أرشيف - غير مصنف
حكمة الحكام وجهل المحكومين !!
دكتور ناجى صادق شراب
لقد إنشغلت منذ وقت بدراسة العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى سياق الإنشغال ألأوسع بحالة التخلف السياسى وتقوقع الحكم والسلطة فى شخص الحاكم ومن يحيطه من مساندين وداعمين ، وذلك بحثا عن ألإجابة على التساؤل لماذا تسود حياتنا السياسية أنظمة حكم غير قابله للتغير والتطور ، والإلتزام بارادة المحكومين الذين بدونهم يفقد الحاكم جوهر ومضمون حكمه . ومن المفارقات السياسية التى تدعو للتأمل هذه العلاقة غير المتكافئه ، وغير المتوازنه ، بل وأحيانا الغير عادله فى المعادله السياسية بين الحاكم والمحكومين ، والتى تقوم على أن كل ما يصدر عن الحاكم ومن يحيطون به يمثل الحكمة والذكاء والرأى ألصواب ، وهذا يفترض أن على المحكومين أن يقبلوا بهذه الحكمة دون نقاش أو نقد أوجدل ، وان يتحملوا كل التبعات السياسية والإقتصادية التى قد تترتب على كل القرارات والسياسات التى يتخذها الحاكم ، حتى لو كانت هذه القرارات غير صائبه ، وتجلب الكوارث على الشعب ، فالخطأ ليس فيما يتخذه الحاكم من قرارات بل أن هناك مؤمرات إما من المعارضه فى الداخل، أو من الخارج التى تحارب هذا الحاكم ولا تريد له النجاح ، ولعل ما يفسر هذه العلاقة علاقة التبعية والخضوع التى تحكم علاقة الحاكم الذى ينظر إلى مواطنيه على أنهم مجرد رعايا وليسوا مواطنيين ، وأيضا علاقة الصلاحية الدائمه التى يتمتع بها الحاكم دون غيره ، فجينات الحكم نادره وصعب أن تتكرر أو توجد فى أنسال أخرى ، وهنا تسود ثقافة الخوف والقمع ومصادرة الرأى حتى لو كان صائبا ، فالحاكم هو عقل ألأمة وحكيمها ، وهو رب العائلة التى ينبغى أن تقدس وتحترم شخصيته ، ومن العيب العائلى أن تمس شخصية الحاكم ، وعليه لا ينبغى مساءلة الحاكم ، فكيف يسأل الحاكم عن قرارات وسياسات صائبه وتهدف إلى مصلحة الناس جميعا ، وهذه العلاقة تجد جذورها فى كل ما يرمز فى المجتمع إلى شخص الحاكم ، بدءا من ألأب الذى يعول أسرته وحتى لو كان هذا ألأب غير صالح ويعرض مستقبل عائلته للهلاك يبقى ألأب الذى على جميع أفراد العائلة إحترامه وتقديسه وطاعته حتى على معصيته ، وتمتد الصورة إلى المعلم الذى يحمل بيد ه آخر ما توصلت اليه فنون تشكيل العصى التى تتفاوت فى حجمها وطولها رمزا للقوة الغليظه ووظيفتها فقط قفل كل افواه التلاميذ الذين يحاولون الإعتراض والنقد ، فهنا النقد والحوار ممنوع والنتيجة المنطقية شخصية خاضعه مطيعه منقاده ، أو ليس المعلم رمز للحكمة والعقل والعلم والحكمة، والصورة نفسها تتكرر فى صورة آآمة المساجد الذين يتقدمون الناس للصلاة فكل ما يقولونه ويفسرونه هو المقبول ولا يجوز لأحد تغليطهم وإلا أتهم بالكفر والخروج عن الدين ، ولا تخرج وظيفة هؤلاء عن تقديس شخص الحاكم ، بل والذهاب أبعد من ذلك بتشبيهه بالصحابة وكبار المسلمين ، والمصلون جاسون يستمعون دون إعتراض ، , وتتمدد الصورة وتكبر لتجسد فى شخص الحاكم الذى قد يجسد كل هذه الصور ، فهؤلاء فقط هم من يملكون الحكمة والعقل ، أما بقية الناس فيفترض فيهم السمع والطاعة ، والقبول بما يسمعون . ولتأكيد هذه العلاقة يتم إحتكار العديد من وسائل التنشئة بكل أشكالها لتعمق هذه الصورة المقدسة عن الحاكم ، التى لا تمس ولا تخضع للمساءلة . وهنا تبرز أمامى صورة الحاكم المستنير ليس بالمعنى ألأفلاطونى ، وأهمية المقارنة بين الحاكم فى تقاليدنا السياسية والحاكم فى النظم السياسية ألأكثر تقدما وديموقراطية فالحاكم المستنير المقصود به الحاكم الذى يكون ملما بكل ألأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية لبلاده ، ويكون منفتحا على العلم والعالم من حوله ، أى بإختصار شديد الحاكم المستنير هو الحاكم الذى لا يستبد برأيه وكأنه الرأى ألوحيد والأخير بل يكون رأيه محصلة مشاركة ومساهمة من قبل العديد من المؤسسات التى تساهم فى صنع الراى والفكر وهنا يبرز دور الخبراء والمتخصصين ،وتوسيع دائرة المشاركة فى صنع السياسة العامة ، وهدف هذه المشاركة فى النهاية هو الوصول إلى أفضل القرارات والتى تصب فى المصلحة الوطنية ، وتخلق الإنطباع بالمسؤولية العامة فى إتخاذ هذه القرارات ، وهذا ينقلنا إلى المقارنه بين الحاكم فى تقاليدنا السياسية والدول الأخرى ، ففى الدول الديموقراطية ينتخب ويختار الحاكم فى إنتخابات تنافسية بين أكثر من مرشح لكنه وحتى بعد إختياره يعمل وهناك من يراقبه وقادر على مساءلته ومحاسبته ، وعلى الرغم من ألرئيس فى هذه النظم قد يملك من الصلاحيات والسلطات ما يجعله مستبدا فى رأيه إلا أنه لا يتخذ قرارة بمفرده ، بل يستعين بكل المختصين والخبراء ، وخصوصا اننا نعيش فى عالم معقد وشائك وتلعب المعومات والعلم دورا هاما ، فلا يوجد الحاكم المتخصص ، ونادرا ما نرى حاكما عالما ، والفارق كبير بين الحاكم السياسى والحاكم العالم ويمكن المزاوجة بين الإثنين . والمعضلة فى تقاليدنا السياسية أننا ننظر إلى المحكومين على أنهم على غير دراية وعلى غير علم ، ولا أريد أن أقول على جهل لأن العقل الجماعى يبقى أكثر رحابة وتفهما من العقل الفردى حتى لو كان عقل الحاكم . واخيرا بالإقلام تساس ألأقوام .
دكتور ناجى صادق شراب /أستاذ العلوم السياسية /غزه