نبيل أبو جعفر *
إعتبروني جاهلا ، أميا ، سطحي الثقافة وعديم الإطلاع … إلخ ، ولكنني كعربي أريد أن أفهم : هل قوة إيران وصلابتها هي التي دفعت الولايات المتحدة الى مغازلتها أخيرا و”التراجع” عن مواقفها تجاهها ، كما يقول زميلنا رئيس تحرير القدس العربي ـ عدد 22 آذار/ مارس ـ تحت عنوان “إنهم يحترمون الأقوياء فقط ” ، معتبرا أن ” رسالة أوباما التصالحية التي وجهها الى القيادة الإيرانية ، وإلغاء لغة التهديد والوعيد التي تبنتها إدارة بوش ما كان لها أن تتبلور لولا صلابة الموقف الإيراني إزاء موضوع البرنامج النووي، أم أن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن الحقيقة المخفية غير ذلك تماما ؟
أتمنى على أي عربي غير مرتبط بالمال والمصلحة ، يرى بعين الواقع ولا يحمل على تبعية نظام ما ويسكت عن الأكثر منه تبعية وإجراما ، أن “يعور” عينيّ الإثنتين ويُفهمني كيف يمكن لدولة كإيران اعترفت بشحمة لسان أحد أركانها أنها ساعدت الشيطان الأكبر على احتلال العراق وأفغانستان أن تكون عدوة له ، وهو ما اعلنه أبطحي في مؤتمر أُقيم بالبحرين عندما خاطب الحاضرين بعنجهية عنصرية قائلا : ”لولا طهران لما سقطت كابول وبغداد ” ، وهي العبارة التي لا تغيب عن أذهاننا ، بينما تحرص الرسمية العربية بمجملها على أن تعتّم عليها حتى في عز الحملات التي تتبادلها مع نظام الملالي في طهران ، إما لتحالف بعضها مع هذا النظام ، أو لمساهمة بعضها الآخر في تسهيل عملية الإحتلال ، أو بدافع الإرتياح من نظام كان ” يحمل السلّم بالعرض” فيزعجها بمواقفه الصلبة فعلا ، ويحرجها أمام شعبها على الأقل ؟!
وكيف يمكن لبلد أن يشارك الأميركان في احتلال بلد آخر ويتساكن معهم على أرضه كما تفعل إيران مع الولايات المتحدة منذ بداية احتلالها للعراق ، ويكون عدوا لها ؟
ثم ، كيف يمكن لبلد كإيران ـ أيضا ـ أن يحتل منذ سنين طويلة ثلاث جزر عربية وسط الخليج ـ العزيز والإستراتيجي بالنسبة للأميركان ولا يحرّك هؤلاء ساكنا من يومها لنصرة أصدقائهم في المشيخات التي تطلّ عليه ، بينما تمر أساطيلهم ذهابا وإيابا قاطعة مياهه بكل أمان و”إحترام” وهي تحمل أحدث أسحلتهم التدميرية الشاملة ، ومع ذلك يعتبر هذا البلد عدوا لهم ؟
الباطنية “إيمان” بالخداع !
أخيرا وليس آخرا : كيف يمكن أن نفسّر إصرار إيران على تسمية هذا الخليج بالفارسي بدل العربي وكيف ترفض حتى القبول بعرض حل وسط يقضي بتسميته الخليج الإسلامي ، بل يقوم أتباعها في سلطة العراق المحتل ـ كما توافينا الأنباء ـ بحذف تسمية الخليج العربي من المناهج المقررة لطلبة المدارس العراقية وإحلال اسم الفارسي بدلا منه ، مع أنها دولة إسلامية ولا يضيرها ـ كما يُفترض ـ ان يحمل اسم الدين الحنيف ؟!
وأكثر من ذلك ، كيف يمكن أن تتجرأ إيران الملالي التي تحتل الأحواز وجزيرة مجنون ، على تقديم مذكرة رسمية عبر الأقنية الدبلوماسية تطالب فيها حكومة بغداد المحتلة صنيعة الأميركان ومُلك أرجلهم قبل أيديهم بوضع كل من خور العمية وجزيرة أم الرصاص الواقعة وسط مجرى مياه شط العرب نهائيا تحت سيطرتها ، ثم تصمت عن ذلك كله الولايات المتحدة التي تُعتبر عدوّتها اللدود ، وتتركها تواصل لعبتها الباطنية بالإستمرار في خداعنا بتسمية الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر ؟
يقول المثل العربي الدارج ـ لمن يفهم العربية لا الفارسية ـ ” مجنون يحكي وعاقل يسمع ” . فكيف تستقيم هذه المواقف الإيرانية المغالية في الباطنية الرهيبة ــ ومثلها الكثير ــ مع حقائق العداء القديم لنا والتلاقى الفعلي مع “الشيطان الأكبر” ، وكيف يمكن لأي كائن حي أن
يُخدع بعواطف الكلام المعسول عن الإلتزام بشريعة الدين الحنيف بينما تنتشر ظاهرة الدعارة في شوارع طهران وأمام أعين الملالي بنسبة تفوق عواصم البلدان المعروفة بتصدير هذه “البضاعة” الى سائر أرجاء العالم ، وأن يُخدع أي مواطن عربي باللعب على إحساسه الوطني والقومي ، وإشعاره بأن التزام الملالي مبدئي بقضايانا من خلال دعمه لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين ، وأنه منزّه عن التطلعات والمصالح ، بينما الحقيقة غير ذلك تماما. طبعا ، من البديهي القول هنا أنه إذا كان هذا الكلام يعني النظام الإيراني ، فإنه لا يعني الحركتين المقاومتين والمحاصرتين بأنظمة أغلبها أميركي ـ صهيوني على المكشوف ، إلا بقدر ارتباط أي منهما أو كليهما بأجندة الملالي بديلا عن انتمائهما العربي والإسلامي ـ لا قدّر الله ـ .
