عمــاد عــودة
عودة حنظلة
طويلة هي السنين التي مرت منذ اغتيال ناجي العلي , عتمة القبر ووحشة السكون لفت حنظلة منذ ذلك اليوم المشؤوم حيث توارى حنظلة فيها عن الأنظار ونام كصاحبة لكنه لم يموت. في ليلة ليست بالبعيدة قام حنظلة فزعا من مرقده , لقد رأى ناجي في المنام يعنفه بشدة على غيابه المريب ويأمره ان يرتحل من فوره الى حيث بعض أهل الحل العقد يجتمعون في القاهرة يحملون صنارة صيد ليصطادوا مصالحة أو ما يشبهها . لبى حنظلة النداء فورا فهو طوع أمر معلمه , تأبط بعض الأوراق وبعض الأحلام ولملم بعض الأفكار وبدأ يقفز في الهواء منتشيا بطعم الحياة بعد طول موت. حنظلة اليوم سيشارك في الحوار , لكنه ومنذ أمد بعيد لم يقرأ جريدة ولم يستمع لنشرة أخبار. لكن لا بأس فلو لم يكن الأمر جللا لما اقتحم ناجي عليه السبات .
قال حنظلة في نفسه ان القادم من بعيد لا بد له من هدية يقدمها بين يدي المناسبة , فخطر في باله أن أول ما سيفعله هو أن يسامح الذين قتلوا ناجي بعد أن حققوا له حلم التحرير والإنتصار ولا أقل من ذلك, ولكن من قال لك ان التحرير قد تم ؟ يسأل حنظلة نفسه ثم لا يلبث أن يجلدها وهل هناك سبب آخر لدعوتي على استعجال , من المؤكد أن الأخوة اختلفوا في أمر يخص توزيع مكاسب الثورة بعد الانتصار أو ربما هم مختلفون في السبيل الأمثل لترحيل الصهاينة المحتلين . سأقترح عليهم ان نرحلهم بالقطار ولا داعي لإلقائهم في البحر , يقول حنظلة.
أفاق حنظلة من هواجسه على صوت عجلات الطائرة وهي تهبط في مطار القاهرة , لم يضيع الوقت وتوجه فورا الى حيث الاجتماع , على باب القاعة أوقفوه وفتشوه حتى ذاب خجلا من الأصابع القاسية التي عبثت في كل ما فيه حتى الأفكار , لم يفهم معنى تلك الابتسامة الساخرة من الحراس فتغاضى عن ذلك وتابع التقدم الى طاولة الحوار , تصفح حنظلة الوجوه , قلب الأوراق وأعمل أنفه الصغير في ثنايا الحاضرين , يا الهي , ثلة من هؤلاء لا زالوا كما هم وكأن الزمن مر بقربهم ولم يلمسهم , لكن الرائحة اختلفت , أضحت أكثر حضورا ولا يمكن لأنف حتى لو كان صغيرا أن يخطئها . هذه الرائحة كنا نتهمها بأقذع الأوصاف وكنا نعرض عن أصحابها .
في الجهة الأخرى لاحظ حنظلة وجوها جديدة , لم يعتد رؤيتها خارج المسجد , فتسائل يا ترى هل أصبح هؤلاء من أهل الثورة أم أضحت الثورة من أهل هؤلاء , توقف حنظلة عن الاستنتاج وفضل ان يستعمل اذنية التي لم يرسمها له ناجي أبدا.
استمع حنظلة الى ما يدور من حوار ولاحظ أن في الأمر خلل جلل وبدأت تظهر على على وجهه الصغير قسمات حادة ولاحت في محياه خطوط من الحيرة لا يخطئها النظر . يا الهي , فلسطين لا زالت محتلة ؟ وممن صهاينة يدعمهم فلسطينيون ؟ هذا والله عجب عجاب . ثوار الأمس تجار اليوم , موت وجوع ودمار وحصار ؟ وممن , عرب وعجم , صهاينة بكوفية بيضاء , لا هذا محال , من الجائز أن حنظلة قد أخطأ العنوان أو ربما عاد الى غير زمان . خرج حنظلة قاصدا غير المكان فمن غير المعقول ان يسمع مثل الذي كان .
خرج حنظلة من القاعة ضاربا كفا برأس لائما نفسه على هذا الخطأ الجسيم ولم يخرجه من ذهوله الا قسوة الحراس على باب القاعة وهم يدفعوه الى الداخل ويزمجرون ويصرخون في وجهه , وقع ثم اخرج وألا سيبقى اقرانك تحت الحصار وسيبقى الإعمار في الإنتظار , عندها شعر حنظلة أن الأمر حقيقي كما بدا له وأنه لم يخطيء العنوان , نظر في وجه الحارس متسائلا هل كل من في الداخل من أهل فلسطين وهل بالفعل من يرعاهم من المصريين ؟ فجائت الاجابة رصاصة اضافية الى قلب حنظله نعم هم كذلك فارجع الى مكانك ووقع ثم الى حيث القت .
عاد حنظلة الى الاجتماع بجرح غائر هذه المرة , يا ليتني ما قمت من مرقدي أبدا , أيعقل أن فلسطين لم تتحرر بعد , أيعقل أن المحتل لبس الكوفية البيضاء وأصبح له من ابنائنا أدعياء. هل هذا هو ميراث ثورة أم ثورة لميراث . هل كل الشهداء وكل الألام ذهبت ادراج الرياح . من باع شتاتنا وماذا كان الثمن , ماذا سأقول لناجي في قبره .
نعم , الآن بدأ حنظلة يستوعب وربما يفهم , هؤلاء هم اصحاب الشعارات وأصحاب اللاءات هم ايضا أصحاب الابتسامات الخشبية والأرجل المطاطية يقفزون بها على كل ثابت ومقدس . هم الذين قتلوا ناجي العلي ليخلوا لهم كاريكاتير الصباح , نفس الكروش التي غـزت الرقاب في بيروت أنجبت كروشا قابلة للنفخ ابتلعت شعبا وأرضا وجائت تفـاوض من فوضها يوما وسلمها المفتاح.