أسامة عبد الرحيم
– قد نختلف وقد نتفق على مشروعية الغناء والموسيقى ولكن ليس هذا ما نحن بصدده الآن ، وسواء شئنا أم أبينا فقد أصبحت الموسيقى والغناء أحد أدوات التعبير عن واقع مجتمعاتها التي انطلقت من حناجرها.
وعادة الشعب المصري أن يعبر عن انتصاراته قديماً بالأغاني، وكذلك نكباته حديثاً بذات الوسيلة، ويحق لنا أن نسجل بإعجاب شديد ما أكده العلامة ابن خلدون في مقدمته من أن الموسيقى هي آخر ما يحصل في العمران الحضاري، وهي أول ما ينقطع من العمران عند اختلافه وتراجعه.
نعود إلى الحالة المصرية ونضعها تحت مجهر ابن خلدون، فثمة غناء سياسي يمجد حاكم وهو امتداد لحالة الشعراء قديماً في تملق الحكام، رغبة في العطايا والمنح التي تقتطع عادة من خزينة المال العام، حيث يعتبر الحاكم الشعب ميراثه الطبيعي من والده، ولا حرج من الإنفاق مقابل النفاق ولسان حاله يردد "البيت بيتك".
وثمة لون جديد من الغناء من الممكن أن نصطلح عليه بالغناء تحت الإكراه، وفيه يتم مصادرة إرادة الشعب قولاً واحداً في إقرار "غنائي" تحت القهر المادي والمعنوي، ومن أمثلته قصيدة "اخترناك وبايعناك " التي اختزلت إرادة الشعب وفق رغبة الحاكم في البقاء.
هذا المناخ العبقري لتخلف العمران وتراجعه كما قصده ابن خلدون، أشاع حالة من الاكتئاب بين الشعب وأثمر تربة بشعة للموت الجزعي لخلايا عقله وتفكيره، علاوة انه جعل أفراده عبارة عن جثث هامدة تمشى مترنحة على الأرض.
ولربما قصد ابن خلدون بعبقريته تلك أن الموسيقى والغناء لغة تعبير إنسانية عامة، لها مقوماتها الأساسية وتكويناتها المادية والروحية، وتفترش المساحة الفاصلة مابين وسيلة التعبير وغاية التعبير، ولذلك جعلهما ابن خلدون خطاً بيانياً طردياً يدل على حركة المجتمع ضمن خطى متوازية أخرى تمثل الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وبحسب نظرية ابن خلدون عند تطور المجتمعات اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، يتغلب لديها البعد الفني التعبيري الراقي ويفوز بمساحة كبيرة من التثاقف، أما حين تنحدر حركة المجتمع نحو قاع التخلف، فالأمر ينعكس سلباً حيث نجد من يغني "للعنب" وباقي أصناف الخضار، ومن يحتفي بعشقه "للحمار" ومن يقص علينا رحلته في تعاطي "البانجو".
ولعله من مناخ حرية الإفساد أن يجبر المواطن على سماع هذه النفايات في وسائل المواصلات وعلى رأسها الميكروباص، فتتحول وسيلة المواصلات إلى آلة تعذيب سمعي ونفسي تساعد في طمس كل ما هو جميل وراقِ، وتفسح الطريق لنشر ما هو مبتذل ورخيص، يساعد الإعلام – عن عمد- على الترويج له لتسقط ثقافة جيل كامل تحت عجلات الميكروباص .
الإيحاءات الجنسية والانتهازية واللامسؤلية أصبحت وجبة عسيرة الهضم عليك سماعها في الميكروباص، وأن تدعم بصمتك – خوفاً من السائق المسطول غالباً- منتجيها ومروجيها، ليتكون لدينا واقع نتحاشى الخوض فيه رغم خطورته الكبيرة كميزان ثقافي وبيان سلوكي يومي للمجتمع.
ومن المعلوم أنه عندما يمر شعب في فترة حرجة من تاريخه، يتخللها الهزائم والتخلف في كل نواحي الحياة، تشكل تلك الفترة أبعاد خطيرة على البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا يتطلب بدوره من المصلحين فيه عدم القفز على هذا الواقع دون معالجته أو على الأقل لفت الأنظار لخطورة الانحطاط فيه أكثر من ذلك.
إن الخراب الثقافي هو آخر حجر يسقط من البناء العمراني وفق نظرية ابن خلدون، وفي ذات الوقت هو آخر ما يمكن لشعب أن يشاهده قبل التحلل الكامل والاندثار، ويأتي في ذيل خراب سياسي واقتصادي وآخر اجتماعي.