يُخدع بعواطف الكلام المعسول عن الإلتزام بشريعة الدين الحنيف بينما تنتشر ظاهرة الدعارة في شوارع طهران وأمام أعين الملالي بنسبة تفوق عواصم البلدان المعروفة بتصدير هذه “البضاعة” الى سائر أرجاء العالم ، وأن يُخدع أي مواطن عربي باللعب على إحساسه الوطني والقومي ، وإشعاره بأن التزام الملالي مبدئي بقضايانا من خلال دعمه لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين ، وأنه منزّه عن التطلعات والمصالح ، بينما الحقيقة غير ذلك تماما. طبعا ، من البديهي القول هنا أنه إذا كان هذا الكلام يعني النظام الإيراني ، فإنه لا يعني الحركتين المقاومتين والمحاصرتين بأنظمة أغلبها أميركي ـ صهيوني على المكشوف ، إلا بقدر ارتباط أي منهما أو كليهما بأجندة الملالي بديلا عن انتمائهما العربي والإسلامي ـ لا قدّر الله ـ .
قياس بالعقل والمنطق
لا شك في أن العالم المتعجرف المستكبر لا يحترم ـ بينه وبين نفسه ـ إلا الأقوياء فقط ، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن يستجيب لهم ويستنكف عن مواجهتهم ، ولا يعني كذلك أن مغازلة الإدارة الأميركية الجديدة لنظام الملالي يعود لتلك القوة أو الصلابة ، خصوصا وأن هذه الإدارة لم تخرج حتى الآن من جلباب بوش ولا عن روحية مواقفه من أزمات العالم الأساسية وحتى من تفاصيلها الدقيقة ، سواء في فلسطين أو العراق أو أفغانستان . والسؤال هنا : لماذا سكتت الولايات المتحدة إذن على ممارسات نظام الملالي طوال العقود الثلاثة الماضية مع أنها تعتبره عضوا في محور الشر ، بينما استهدفت بيد قوتها الإسرائيلية الضاربة مشروع المفاعل النووي العراقي الوليد قبل حوالي ثلاثة عقود أيضا ، ولم توفّر ضرب ما اشتبهت ـ مجرد اشتباه ـ بأنه منشأة نووية سورية بنفس اليد الإسرائيلية في العام الماضي ؟
هل كان العراق بقيادة الشهيد صدام حسين ضعيفا ، فاقد الإرادة ، متردد المواقف وغير محترم من قبل العالم عندما استُهدف في تموز من العام 1981، أم كان قويا ، صاحب موقف وإرادة ، ويتمتع باحترام حتى الذين لا يوافقونه الرأي والموقف ؟ … وهل كان كذلك عندما عاد واستُهدف من قبل أكبر تحالف دولي جرّه الأميركان جرا تحت مسمى “تحرير الكويت” ، ثم استُهدف للمرة الثالثة زورا وعدوانا في الحرب الأخيرة التي أدت الى احتلاله تحت ذرائع وحجج لا حصر لها وصلت الى حد رؤية بوش في المنام أن “يأجوج ومأجوج” قد بُعثا في الشرق لتدمير الغرب المسيحي ، حسبما أبلغ ذلك هاتفيا للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قبل شهر من شن الحرب ؟ وهل كانت سورية راكعة مستسلمة ، لا تستحق الإحترام ، وسط “عالم” عربي ممانع ومقاوم ومحترم حتى استأسد على ” منشأتها النووية ” الذين لا يحترمون إلا الأقوياء .. فقط ؟!
