تغريبة ابراهيم بن المهلهل

وليد رباح
في سالف الزمان الذي كان .. وربما مضى عليه اربعون سنة كاملة .. كان هنالك شاب يدعى ابراهيم .. فلسطيني ارتحل الى السعودية لكي يبني حياة جديدة .. سمع بالريالات ونقود النفط فظن ان الوطن العربي جنة الله على ارضه .. وكانت الاذاعات العربية وقتها لم تزل تحكي عن نكبة فلسطين .. ووقوف الحكومات الى جانب الشعب الفلسطيني . بالاضافة لذلك فقد كانت الاذاعات تغني ( يا فلسطين جينالك ) و ( يا ام العبايا .. حلوه عباتك) و ( على النجده هيا يا رجال ) و ( سمراء من قوم عيسى .) وصدق المسكين الحكايه .. وانطبعت في ذهنه على انه جد لا هزل .. فشد رحاله الى ( حيث الثروة )
وفي الطريق الى حيث يريد .. كان يحول الريالات في ذهنه الى دنانير اردنية لكي يحسب ما يمكن ان يجمعه في خلال سنة او يزيد .. وكان خياله واسعا لدرجة انه بنى دارا واشترى ارضا وتزوج وعلم اطفاله ونبغ احدهم في الطب فاصبح طبيبا متخصصا والاخر مهندسا والثالث معلما والرابع مديرا لاحدى الدوائر حتى بات الرجل حكومة باكملها .. وافاق من ظنونه وخياله فاذا بالسائق يخبره ان الوقت قد حان للنزول ..
على حدود السعودية .. حيث الصحراء تمتد امامك مثل الطوفان .. تناول الشرطي جواز سفر ابراهيم ثم تفحصه بشىء من القرف وقال : وثيقة سفر فلسطينية ؟ من هو الحمار الذي سمح لك بالقدوم الى المملكه ؟ فرد ابراهيم على الفور بشىء من السذاجة .. سفيركم يا سيدي .. جئت بناء على كفالة اصدرها سعودي من اب وام سعوديه .. وهو مشهور في بلادكم ويدعى الشيخ  ( هلفوت)( وهذا اسم وليس شتيمه) ..  هل تعرفه يا سيدي .. رد الشرطي بشىء من الاستعلاء والقرف : كلا لا اعرفه .. وعلى اية حال فان جوازك ممهور بفيزا من سفارتنا في عمان .. ولك الحق في ان تدخل سواء بعت ارضك لليهود ام لم تبعها .. سلمت ارضك لبن غوريون ام لم تسلمها .. فلا دخل لي في ذلك .. وسكت ابراهيم لانه راى في يد الشرطي عصا ممشوقة مثل عود الخيزران .
في ضواحي الرياض نزل ابراهيم من السيارة .. ثم فتش في جيبه ليعثر على ورقة صغيرة بها عنوان الشيخ هلفوت .. بحث عنه في متجره الكبير حتى وجده .. كان ابراهيم يتوقع التأهيل والترحيب بعد الرحلة الطويلة التي قطعها وهو يمني نفسه بالثروة والبدء بالعمل .. ولكن الشيخ هلفوت قال له بقرف شديد .. عليك بالصبر والصلاة والانتظار .. فقد افتتحت مشروعا جديدا للمقاولات وسوف ابدأ عما قريب ..
لم يجلس ابراهيم في الغرفة التي استؤجرت له مع ستة عمال من المصريين سوى شهرين .. بدأ بعدها العمل كسائق في مشروع الشيخ هلفوت الجديد .. وخلال انقضاء شهر من الزمان .. ادرك الشيخ هلفوت ان ابراهيم ميكانيكي جيد .. فعرض عليه ان يعمل ميكانيكيا بدلا من عمله في السياقه .. فوافق ابراهيم على الفور .. واصبح ابراهيم ميكانيكي المشروع الكبير الذي يحوي ما ينوف على خمسين سيارة من النوع الكبير ..
وظل على حاله سنة كاملة .. فانتهى المشروع ولكن يد ابراهيم الماهرة في تصليح السيارات جعلت العديد من المتنفذين يتخطفونه حتى قرر اخيرا ان يفتتح كراجا خاصا له بكفالة احد السعوديين شرط ان يعطي ابراهيم لذلك الكفيل خمسين الف ريال سنويا .. فوافق ابراهيم على ذلك
