أرشيف - غير مصنف
موضة الفقراء
بقلم : صالح صلاح شبانة
مقالة جادة تنددرج مع السخرية ومحلية يمكن تصديرها مثل أي ثورة
فوجئت به وهو الأنيق دائما، الذي يحرص على أثمن وأشيك الملابس وهو يرتدي بنطالا من الجينز قد تهرأ، وقد تم خياطة بعض الثقوب بطريقة عشوائية تدل على عدم خبرة من قام بترقيع هذا البنطال لإعادته الى الخدمة بعد ان أحاله الزمن على التقاعد وسار الى القمامة بقدميه الواهنتين، وقد أحسست ناحيته بالحزن فقلت سبحان مقلب الأحوال، يرفع ناسا ويخفض ناسا.. يغنى ويفقر سبحانه تبارك وتعالى..!
وعندما أحس باسترسال خواطري الحزينة أيقظني وأعادني الى جادة الصواب ودفعني بمعلومة ارتجفت لها أعصابي بعنف، وهي ان ما أراه ليس من باب الفقر والحاجة وإنما من باب الموضة، فهذا البنطال الحقير بنظري ثمنه نحو خمسين دينارا وقد اشتراه من أرقى محلات ومولات عمان الغربية، ولولا انه محظوظ لما وجده، حيث الطلب على هذا النوع من الألبسة عال جداً وبعضهم يضطر للحجز مسبقا ريثما تصل دفعة جديدة من أوروبا..!
يا عظمة الله!! بنطال متهرئ ممزق بخمسين ديناراً ومن دور الأزياء الراقية،، ومطلوب٬ أي الطلب أكثر من العرض!! وبالحجز المسبق؟؟
وعندما حاولت مجاملته وقلت ان الخمسين دينارا مبلغ باهظ فلو انزل لك كذا دينار من السعر، اخبرني انه حاول ذلك ولكن البائع رد عليه بدهشة: أتريد بنطالا مرقعاً بأقل من خمسين دينارا؟ أين تظن نفسك يا هذا؟؟
طبعا هو في عمان، وهذا دفعني للتفكير بتجارة كهذه لو كنت املك خلوا وأجرة محل في عمان الغربية، حيث سأشتري البضاعة من سوق البالة في المحطة او شارع الطلياني (بتراب المصاري) وسأقوم بتمزيق هذه الملابس وحرق بعضها بالسجائر ونصب بعضها وإطلاق الرصاص عليه حتى يتمزق او اشتري من ملابس الشهداء في العراق وفلسطين حين استشهادهم وقد ثقبتها رصاصات العدو الغادرة وأقوم بإعادة تأهيلها حيث سأقوم بترقيع هذه الثقوب بطريقة بدائية وفجة، ولست بحاجة الى أصحاب خبرة للقيام بذلك فالخبرة غير مطلوبة، بل الجهل و (التياسة) هما المطلوبين لهذه التجارة الرابحة..
وبعيدا عن أحلامي النرجسية لأكون صاحب تجارة ورأس مال، ومن كبار البلد و(علاليهم) فقد أعجبتني هذه الموضة التي تلغي الفوارق بين الطبقات ويلبس ابن الذوات مثل ابن الفقراء، بغض النظر ان كان اشتراه من عمان الغربية بخمسين دينارا، او انتشله من أسنان الفار ببريزة او ربع دينار، فهما سيستويان وتذوب الطبقة الارستقراطية بالطبقة الكادحة٬ ولا نعرف الموضة من الحاجة٬ مما يؤمل ان تستوي الطبقات ونخرج بطبقة جديدة تحتوي على كل هذه الطبقات معا، كما يحدث بتشابه الشاب بالفتاة من حلقه الشعر الى القرط بالأذن والأساور والسلاسل والملابس الضيقة وميوعة الشاب واسترجال الفتاة، وهما نموذج حي للعولمة.
ان الفقر آفة اجتماعية، والفقير يعيش بالحاجة واللجاجة، حياته صعبه وشاقة، وملابسه قديمة ومتهرئة، ولكل في الحياة نصيب، وتلك حكمة الله عز وجل لعمارة الأرض ولحاجة الناس لبعضهم ولعدم استغناء إنسان عن إنسان لان المجتمع لا يقوم الا بهذا التفاوت، وأصل الفقر ان الناس قد ابتعدوا عن شريعة الله، فكانت الزكاة توازن بين الغنى والفقر..
قد تكون الموضة مزحة، او طفرة، وهي تتغير وتتبدل نهبا للمزاج، وان عشق الغني اليوم البنطال المرقع، ربما لأنه رآه على جسد فقير فأعجبه، كما رأت اعتماد زوجته المعتمد بن عباد النساء يغص بالطين فتمنت ذلك، فاحضر المعتمد الورد والطيب وجعل منه مثل الطين في باحة القصر فغاصت وجواريها في الطيب كما غاص الشعب بالطين فأرضت طموحها!! ولكن مع ظهور الملابس البالية المرقعة كموضة علينا نحن الفقراء العض عليها بالنواجذ لإطالة اجلها الى أطول مدة ممكنة!!