أرشيف - غير مصنف
إيران والعرب: الأبعاد الاستراتيجية في «حرب التشيّع»
المغرب هو البلد الأول الذي يعلن عن إجراء حكومي رسمي، لكنه لن يكون بالتأكيد الفصل الأخير في الحرب الباردة التي تدور بين العرب وإيران منذ عودة آية الله الخميني الى طهران قبل ثلاثين عاماً. والأدلّة في كل مكان من «القارة» العربية الكبرى:
١ ـ في بادرة جديدة من نوعها اعترفت وزارة الشؤون الدينية في الجزائر بأن ما سمّته «ظاهرة التشيّع» في الجزائر باتت «تهدّد المجتمع في خصوصياته وكيانه»، مشيرة الى أن «رفض التشيّع في أوساط الجزائريين سببه تمسّك الجزائر بثوابتها الدينية». وهذا التصريح لم يصدر عن رجل دين جزائري عادي، وإنما عن مسؤول كبير في الوزارة، وقد نقلته قناة الجزائر الثالثة الفرانكوفونية، بعدما ضبطت أجهزة الأمن الجزائرية ـ والكلام هنا للمسؤول نفسه ـ العديد من الكتب التي تدعو الى التشيّع، وأشرطة مسجّلة مصدرها سورية ولبنان.
وليست أول مرّة تكشف فيها وزارة الشؤون الدينية الجزائرية مثل هذه النشاطات، إذ سبق أن أعلن في العام الفائت عن وقف عشرات المدرّسين الجزائريين، بعدما ثبت أنهم يلقّنون تلامذتهم المذهب الشيعي و«يحرّضون الطلبة على التمسّك بهذا المذهب» مقابل تحسين علاماتهم المدرسيّة، وكانت تلك فضيحة حقيقية ضربت المؤسّسة التربوية في الجزائر وأطلقت عليها الأحزاب المعارضة في حينه عبارة «حرب التشيّع».
القضية الجديدة، تقول وزارة الشؤون الدينية، ليست بسيطة، لأنها تشكّل خطراً على كيانات المغرب العربي كلّه، والتشيّع مرتبط بما يمكن أن تحدثه إيران من خلل في كيان المجتمع الجزائري، قبل أن تضيف: إن الجزائر ليست إيران ولا يمكن أن تكون. وتقول أوساط جزائرية أمنيّة إنه في حال استمرار هذه النشاطات، فإنه لا بدّ من اتخاذ إجراءات حاسمة قبل أن تولد في الجزائر حركة شبيهة بـ«حزب الله» اللبناني تزيد الطين بلّة، كما جاء في صحيفة «الوطن» الفرانكوفونية.
٢ ـ الظاهرة مصرية أيضاً. هذا على الأقلّ ما يقوله الاعلام المصري وعدد من العلماء المصريين. قبل انتهاء العام ٢٠٠٦، وبالتحديد في ٢٤/١١/٢٠٠٦ نشرت «المصريون» (صحيفة معارضة) خبراً يقول، إن مجلّة «الحكومة الإسلامية» الشيعيّة الناطقة بالإنكليزية كشفت عن مساع يقوم بها بعض الشيعة في مصر، لاستصدار صحف خاصّة تتناول الشأن المصري والشؤون الدولية، على أن تقتصر المساحة المخصّصة للشأن الشيعي فيها، في بادئ الأمر، على صفحة واحدة كي لا يتمّ استنفار الأزهر. وفي ١٦/١٢/٢٠٠٦ نشرت «المصريون» خبراً آخر يقول، إن مجموعة من الشيعة المصريين تعتزم رفع دعوى قضائية ضد الرئيس حسني مبارك بصفته الشخصيّة من أجل الاعتراف بهم، استناداً الى المادة ٤٦ من الدستور، والمادة ١٨ من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كما ستطالب الحكومة بإعادة «جمعية الشيعة» التي أغلقت عقب ثورة تموز (يوليو) ١٩٥٢، وكانت تعرف باسم «جمعية آل البيت». هذا بالاضافة الى المطالبة بإنشاء مساجد خاصّة بالشيعة، وإقامة الحسينيّات ومجالس الشيعة، والسماح للشيعة بالمحاضرات السياسية والدينية.
هذه المعلومات تفاعلت بقوّة في الأشهر الأخيرة. ذروة هذا التفاعل تمثّلت في دخول الداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على خط المواجهة. فقد تحدّث القرضاوي عن محاولات «الغزو الشيعي للمجتمعات السنّيّة»، وأصرّ على هذا الطرح، وحذّر من «تنامي المد الشيعي في المنطقة»، ومحاولة الشيعة «غزو البلاد السنّيّة بمذهبهم بما لهم من ثروات وكوادر بشريّة مدرّبة على التبشير». ومما قاله: إنهم مهيّأون لذلك، خصوصاً وأن العلماء السنّة لم يحصّنوا الأتباع من الغزو الشيعي. وتابع في حديث الى صحيفة «المصري اليوم»: للأسف وجدت في مصر مصريين شيعة، وقد حاول الشيعة على مدى عشرات السنين أن يكسبوا سنّيّاً واحداً ولم ينجحوا. وأضاف: أدعو علماء السنّة الى التكاتف ومواجهة هذا الغزو، لأنني وجدت أن كل البلاد العربية هزمت من الشيعة.