لقد أثبتت الأيام الأخيرة التي سبقت مبادرة أوباما التصالحية مع نظام الملالي ـ وليس مع الشعب كما يردد البعض ما قاله الرئيس الأميركي الجديد بقصد التمويه المقصود ـ أن هذا الرئيس المتردد ، الضعيف حتى في اتخاذ بعض القرارات المتعلقة باختصاصه والتي لا سلطة للكونغرس ولا للوبيات الصهيونية عليها ، كقرار تعيين السفير تشارلز فريمان رئيسا للجنة الإستخبارات الأميركية الذي أوقف تنفيذه تكالب اللوبي الصهيوني ضده داخل الكونغرس على خلفية عدم الإرتياح لطريقة عمله ، أنه ما زال غامض التكوين ، مشتت الإرادة . يُعلن موقفا ويفرّغه من مضمونه ، يقول شيئا ويفعل شيئا آخر وإن حاول الإيحاء بأنه ملتزم بما يقول . وهذ ما نراه الآن بالنسبة للموقف من التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي ، ومن الإنسحاب من العراق ، وكذلك من تصريحاته حول أفغانستان وأخيرا مغازلته لإيران التي أدهشت البعض ، فاعتبروها المثال الأبرز للتأكيد “على صلابة الموقف الإيراني في التوحد بين الشعب والقيادة “، رغم عدم وجود هذا “التوحّد” حتى داخل سفارات النظام نفسه ، وبين كبار المسؤولين فيها الذين ما زال يتغنى بعضهم فيما بينهم بالنموذج الأميركي ، فضلا عن عدم تفسير سرّ هذه الصلابة أمام التناقض الأميركي المستمر وغير المفهوم من قبل الكثيرين ، والمتمثل بإدراج الولايات المتحدة نظام الملالي ضمن محور الشر الداعم للإرهاب دون أي صدام معه كالآخرين من أعضاء المحور ، ثم إدراج الفصيل المقاوم والمعارض الأول له ــ منظمة مجاهدي خلق غير المعادية للأميركان ــ في
قائمة الإرهاب ومعاملتها فعليا على هذا الأساس !
قائمة الإرهاب ومعاملتها فعليا على هذا الأساس !
تساؤلات مشروعة وتبرير مفضوح
لا أدري لماذا لا يسأل بعض الناس أنفسهم : هل بسبب قوة إيران وصلابة موقفها منع مجرم الحروب جورج دبليو بوش إسرائيل ثلاث مرات متتالية من شن هجوم على مجمع ناتانز النووي الرئيسي في إيران الذي يجري فيه تخصيب اليورانيوم ، حسب قول صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أواخر شباط / فبراير الماضي في مقال لديفيد سانغر ، وأنه لم يسمح لها باستخدام المجال الجوي العراقي لتحقيق هذا الهدف ؟
والأغرب من ذلك تبرير إدارة بوش سبب هذا المنع ـ كما قال سنغر بالنص الحرفي نقلا عن مسؤولين في السي آي إي رفضوا الكشف عن هوياتهم لحساسية الموضوع ب” الخوف من إمكانبة قيام العراق بطرد القوات الأميركية من أراضيه في حال معرفته بإقدام الولايات المتحدة على مساعدة إسرائيل لتنفيذ هذه الضربة عن طريق استخدام المجال الجوي العراقي ” !!
تصوّروا ان الولايات المتحدة التي نصّبت حكام العراق المحتل تخشى من إقدام هؤلاء على طرد قواتها العسكرية ، مع أن أنفار عساكرها يقومون بتفتيش الوزراء والنواب قبل الدخول الى مكاتبهم !
إن سخف هذا التبريرالمفضوح يدفعنا الى السؤال الجدي عن سر استنكاف الشيطان الأكبر عن مواجهة الملالي خارج إطار التهديد الكلامي الممل منذ ” ثورة الخميني ” حتى اليوم ، كما يدفعنا الى التوقف بكل موضوعية وعقل منفتح أمام السيرة الباطنية لنظام الملالي . وكلمة “باطنية” هنا ليست إتهاما مسبقا بقدر ما هي صفة واقعية لا يختلف عليها أي اثنين ، سواء كانا منفتحين أم منغلقين في قراءتهما لحقائق التاريخ المسجلة تفصيليا بالوثائق لا العواطف ،منذ ما قبل “ووتر غيت” وحتى ما بعد “ووتر احتلال بغداد وكابول” ، ثم احتلال أم الرصاص والتهديد باحتلال البحرين ، ومد اليد الطويلة الى أقصى الوطن بهدف “فرسنة” المغرب العربي !
يقولون أن الأخطبوط الأميركي سيبدأ بالإنحسار عن بلادنا ، وسيحلّ قريبا عن ظهورنا ، ولكننا نلاحظ أن اخطبوط الملالي هو الذي بدأ يحاول الحلول سلفا مكانه ، وفي نفس المواقع ، وعلى نفس الظهور الصديقة للأميركان بشكل خاص ، فأي صدفة هذه وأي تاريخ يكتبه الشيطان الأكبر مع نظام الملالي تتويجا ل ” زواج المتعة ” الذي استمر ثلاثين عاما في السر حتى اليوم ، وأي فرق بين استعمار وآخر أو احتلال واحتلال ، مهما كان لونه أو دينه أو مذهبه ؟
- كاتب وصحافي عربي يقيم في باريس