مقر المصنع)). وأضاف: ((لقد اعتدت على تغيير السيارة كل شهر، ودائما أشتري سيارة بلون مختلف للفرار من عملية التعقب والكشف. والآن أقود سيارتي الى العمل وعليها اسم وزارة الصناعة)).
وهذه الأيام –كما يقول مراسل الأسوشييتد برس- تغص أسواق الطعام والخضار والفواكه بالمتسوقين في الهواء الطلق، والمخازن تبقى مفتوحة لاوقات متأخرة من الليل فيما بات الأطفال قادرين على الذهاب الى المدارس بشكل منتظم. والتسجيل في المدرسة المهنية الوحيدة في المدينة، يتم جزئياً بمساعدة مالية أميركية، تطورت من دعم 30 عنصراً قبل سنة الى دعم 1,275 هذا الصيف. ويقول (نصير عبد الجبار) مدير المدرسة: ((نحن لا نمتلك فقط برامج التدريب، لكننا نساهم في تحقيق الأمن لأن بعض الطلاب المسجلين هنا، كانوا إما يزرعون قنابل الطريق أو ينضمون الى الميليشيات المتطرفة)).
وفي التحضير لمغادرتهم –تقول الوكالة- تحاول القوات الأميركية أن توجه مجتمع المدينة لحل مشاكله مع مجلس البلدية، وحكومة المحافظة إن لم يكن الأمر ممكناً. وبالاقتناع برواتب أقل في العمل ضمن القوات الأمنية الخاصة. كما تلح عليهم بالتفكير في إيجاد وسائل عملية أخرى للحصول على المال. وأخبر النقيب (بيني) زعماء المنطقة قائلاً: ((إن هدفي هو أن لا يكون هناك حاجة للقوات الأميركية في هذه المدينة، عندما نغادر أنا وجنود وحدتي العسكرية)).
وقابل النقيب (بيني) الشيخ (زاهر الشافعي) حالما وصل الى الإسكندرية. وهذا الشيخ متخرج في جامعة بغداد باختصاص (اللغة الإنكليزية) وله قدرة شاملة على تفهم مدركات (اللغة بشقها الأميركي). وعائلة الشيخ (الشافعي) الشيعية –كما تزعم الأسوشييتد برس- رحبت بالقوات الأميركية منذ وقت مبكر للحرب. لقد عمل النقيب والشيخ كصديقين، لكن علاقتهما بدت وكأنها مستندة على الحاجة المتبادلة. النقيب (بيني) يبحث عن مساعدة الشيخ لفرض الأمن في الإسكندرية، والمساعدة في تصالح العشائر السنية والشيعية. والشيخ (الشافعي) يريد بعض المكافآت ليقوّي موقعه في أوساط عشيرته؛ المال عبر مشروع، أو من خلال عقد أكبر لتجهيز الأميركان برجال الأمن المسلحين.
وخلال محادثة لهما في شهر آذار الماضي أخبر الشيخ (الشافعي) النقيب (بيني) قائلاً: ((لقد كنا أصدقاء مع قوات التحالف منذ البدايات المبكرة للحرب، ولكننا لم نحصل على شيء بالمقابل)). إلى ذلك قال النقيب: ((إن الشافعي دائماً يريد أن يجعلك تشعر بأنك مدين له)). وجمع بين الشيخ (الشافعي) الشيعي وبين الشيوخ السنة، بعد نزاع طائفي دموي عنيف جداً في هذه المنطقة من أجل أن يدفعهم الى دراسة إمكانية إقامة تعاونية زراعية بين الطرفين.
وقال النقيب (بيني) مخاطباً (الشافعي): ((شيخ زاهر أنت دائما تعطيني الكثير من الآراء والمقترحات. وأنا أريد أن أعطيك رأياً واحداً: أكمل المصالحة)). لكن الشيخ ردّ على ذلك بقوله إنه نجا من محاولتي اغتيال من قبل الميليشيات السنية، وهو يدّعي أن الشيوخ المنافسين كانوا قد ساندوا عمليتي قتل إثنين من أخوته وتسعة من أبناء عمومته. وطالب المشتبه بهم السنة بالمثول أمام العدالة. وردّ السنة بأنهم سيحاولون أن يجدوا المشتبه بهم وتسليمهم الى الشرطة لمعرفة فيما إذا كان الشيخ (الشافعي) قادراً على معرفتهم.
ولم يكن الشيخ مقتنعاً. ولذا أرسل أخاه الأصغر، ليحل مكانه لمزيد من اللقاءات بشأن التعاونية الزراعية والتي انتهت الى العمل بها في الصيف الماضي، لكنه عمل القليل بخصوص المصالحة مع العشائر السنية. ويقول النقيب (بيني) بهذا الصدد: ((إنها البداية. وأعتقد أنه صراع على السلطة أكثر منه قضية مصالحة بين العشائر)). وذات ليلة –تقول الأسوشييتد برس- والنقيب يجلس أمام صورة ولديه (مايكل حزقيال) و
(صاموئيل كريستيان) فكّر (بيني) بعائلته وحياتها، وبمهمته في هذه الزاوية الطينية من العراق. وقال: ((شخصياً، أشعر بالراحة حيال ما أنجزناه)). لكنْ..هل يعتقد أن السلام في هذه المدينة يمكن أنْ يدوم؟. يجيب النقيب قائلاً: ((إن خبرتنا تشعرنا، أنه على الرغم من هشاشة المصالحة في الإسكندرية، فإن شيئاً كبيراً فقط هو الذي يمكن أن يكسر حال الأمان المتوفرة الآن)).
