أرشيف - غير مصنف
داء التفاؤل الأميركي
د. محمد احمد النابلسي
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية
… أن تشعر أنك الطفل المفضل لدى الأم يعني انك ستشعر بقبول العالم غير المشروط لك عندما تصبح بالغا.
سيغموند فرويد
على الرغم من علائم سوء الحظ الملازمة لآل بوش فان تفاؤليتهم تكاد لاتنضب. وهذه التفاؤلية تجد لها المبررات. فصحيح أن بوش الأب هوى وهو في أوج مجده أمام كلينتون الا أنه تمكن من العودة الى البيت الأبيض عبر ابنه. وصحيح أن الاقتصاد الأميركي قد انهار فعلياً أثناء عاصفة الصحراء لكن الآخرين ضخوا الأموال والدماء فيه فاستعاد صحته. وصحيح أن الانهيار قد تكرر بصورة مرعبة عقب ذلك الثلاثاء من العام 2001 الا أنه وجد أيضا” من ينقذه. وهذا ما حول تفاؤل آل بوش الى داء وعلة نفسية قوامها المناعة ضد الأزمات. وهو مرض وصل لدى بوش الإبن لغاية الاعتقاد بانه المسيح المخلص.
وكنا قد تطرقنا لهذا الموضوع في يومية الكفاح العربي بتاريخ 1/3/2001 (أي قبل اكثر من 6 أشهر من الثلاثاء 11 ايلول) حيث لخصنا مرض بوش بالقناعة التالية: … اذا اضطررنا لخوض المواجهات فان النصر سيكون حليفنا والهزيمة من نصيب المارقين. واذا ما انخفضت السيولة فان الأجانب سوف يمدونا بالمال اللازم. أما اذا تدهورت أسعار الأسهم فانها ستعاود الصعود… حتى أمكن القول أن تفاؤل الادارة الأميركية يبدو مرضيا” ومنفصلا” عن الواقع”. وهو انفصال أثبت الثلاثاء الأسود صحته لكن دون ان يمنع ذلك بوش من إستكمال السلوك المبشر بكوارث أكبر آتية.
كاد بوش الابن يفقد القبول من أمه عندما قبع مختبئاً عقب حوادث سبتمبر. لولا أنه استجاب لدعوتها المقرعة له كي يواجه مسؤولياته ويأتي الى واشنطن مهما كان الخطر. فاستعاد بذلك تفاؤليته التي تجعله خارقاً أو هي جعتله يعتقد ذلك.
لكن الابن بالغ في تفاؤله لدرجة امتحان المستحيلات. مرتكزا” في ذلك الى الاحساس الطفولي الذي تكلم عنه فرويد. ولو راجعنا امتحانات المستحيلات البوشية لأدركنا أن الاحساس الطفولي لم يعد مجرد عقدة فرويدية بل هو تحول الى مرض نفسي خطير قد يودي بالولايات المتحدة أو أقله ببوش نفسه. وتكفي مراجعة الصورة التي خرج فيها بوش من حكم أقوى دولة في العالم لثماني سنوات.
وجاء هذا الخروج نتيجة طبيعية لجملة الانقلابات الجيوبوليتيكة التي قام بها بوش. ولعل أسوأها والأكثر خطورة وتهديداً بينها كان الانقلاب على تعديلات استراتيجية حلف الناتو. التي تشير صراحة الى عدم وجود مصالح حيوية للحلف في المنطقة المحاذية للصين التي تحوي باكستان وأفغانستان ( اشارة على علاقة باسترضاء كلينتون للصين بعد حادثة السفارة الصينية في بلغراد). اذ تدخلت ادارة بوش تحديدا” في هذه المنطقة التي تشكل عش الدبابير الآسيوي ،بسبب تماسه وتهديده لتخوم الصين وروسيا وايران، عداك عن الحساسيات العرقية التي يثيرها هذا التدخل. فهل كان بوش لينجو من لسعات هذه الدبابير استنادا” الى رضى باربارا بوش!؟.
لقد كان بوش يحتاج للتذكير بان المقامرة ليست طريقاً مضموناً للثروة وبأن نفوذ باربارا لايتعدى نطاق الأب وابنه. وهي ليست الأم فائقة القوة كما يراها ابنها الطفل الفرويدي.
ولعلنا بحاجة للعودة الى تحليل فرويد لشخصية الرئيس وودرو ولسون ( ترجمناها الى العربية في كتاب صدر العام 2002) لنجد أن مسارب الليبيدو أمام بوش الإبن كانت محصورة بالخيارات التالية: فإما أن يخضع الجميع وعندها سيتصرف على أنه المسيح المنتظر ( كما فعل ولسون خلال تألقه ) ويعمل على إجبار العالم على القبول برسالته المزعومة كمخلصة للإنسانية ( بما يعادل حالة من الجنون البارانويائي الذي أجبر العالم على وضع الحدود له ولو بعد حين). أو أن يجبر على تقديم تنازلات تتعارض مع إعلانات القوة التي يبذرها في كل الإتجاهات مع تجاهله التام لهذا الخضوع كما فعل ولسون لدى خضوعه للويد جورج وكليمنصو. أما ثالث الإحتمالات فكان أن يتلقى ضربة غير محسوبة حيث إنعدام قدرته على تحمل الاحباط يمكن ان يدفعه الى الاستقالة او حتى الى الانتحار ( معنوي أم فعلي).
أما وقد أكمل جورج ووكر بوش فترته الرئاسية كاملة دون حدوث أي من هذه الاحتمالات فإن علينا ان نفهم ونتفهم داء التفاؤل لدى آل بوش. ولكن مع السؤال عن احتمال إصابة الرئيس الجديد أوباما بهذا الداء. إذ ان تحركات أوباما تبدو لنا شديدة التفاؤل بالمقارنة مع الواقع العالمي.