ولاشك من أن سلطات الإعلام تلعب دوراً مهما في تشجيع هذا الخراب تواصلاً مع الثالوث الشيطاني (الشاعر، الملحن، والمطرب) من خلال غض الطرف الرقابي عن نتاجاتهم وفعالياتهم، لتكتمل منظومة التغييب والإغراق في السطحية وتهميش الوعي على جميع المستويات.
ولكي تكتمل الصورة أمامك أيها القارئ العزيز أحيلك إلى لغة الأرقام التي تكشف عن هذه الغيبوبة الفكرية، حيث أكد تقرير لجنة الصحة بمجلس الشعب أن المصريين أصبحوا ينفقون الآن ما يقرب من 18 مليار جنيه سنويا علي تعاطي المخدرات، وأن في مصر الآن سبعة ملايين شخص يتعاطون المخدرات بأنواعها.
وتتلاحم الأرقام مع الدعوة الغير مباشرة إلى تعاطي المخدرات خلال كلمات الأغاني وموسيقى الغيبوبة المصاحبة لها، حيث تقول الإحصائيات ماهو أخطر من ذلك مؤكدة انخفاض سن المتعاطين للمخدرات ، فبعد أن كانت 24 سنة أصبحت 10 سنوات فقط أي أن هناك أطفالا بنسبة كبيرة أصبحوا يتعاطون المخدرات ، وأن الفتيات اللاتي يتعاطين المخدرات ارتفعت نسبتهن أيضا بشكل خطير ومرعب حيث أصبحن يمثلن 20٪ من الطلاب .
ولبيان العلاقة بين تعاطي السماع وتعاطي المخدرات نشير إلي الحفلات الفنية الجامعية علي سبيل المثال، والتي يتجمع فيها الطلاب في غيبوبة شبه كاملة تجمع بين الكلمة المروجة للمخدرات والتعاطي ذاته وفي مقدمته نبات البانجو.
تقول إحدى الأغاني التي وافقت عليها الرقابة وأجازتها للتداول تحت عنوان "ولع وبان" : " أنا شارب سيجارة بني بني بني حاسس إني دماغي بتاكلني، قاعد ف الحارة بسقط بسقط بسقط، والغسيل عمال بينقط، والشارع اللي ورايا ادامي، والكلام ع طول ف لساني باجي أتكلم بتلخبط، يا عم ولع يا سيدي ولع، كوكا كوكا كوكا جو جو جو جو "..!
الموضوع جد خطير ولابد للجميع أن يشترك في مواجهة هذا الانهيار، ليس من الناحية الأمنية فقط بل من خلال كل قطاعات المجتمع من أسرة ومنظمات مجتمع مدني والإعلام والتربية والتعليم والجامعات، لابد أن نضع نصب أعيننا أنها حالة مرضية يمر بها المجتمع ولابد من علاجها، وأن يتدخل القانون وتشرع عقوبة الحبس بالإضافة للتوعية الدينية والإرشاد.
وكما اجتهدت الحكومة في سن قوانين المرور و شددت في التفتيش على أحزمة الأمان وحقيبة الإسعافات جباية للأموال، لابد أن تسن أخري تحظر وضع مشغلات الصوت في سيارات الميكروباص على وجه الخصوص والأجرة عموماً، ومن يخالف يعاقب بالحبس أو الغرامة وسحب رخصة القيادة بالإضافة إلى مصادرة مسجل السيارة وسماعات الأستريو .
كما على وزارة الداخلية منع ظاهرة الـ"DJ" المنتشرة في شوارع مصر خصوصاً في حفلات الزفاف و"التنجيد" الذي يسبق العرس بأيام، وفيها يجبر السكان المغلوبون على أمرهم على سماع أقذر الألفاظ، وما يصاحب ذلك من تعاطي المخدرات والاتجار بها، فضلاً عن تعليق أثاث العروس من بطاطين وخلافه، حتى بلغ الانحطاط في بعض الأحيان إلى تعليق ملابس العروس الخاصة جداً..!
علينا أن نتحلى جميعاً بالشجاعة لمعالجة هذا الواقع المر، والقضاء على ظاهرة ثقافة الميكروباص بين أفراد المجتمع؛ وإلا سيزداد الخطر أكثر وأكثر، ولابد للسلطات – في المقام الأول- أن يكون لها دور أكثر من ذلك؛ لأنها مازالت بوابة الأمان الأولي في مواجهة هذا الخطر .
—
أسامة عبد الرحيم
صحفي مصري
Osama Abdul-Rahim
Egyptian Journalist
0020105276035