(صاموئيل كريستيان) فكّر (بيني) بعائلته وحياتها، وبمهمته في هذه الزاوية الطينية من العراق. وقال: ((شخصياً، أشعر بالراحة حيال ما أنجزناه)). لكنْ..هل يعتقد أن السلام في هذه المدينة يمكن أنْ يدوم؟. يجيب النقيب قائلاً: ((إن خبرتنا تشعرنا، أنه على الرغم من هشاشة المصالحة في الإسكندرية، فإن شيئاً كبيراً فقط هو الذي يمكن أن يكسر حال الأمان المتوفرة الآن)).
وتقول الوكالة أن الشيخ (عبد الأمير الواجد) والملازم الأول (إيريك زيليرز) احتضنا بضعهما وتبادلا القبلات، قبل أن يشتكي (الشيخ العراقي) من أنّ خريج النقطة الرابعة، وذا السنوات الـ 24، ما كان راغباً في رؤيته قبل ثلاثة أسابيع فقط. ويقول الشيخ (الواجد): ((كيف يمكن أن يفعل صديق ذلك مع صديقه؟)). لقد عبّر الشيخ عن رأيه وهو ينظر من خلال نظارته الملونة. و(الواجد) 65 سنة، وابنه (وسام) يقود مجموعة من 200 مقاتل شيعي، كانوا قد التحقوا بالأميركان في الإسكندرية، لقتال الميليشيات الشيعية والسنية على حد سواء.
والشيخ واحد من رؤساء العشائر التقليديين الذين عرضوا خدماتهم بالولاء للقوات الأميركية مقابل أجور لهم وللعناصر المسلحة التي يستأجرونها لحماية الوضع الأمني داخل المدينة. ومثل هذه الجماعات الاجتماعية تساعد القوات الأميركية في مختلف أنحاء العراق مقابل مبالغ تنفق عليها تبلغ 200 مليون دولار كحد أعلى، كما هي في شهر تموز الماضي. والملازم الأول المهندس (زيليرز) واحد من مئات الضباط الأميركان في العراق ينفذون هذه الستراتيجية الجديدة التي تركز على تمويل المشروعات الصغيرة كصيد السمك، وحقول تربية الطيور والدواجن، لتوليد المزيد من الوظائف. ويقول (زيليرز) إنه كان يستمع أيضاً الى قائمة طويلة من الشكاوى بشأن المشكلات التي يواجهها الشيخ مع نقاط التفتيش التي تدار من قبل مسلحين مدعومين أميركياً. و(زيليرز) أراد أن يتخلص من بعض الرجال الكسالى والعاجزين في لجان الحراسة التابعة للحي الذي يمارس فيه الشيخ مسؤوليته. وأضاف الملازم الأول قوله: ((بوضوح، نحن يجب أن نبدأ بطرد هؤلاء الأشخاص. وسوف أفعلها. فقط نضع معاً قائمة بالأسماء وسوف أعتني بهذا الأمر)) وبمجرد محاولته الكلام، كان الشيخ خائفاً من أن يواجه المشاكل داخل عشيرته.
وقال الشيخ: ((أعطني السلطة وأنا سأعاقبهم بالضرب أو بالسجن)) لكن (زيليرز) رفض تلك الفكرة –كما تقول الأسوشييتد برس- ثم جاء من يقول إن العشاء جاهز، وراح العراقيون والأميركان، يأكلون بأيديهم الرز والدجاج في الصحون الكبيرة، وبهذا انتهت أية مناقشة بشأن طرد رجال تابعين للشيخ. أما المقدم (مايكل جيتشيل) 42 سنة، فهو رجل ضخم الجثة، لكن هيئتهالعسكرية تلائم العادات العربية التي تكيّف معها، بما في ذلك تقليب حبات المسبحة بين أصابعه.
وبطريقة ما –تقول الأسوشييتد برس- أصبح (جيتشيل) أو (الشيخ الأميركي) كما يسمّونه خبيرهم المالي، وحاميهم، والذي يوظف أبناءهم، ويقوم بحفظ السلام بينهم. ونقلاً عنه: ((أنا أمضي وقتاً طويلاً مع الشيوخ)). وأكد أن هناك حتى الآن احتكاكاً بين القبائل على هامش مسألة عمليات القتل التي جرت خلال سنتي 2005 و2006، وقد اكتشف رجاله المزيد من مخابئ السلاح، ومعظمها بنادق وذخيرة. و(جيتشيل) ينظم الاجتماعات الكبيرة بين رؤساء العشائر لعقد صفقات المصالحة، ويقود فيها عملية حوار بينهم وبين المسؤولين العراقيين، تماماً كالاجتماع الذي تم في خيمة نصبت خارج بيت شيخ سني في صباح يوم من شهر آب الماضي.