أرشيف - غير مصنف
إعلام أنظمة الوهَـن، الصيف ضيّعتِ اللبن بقلم: محمدعبدالرحمن
هل تعرفون المثل القائل : أجبن من المنزوف ضرطاً ؟ . لمن لا يعرفه ، فهو مثل عربي قديم ، وكما جاء في مخطوط (الوسيط في الأمثال) لجامعه أبو الحسن على بن أحمد الواحدي (المتوفي سنة 486 هـ) ـ فإنه قيل في عمرو بن عدي الذي كان متزوجاً من دخنتوس إبنة لقيط بن زرارة التميمي . حيث كان أنْ أيقظته دخنتوس ذات ليلة من نومه صارخة : الخيل.. الخـيل ، فطفقَ عمرو من فرط ذعـره يضرط ويردد : الخيل .. الخيل .. حتى كادت روحه تخرج من بدنه ، فقيل فيه : أجبنُ من المنزوفِ ضرطاً !. وذهبتْ مثلا .
مناسبة هذا المثل تتمثل في هذا العويل العربي الرسمي أمام مشهد التقارب الأمريكي ـ الإيراني المحتمل ، وهو العويل الذي ما برح يتصاعد منذ أن نوّه الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما إلى عزمه على إنتهاج سياسة مغايرة لسياسة سلفه بوش تجاه إيران . ولعل في ردود الفعل العربية الندّابة المتوالية على الخطاب الأخير الذي وجههه أوباما إلى الإيرانيين بمناسبة (عيد النيروز) ما يضعنا في صورة الترجمة الحرفية لهذا المثل العربي الأصيل ! .
فأول من أمس ، ومستغلاً هذه المناسبة القومية الأثيرة على قلوبهم ، خاطب الرئيس الأمريكي باراك أوباما ( بالصوت والصورة ) الإيرانيين موجـهاً إليهم الدعوة لفتح صفحة جديدة من العلاقات بعد أن وصــف الاحتفالات الإيرانية بعيد نيروز بأنها ( موسم بدايات جديدة) ، وقال أوباما بالحرف : إنه يرغب في علاقات بناءة مع إيران تمكـّنها من أخـذ (مكانها الصحيح !) في العالم .
مثل هذا الإندلاق الأمريكي على إيران سيسَـعّـر حتماً من لهيب نيران الغل والحسرة المشتعلة في قلوب الأنظمة العربية الراجفة وخصوصاً الخليجية منها ، تلك الأنظمة المذعورة من مجرد التفكير بشراكة أمريكية ـ إيرانية من شأنها أن تعيد ترتيب أوضاع الشرق الأوسط على وفق الأولويات و(المصالح) الإستراتيجية الأمريكية والإيرانية قبل ورغم وفوق أي شيء آخر ! .
باكراً ، وعلى خلفية هذا النبأ الأوبامي ، ذهبتُ بالأمس إلى حيث توقعتُ . فتحتُ جريدة ( الشرق الأوسط ) على صفحة الرأي وكان تخميني في مكانه ، فقد تصدّر هذه الصفحة مقالٌ عـويليّ ، ردّاح ، نوّاح ، بقلم رئيس تحريرها السيد طارق الحميد . وفي هذا المقال لم يترك السيد الحميد للقاريء أي فرصة للتردد في الحكم على حديثه بأنه يندرج في خانة (التمنيات) المبنية على أساس ٍمن الرعب الفاضح !. فهو بعد السطر الإستعراضي الأول لخطاب أوباما إلى الإيرانيين ينتقل فوراً إلى السؤال التالي : لكنْ ، إذا كان بوسع واشنطن تغيير طريقة تعاملها مع إيران ، فهل بوسع الملالي تغيير طريقتهم مع (الشيطان الأكبر) أميركا؟.
بالطبع ، لن ينتظرالسيد الحميد ملالي إيران لكي يجيبوا على سؤاله ، فهو من العجالة بحيث سيجيب عليه بنفسه بعد بضعة أسطر . فبالنسبة له (لا لأوباما !) ولكي تنخرط إيران بصورة فاعلة في المجتمع الدولي فيجب عليها كما ـ هو ـ يشترط ( أن تنهي إحتلالها للجزر الإماراتية وتوقف تعطيل عملية السلام وتتوقف عن تهديداتها لإسرائيل ودول المنطقة ، وأخيراً أن تصرف النظر عن مشروعها النووي) !! .. فهل سيقوم ملالي إيران بكل ذلك؟! يتساءل الحميد ببراءة مفتعلة قبل أن يستطرد بعفوية مصطنعة : ( لكنّ ذلك يعني ببساطة أن تتخلى الجمهورية الإسلامية عن أهم ركن في أمن ملاليها ، وهو مبادئ الثورة الإسلامية) !!. ولكي لا يترك مجالا للشك في أمنيات لاوعيهِ قبل وعيه ، يختم السيد الحميد مرافعته التحريضية من موقعه كمدع ٍعام في محكمة أحلام يقظته بالتساؤل (الإستهبالي) التالي : ( لكنْ ، هل بوسع إيران أن تتغير وتتنازل عن فكرة تصدير الثورة ؟. هنا السؤال ) . الله .. الله !! .
