تأملات في مهب الريح (2)
***
مضينا نحو غابة قريبة، افترشنا الأرض والتحفنا السماء. كانت تلك لحظات، أذنت للتاريخ بالبدء بتسجيل مرحلة الرحيل نحو الهاوية. جدّي كان غريب الأطوار، كان على ما أظنّ بحراً في جموحه. كان يرقب بعينيه اللتين تماثلان الرادار كلّ حركة في المحيط. وكان يقبض على ساطور طويل وضعه بالقرب منه تحسبّاً من هجمات الضباع والذئاب والحيوانات الجائعة المفترسة. كان يصكّ على أسنانه، وفي تلك اللحظة شعرت بالشفقة على تلك الحيوانات، إذا وقعت فريسة بين يديه. لم يكن يحتاج إلى ساطور أو سكّين، وهو الذي تجاوزت قامته المترين.
كنت أهذي وكان لديّ حلم أخذ يكبر حتى شقّ السماء. أتعذب دون مناسبة، أبحث عن بقايا بؤساء هوغو،أولئك الذين ضلّوا السبيل في رحم روايته، وخلدوا في ذاكرة الإنسانية. تهرب لحظات الفرح على عجل. آه، ها هي الذاكرة تخونني مجدداً! جمعتُ بعضَ علاماتِ التعجّب، فانتحرت الفواصل قبل أن أطلق الرصاص على نقطة النهاية. ليس من الضروري فهم كلّ ما يُقال، أصبح المنطق أسير لحظة عابرة، وربّما علينا أن نأخذ درساً من دليلة، كيف تمكنت من قتل شمشون. الجواب يكمن بين فخذيها، حين يصرخ الجمال، يصمت المنطق ويصبح مغلوطا. وينطلق صاروخ وسط عتمة الليل، لم أكن أعلمُ بأنّ الضوء يسبق الصوت آنذاك! لهذا كانت الفراشات تضيء يا أمّي، قبل أن يقتلها صوت القلق. ضحكتُ حين لمعت السماء، كانت فلسطين تحترق، وجاء صوت ضجيج الدمار، سمعت صداه في غزّة، وكان العالم يحتفل بميلاد المسيح، صخب زجاجات الشمبانيا تفرقع، وفي عيني طفلة دمعةٌ ورصاصة.
لم أخشَ الضبع حين حلّ بيننا، ولكنّه هرب بكلّ ما أوتي من قوّة حين انتصب جدّي وركض خلفه، لم يكن يدرك الضبع في تلك اللحظة، كيف تأتّى لهذه الطاقة أن تندلق في ساقيّ هذا المارد. كان جدّي عندها يركض خلف سراب، لم يكن يرغب بإلحاق الأذى بالضبع المسكين، لكنه ذات الوقت، لم يكن قادراً على قضم قطع الصواريخ المنشطرة، لحظات قبل أن تحرق تلك الأرض الكالحة. عاد مقهوراً دامع العينين، وكنت أضحك، نظر إلى طفولتي وابتسم، ومنذ تلك اللحظة، بات يردّد "أنت نصف الدنيا يا صغير". ضاعت طفولتي يا جدّي، أصبحت أنت أسير التراب. نصف دنياك أنا، ودنياي تاهت بين رجع الكلام، والغبار العالق في أرض المطار.
هل أحتفظ بالمفتاح؟
غادروا، ما أن تصلوا إلى الشاطئ الآخر حتى يحين الوقت للعودة الميمونة. خاصة زوجات المقاتلين الذين لم يتمكنّوا من إطلاق رصاصة واحدة، وباتت مخازن السلاح تركة شرعية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، مشحّمة بزيوت خاصّة، ومعلّبة في صناديق من خشب.
غادروا هذه الديار، فالكرامة اندلقت عند مفارق الطرق. لماذا إذا تُحرقُ غزة بالنابالم؟ كنت أظن بأنّ الحريق ينتهي مع الاحتلال، لتبدأ مرحلة تطهير الروح من وزر الإبادة. لكن الإبادة مطهرٌ عقائديّ، أقرأه في عيون الجند المسلّحين بالصمت ونيّة إطلاق الرصاص على كلّ من يتحرّك ويعلن للملأ بأنّه قد وُلِدَ في رحم العتمة. أضع السماعات على أذنيّ، لن أسمح لعربدة الطائرات أن تسرق منّي هذه الأغنية. من يحسن الرقص فليتفضل إلى ساحة الرقص، توقّفت عن أداء تلك المتعة بعد محرقة غزّة، ولكن هذا لا يمنع من التصفيق الحارّ لمن يحسن التلوّي على صوت الموت والألم. هناك دائماً من يرقص وسط الدمار. أحبّك يا زوربا، لقد غلبت الهزيمة برقصة، وبقي أنتوني كوين مشاكساً بالرغم من لحظات العشق العابرة. لقد حان وقت الرحيل. قلت لحبيبتي بعد سنين: أكره حياة المخيّم، لأنّها تسرق خصوصيتي، لكنّني أحببت عيون سلمى السمراء، جارتي الحزينة هناك.