أرشيف - غير مصنف

"وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر"

رشا عبدالله سلامة

   لم يبرهن يوما بيت الشعر "وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر"، أنه ليس مجرد "كليشيه" متداول، بالقدر الذي تمكن فيه من برهنة ذلك في اليومين السابقين؛ ليتجلى كأيقونة حكمة ذات شجن فلسطيني خاص..
 
في ذكرى استشهاده الواحدة والعشرين، عنّ محيا القائد الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) على ذاكرة المسجد الأقصى المثقلة بالأحزان كما باحاته، تماما مثلما عنّ على بال جلّ الشعب الفلسطيني، لتنساب على ألسنهم بعفوية: "وفي الليلة الظلماء افتقدناك يا خليل الوزير"..
 
ليس خليل الوزير وحده من لاح في خلفية مشاهد انتهاك حرمة الأقصى للمرة الألف ربما، بل وكذلك جموع رفاقه من رعيل المجاهدين والفدائيين الأوائل، والذين أخذوا معهم، لحظة وداعهم الحياة، كثيرا من بريق القضية الفلسطينية الذي كان في مستهل عهدها..
 
في اليومين الماضيين، لم يطعن القلب بربرية المتطرفين الإسرائيليين، بالقدر الذي طعنه غياب أو غيبوبة القيادات الفلسطينية الحالية، والتي أضاعت بلفتة عين مجدا شيّده أسلافها مرصع بعبارة "الثورة الفلسطينية"..
 
اليوم، بتنا نشهد التبرأ الكلي من تلك الحقبة المشرقة من تاريخ النضال الوطني الفلسطيني.. غدت أسماء الثورة اللامعة وإرثها العطر مستبعدة ومقصاة من أي خطاب فلسطيني.. غدت العمليات الفدائية الخالدة في أنحاء المعمورة كلها، غدت في عيون القيادات الحالية محض طيش لا يختلف في شيء عن طيش المراهقين.. الأغاني الثورية صارت هلوَسات.. الدرر الأدبية التي حاكت المأساة بكلمات وأبيات خالدة أضحت شعارات لا قيمة لها.. وحتى الكوفية الفلسطينية التي لطالما تلفّعت بها تيريز هلسة وليلى خالد وريما طنوس وفاطمة برناوي ووديع حداد وكارلوس وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وغيرهم كثر، غدت كوفياتهم رمزا للإرهاب ولتهمة "فلسطيني" المعممة على محافل العالم كلها..
 
وحتى أولئك ممن عاشوا وعايشوا العمل الفدائي الفلسطيني وجراح الثورة الفلسطينية وخيبات آمالها الكثيرة، انقلبوا الآن عليها، وباتوا من زمرة المتحاملين، عوضا عن الدفاع عنها والنقد البنّاء لها..
 
كيف خبت جذوة الثورة بكل تلك السرعة؟ وكيف سهلت التضحية بدماء الفدائيين ودموعهم وخوفهم وبردهم وجوعهم وعطشهم؟ وكيف مات فينا على حين غرّة إرث عبد القادر الحسيني وأحمد الشقيري وتوفيق زيّاد وعبد الرحيم محمود وغيرهم كثر ممن عرفنا وممن لم نعرف؟ كيف اخترنا الانقلاب على كل ما صنعوه تحت ذريعة الوهم المسمى "الواقعية السياسية" و"المفاوضات"، فخسرنا حينها الكثير من حلم الوطن ومن احترام العالم وانحنائه لنا إجلالا رغم تآمره علينا؟ وكيف سمحنا لذواتنا أن نربط مصير الثورة بمصائر الأمكنة والكيانات، فأضحت الثورة التي تحمل طابع اليسار خجلة منكسرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأضحت الثورة المنبثقة عن اليمين متبرأة من إرث رفاقها اليساريين العطر، عوضا عن صهر التجربة والمشاريع الثورية كلها في بوتقة فلسطين؟
 
كثُرَت الاصطفافات.. والمصالح.. والخيانات.. والفساد.. والأكاذيب؛ فما كانت النتيجة إلا انكسار بوصلة القدس، وضياع إرث الثورة في مهب الريح، والاكتراث بكلفة بناء قصور القيادات الفلسطينية في باريس بدلا من شد عضد المخيمات الفلسطينية في الوطن والشتات، والوقوف عند جزئية أي القدمين ندخل بها لقضاء الحاجة بدلا من تسخير الدين كقوة حشد كبيرة للنضال.
 
تآمر الكل.. غدت القضية الفلسطينية تماما كما الدين، حافلة عمومية مجانية يستقلّها كل من هو على قارعة الطريق؛ للوصول إلى وجهته التي يفصلها عن المصلحة الوطنية الفلسطينية بون شاسع..
 
كم نتوق في أيام كهذه لعقل مدبر كعقل صلاح خلف (أبو إياد).. ولاستراتيجيات تنفيذية للعمل الفدائي كتلك التي أبدع بها خليل الوزير.. ولجرأة وإقدام وقوة قلب دلال المغربي ويحيى عياش.. ولصخب وحماسة جورج حبش.. ولروح المقاومة المتقدة في أشعار محمود درويش الأولى، ولريشة لاذعة كريشة ناجي العلي.. ولألوان حزينة ممتزجة بدماء النكبة كما في لوحات إسماعيل شموط وتمام الأكحل.
 
لم يحدث يوما أن تحرر شعب ما بالمفاوضات ولا بالانقسامات التافهة أيا كانت ذرائعها.. لم يحدث يوما أن تحرر شعب إلا بالثورة والنضال، لاشيء آخر غيرهما..
فلننفخ الروح من جديد في رفات الثورة الذي دفنّاه بأيدينا، علّ الليلة الظلماء تنقشع بلا عودة، لنعود لغناء واحدة من روائع فرقة العاشقين الثورية: "طلعنا من دموع الفقرا و زند الفلاح.. علّينا الراية الحرة و جينا ثوّار".
 

زر الذهاب إلى الأعلى