أمّا الذي سيجيب بالفم المليان على هذا السؤال العُضال فلا هي طهران ولا هي واشنطن ولا هي جُهينة ، بل هو (نعم لا سواه) السيد عبد الرحمن الراشد (مدير فضائية العربية !) في ذات الصفحة وذات ا
ليوم وبالضبط تحت مقال السيد طارق الحميد رئيس تحرير (الشرق الأوسط) .
ليوم وبالضبط تحت مقال السيد طارق الحميد رئيس تحرير (الشرق الأوسط) .
تـُرى ماذا يرى السيد الراشد كسبيل ٍوحيدٍ أمام أوباما لثني إيران عن فكرة تصدير الثورة ولجم طموحاتها النووية ؟! . هاكم جواب مدير قناة العربية جداً جداً جداً: ( أرى أنّ أوباما يبني موقفاً داخل أميركا وخارجها ضد إيران وليس معها ، بحيث يستطيع غدا أن يقول إنه استنفد كل السبل والإغراءات ولم يعد هناك بد من مواجهة إيران ولو بالقوة إن استوجب الأمر لإيقاف مشروعها العسكري الهجومي ) ! . الله أكبر .
أرأيتم حجم الهلع الذي ينتاب إعلام المنزوف ضرطاً ؟! . إنـه إعلام الديناصورات ذات الأدمغة العصفورية ، هذا الذي يتصور أنه بأقلامه المغمّسة بالنفط الأسود وفضائياته الغبراء يستطيع أن يضحك على عقول الناس بالإيحاء . فيروح في سَـورة من انفعالات الفزع المركـّب يتوهم أنه يملك لا فحسب سبل ترويج (الحقيقة المطلقة) ، بل كذلك وسائل تصنيعها من عندياته قبل تسـويقها عبر صحفه وفضائياته ليتلقفها تالياً المتلقـّون المساكين بإعتبارها البضاعة الوحيدة الكفيلة بتلبية رغباتهم !! . وعلى أساس هذا التصور الأخرق ستغدو (في حساباته العصفورية) أحلام يقظته مسلماتٍ لا مناص أمام الآخرين وأولهم أوباما من التعاطي معها صمّ بكمٌ لا يبصرون ولا يفقهون وإليها يركنون ملاذاً أميناً وحيداً !.
ذلك هو تأثير (الحمى النفطية) التي على عكس أسعار البترول تتصاعد في تلافيف (نافوخ) الإعلام الديناصوري على صغره ، فيسيحُ هذا ويتسطـّح فلا يعود يميز بين الوقائع والتوقعات ، فيختلط عنده الحابل بالنابل ، ويتقدّم في رزنامته آذارعلى شباط مثلما تتقدم في سـلــّم أولوياته إسرائيل على حماس والمحكمة الجنائية الدّونية (لا الدولية) على عمر البشير ، وحزب أفغيدور ليبرمان على حزب نصر الله ، والشيطان على إيران ، والمذهبية على الدين ، والعولمة العهرية على القومية العربية ، والإعتدالية المخروعة على العدالة المشروعة .. ، وكل هذا لا لشيء سوى لأنه إعلامٌ يعكس ضحالة وضآلة الحال الذي آلَ إليه العالم العربي بفضل ثقافة السّخام النفطي التي فرّقتْ لتسود منذ أن حاربتْ جمال عبد الناصر وبعد أن تـَشَــفـّتْ بصدام حسين وصولا إلى راهن خيبتها الشمولية ، حيث لا سندَ لها ولا نصير في عزلتها المطبقة شعبياً عربياً إلا من أنظمة دونكيشوتية لا تقوى على محاربة حتى طواحين الهواء .. فكيف بمواجهة إيران النازعة عن جدارة إلى انتزاع مكانها الذي تعتقده مناسباً لها من عيون العالم ، يتقدمه أوباما ؟!.
الصيف ضيعتِ اللبن سيد طارق الحميد ، الصيف ضيعت اللبن سيد عبد الرحمن الراشد ، وهذا المثل يستكمل المثل الذي تصدر المقال : أجبنُ من المنزوف ضرطاً !.