في السنة الاولى ازدهرت اعمال ابراهيم فاخذ يوظف العمال العرب في كراجه .. يأخذ جوازات سفرهم ويعطيها للكفيل فيقوم الاخير باجراء اللازم من حيث منحهم الاقامات اللازمة للعمل .. وانقضى على هذا الحال عشر سنوات .. واصبح ابراهيم من اشهر اصحاب الكراجات في المملكه .. يأتيه القاصي والداني وكأنه طبيب ماهر في معرفة الامراض التي تعاني منها سيارات الناس .. وتطور به الامر فسمع به بعض الامراء فاخذوا يحضرون له السيارات من كل صنف ولون لاضافة ما لم يكن مضافا من الكماليات اليها .. وغدا ابراهيم غنيا يلعب بالريالات مثلما يلعب الاطفال بالحصى .. وبنى امبراطورية ميكانيكية ليس لها نظير هناك .. كل ذلك والخمسين الف ريال تعطى سنويا للكفيل لقاء منحه وعماله الاقامة اللازمة ، اي بمعنى ان الكفيل او من ينوب عنه يعمل يوما واحدا في السنة فيذهب الى دائرة الهجرة والجوازات لمنح العمال اقامات سنوية جديده .. ثم يتقاضى عن اليوم الذي يعمله خمسين الف ريال حلالا زلالا ..
وفي يوم عيد .. قام ابراهيم بوضع النقود في مظروف وذهب ليقول للكفيل كل عام وانت بخير .. وبعد ان شرب قهوته المرة ناول المظروف للكفيل فرفض هذا بحجة ان الزمن تغير وان الخمسين الف ريال لا تساوي شيئا .. وطلب منه ان يعطيه مائة الف ريال لقاء كفالته له .. او مغادرة المملكة الجنه .. ولكن ابراهيم لم يكن يمتلك في ذلك اليوم من النقود سوى ما معه .. فطلب من الكفيل الانتظار بضعة ايام اخرى لكي يسحب له المبلغ من البنك او يستدينه من احد الناس .. فقال الكفيل انه يعطيه ثلاثة ايام لفعل ذلك .. فان لم يستطع فاولى به ان يترك كل شىء مكانه ويغادر المملكة بسلام .
ولم يمض على العيد سوى ثلاثة ايام حتى جاء ابراهيم صباحا ليفتح كراجه الكبير .. ولكنه فوجىء بوجود اولاد الكفيل الثلاثه يقفون على باب الكراج ويطلبون منه المفاتيح لان الكراج يعود اليهم .. وان المهلة التي اعطاها والدهم لابراهيم قد انقضى اجلها .. اذ كان يفترض ان يأتي بالمبلغ كاملا بالامس وليس اليوم .. ولما حاول ابراهيم افهامهم ان الدوائر في العيد لا تفتح ابوابها .. وان البنوك تعطل فلا يستطيع سحب النقود جوبه بالضحك والاستهزاء .. وهكذا وبعد نصف ساعة كانت الشرطة تق
ف على باب الكراج لتقول لابراهيم عليك بترك الكراج لاصحابه . اذ سحب الكفيل كفالته لك ومطلوب منك ان تغادر المملكة خلال سبعة ايام .. ثم سحب على وجهه الى مركز الشرطة وتم ختم جواز سفره بالمغادرة قسرا ..
حاول ابراهيم ان يدور في شوارع الرياض بحثا عمن يقوم بالتوسط له .. ولكن الجميع اغمض عينيه على تلك (الجريمة النكراء) فلم يمد له احد يده بالمساعده .. خاصة وان الشيخ الكفيل ينتمي في اصوله وفروعه الى (طرف قرابة) لامير زنديق ربما كان اسمه سحتوت .
عاد ابراهيم الى الاردن بعد غياب دام خمسة عشر عاما في صحاري السعوديه وهو خاوي الوفاض .. لا درهم لديه ولا دينار .. لا ريال ولا دولار .. وكانت السيارة تذرع الارض في الصحراء وابراهيم يفكر طويلا في ما آل اليه حاله .. حتى سيارته الجديدة التي كانت تقف امام الكراج استولى عليها الكفيل .. وها هو يعود الى اهله بعد خمسة عشر عاما راكبا سيارة اجرة .
اما عن احلامه فقد تبخرت وذهبت ادراج الرياح .. لم يتزوج ابراهيم ولم يستطع ان يجعل اولاده من خريجي الجامعات .. وكان ابراهيم يطوف شوارع عمان تعسا حزينا .. وكلما سمع اغنية من مذياع عربي تحكي عن العروبة والاخوة .. كان يهجم على المذياع ويكسره فتلقي الشرطة القبض عليه بحجة اتلاف ممتلكات الناس .. وهكذا اصبح زائرا دائما للسجون بدءا من سجن المحطة في ذلك الزمن وانتهاء بمعتقل (الخرانه) مع تشديد الراء ..
هكذا انتهت تغريبة ابراهيم الفلسطيني الذي حلم بالثروة في بلاد النفط الى مستشفى الامراض العقلية في الفحيص بالاردن .. حيث يتعلم هناك كيف يصلح لعب الاطفال التي يؤتى اليه بها على شكل سيارات ولوريات كبيره .. وكل عام والعرب بالف خير .  
 
 

Exit mobile version