ومعروف أن حملة القرضاوي أثارت ردود فعل حادّة لدى علماء الشيعة، وعندما انتقد المرجعان السيد محمد حسين فضل الله وآية الله محمد علي تسخيري كلام القرضاوي على أساس أنه «تحدّث بلغة النفاق والدجل»، ردّ القرضاوي على التسخيري قائلاً: لقد عشت حياتي كلّها أدعو الى توحيد الأمّة الإسلامية، وإن لم يكن توحيدها، فعلى الأقلّ التضامن فيما بينها، وقد أيّدت دعوة التقريب وشهدت مؤتمراتها وقدّمت إليها بحوثاً مهمّة. وقد رأى عدد من المراقبين في حركة القرضاوي ضد الطائفة الشيعيّة، محاولة للامساك بالجمهور السنّي العريض الموال
ي لـ«القاعدة» قبل أن ينصرف بعيداً عن الحظيرة، وكان رئيس اتحاد علماء المسلمين يريد أن يكون هو نفسه الوريث الشرعي لـ«القاعدة» وأسلوبها، وأخذ عليه بعضهم أنه يشعل حربها في غير وقتها، وأن تصريحاته توقظ فتنة بين المسلمين وتهدم جدران الوحدة الإسلامية، فضلاً عن أنها تخدم مخطّطات الأعداء في التشكيك بـ«حزب الله» وتفكيك الصف الإسلامي.
ي لـ«القاعدة» قبل أن ينصرف بعيداً عن الحظيرة، وكان رئيس اتحاد علماء المسلمين يريد أن يكون هو نفسه الوريث الشرعي لـ«القاعدة» وأسلوبها، وأخذ عليه بعضهم أنه يشعل حربها في غير وقتها، وأن تصريحاته توقظ فتنة بين المسلمين وتهدم جدران الوحدة الإسلامية، فضلاً عن أنها تخدم مخطّطات الأعداء في التشكيك بـ«حزب الله» وتفكيك الصف الإسلامي.
وللخلاف جذوره التاريخية، ذلك بأن التباينات المذهبيّة بين السنّة والشيعة قائمة، ثم إن الشيعة ينتظرون حدثين بارزين، ظهور الإمام المهدي (ع) وأن يحسم بظهوره الخلاف بين المسلمين ويجمعهم على صراط الله المستقيم. والحدث الثاني نزول السيد المسيح (ع) من السماء وهدايته المسيحيين واليهود الى حقيقة كونه عبداً لله ورسوله، وسيكون لنزوله وخطابه أعمق الأثر، وسيعمّ التوحيد ببركة الإمام المهدي والسيد المسيح كل الكرة الأرضية.
في أي حال، وبصرف النظر عن الاجتهادات الدينية، ليس هناك من يستطيع أن يتجاهل أن العرب وإيران يعيشان حرباً باردة حقيقية، وأن إيران متقدّمة في هذه الحرب، ومحاور التهديد تشمل التدخّل في شؤون العرب الداخلية والطموح النووي والموقف من عملية السلام. دراسة نشرها «المركز الديبلوماسي للدراسة الاستراتيجية» (٨ آذار/مارس ٢٠٠٩)، تقول إن الاستراتيجية الإيرانية تتحاشى التعامل مع العامل العربي ككتلة واحدة، وتصرّ على التعامل مع كل دولة على حدة. كما أن إيران تدير معسكرات الرفض والمعارضة في الدول العربية، وتنضوي تحت هذا التوجّه «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله»، مما يؤدّي الى ضعف الحكومات المركزية في العالم العربي. تضيف الدراسة: إن إيران تعمل على تشتيت جهود الجامعة العربية في بلورة موقف عربي موحّد، عن طريق سعيها الى إقامة علاقات حميمة جدّاً مع سورية والسودان، وفي الوقت نفسه هي تصف دولاً عربية أخرى بأنها «الشيطان الأصغر»، ولا ترى ضرراً من قطع العلاقات معها لسنوات طويلة.
نقرأ أيضاً في الدراسة: عندما حلّت كارثة غزّة، عملت إيران على تشويه مواقف الحكومات العربية، ولم تتردّد في انتقادها دول الاعتدال العربي بشكل موجع، وقد ندّدت الصحف الإيرانية بما سمّته «خيانة بعض الدول العربية»، متّهمة إياها بالتقاعس حيال الهجوم الإسرائيلي على غزّة، فتحوّل الموقف العربي بصورة مفاجئة من الصمت الى الهجوم المضاد.
وما يجري على الجبهة العربية ـ الإيرانية هذه الأيام، يشبه حرب الاسترداد الإسبانية التي تمّ فيها اكتساح المد العربي، فسقطت غرناطة في العام ١٤٩٢. والاختلاف الديني كان المحرّك الأول لتطوّر الأحداث في تلك المرحلة. وما صرّحت به المملكة المغربية في ردّها على إيران قبل أسبوعين، من أن المذهب السنّي هو المنتشر وهو المقبول من أهل المغرب، يتقاطع مع حديث القرضاوي عن اتّساع المدّ الشيعي في المنطقة.
تضيف الدراسة: إن تداعيات كارثة غزّة أدّت الى خلط الأوراق العربية ـ الإيرانية بشكل غير مريح، والتقارب المفاجئ الذي يتّخذ شكل مصالحات هنا وهناك وهنالك قد يكون إحدى نتائج هذا الخلط، باعتبار أن الرابح الأول من الخلافات العربية ـ العربية، كما من الخلافات العربية ـ الإيرانية، هو إسرائيل، ولا بدّ من إعادة فتح القنوات العربية كلّها، كما لا بدّ من حوار مع طهران من أجل تحويل الجغرافيا والدين والتاريخ الى عوامل تقارب عربية ـ إيرانية، لا الى عوامل تباعد تصبّ في سياق «حرب الاسترداد العربية» هذه المرّة >
«المشاهد السياسي»