عيد العمال العالمي .. تجسيد الفكرة وسموها الإنساني
بقلم : زياد ابوشاويش
عندما سطر أؤلئك الثوريون وثيقة الحرية بدمهم من أجل حق العمال في يوم عمل من ثماني ساعات، وطالبوا بها لكل المهن والصناعات لم يتصوروا أن يومهم ذاك سيصبح اليوم الأهم للطبقة العاملة على مدار الزمن. كما لم يتخيلوا أنفسهم رموز التغيير الكبير نحو الحرية والمشاركة في الملكية ووقف الاستغلال. قبل الأول من آيار لعام 1886 بأكثر من عقد من الزمن كانت كومونة باريس قد هزمت وانتهى بها المطاف إلى متحف التاريخ ، لكنها ككل المنعطفات الثورية في التاريخ البشري وضعت الأسس الصحيحة لنضال الطبقة العاملة وممثليها من أجل مجتمع أكثر إنسانية ، خالي من الاستغلال والاستعباد. العمال هم بناة الحضارة الإنسانية على مر العصور والأزمان، ومع تغير أسلوب الإنتاج وشكل الملكية منذ عصر العبودية الأول وحتى يومنا هذا بقي العامل يقدم جهده وعرقه من أجل استمرار الحياة وتطورها باتجاه تقدمي، ويعطي مع هذا الجهد المثل والقدوة في الانضباط تجاه العمل وتجاه رأس المال على حد سواء، وبقي الأحرص على منح الإنتاج كل فرص النجاح حتى على حساب راحته ودمه وروحه في الكثير من الأحيان، ولم يخرج عن هذا الانضباط سوى عندما كان أرباب العمل يتجاوزون بظلمهم واستغلالهم كل الحدود المنطقية والأعراف الإنسانية. وحتى في ظل النظام الاشتراكي بصيغته السوفيتية قبل العمال الحد الأدنى للعيش من أجل بقاء التجربة الاشتراكية واستمرار الثورة التي قدمت لهم نظريا مفتاح الجنة الموعودة لعالم خالي من الاستغلال الطبقي، عالم تسوده قيم المساواة والحرية والسلام، عالم يذهب فيه العامل إلى عمله سعيداً ويعود فخوراً كما يقال وينافس به نظاماً رأسمالياً متطوراً وقادراً على تجاوز أزماته، نظام قادر على تفجير كل تناقضات المرحلة الانتقالية في النظام الاشتراكي بشكل عنيف وتقديم نموذج نقيض مخادع لكنه جذاب ويقدم للعمال ما تعجز عن تقديمه النظم الاشتراكية في مرحلة التكوين . لقد مرت ذات الأزمات والتناقضات في نهاية العصر الإقطاعي، فمع وصول مستوى الصناعات إلى استخدام المكننة والآلة البخارية كان التراكم الرأسمالي قد وصل إلى حدوده القصوى وأصبح في حاجة ماسة إلى تغيير شكل الملكية وأسلوب الإنتاج المسيطر، هذا التغيير الذي كان لابد أن يعبر عنه في قوانين جديدة تتناسب والتطور الحاصل، الأمر الذي قاد حتماً إلى ظهور قوانين الرأسمال الحديث من تنظيم لعلاقة العمال بأرباب العمل، أو بتظهير علاقة الطبقة الرأسمالية بالدولة وسيطرتها الكاملة على معظم مؤسسات البناء الفوقي، وخصوصاً الثقافة والإعلام وذلك لمنح الطبقة الحاكمة فرصة الارتقاء بالعملية الإنتاجية وإزاحة آخر بقايا النظام الإقطاعي القديم الذي بات يشكل كابحاً أمام المزيد من تراكم رأس المال وتطور الإنتاج . وعلى الرغم من كل الانتكاسات التي مرت بتاريخ النضال الطبقي الذي خاضه العمال من أجل المساواة والعدالة وما ارتكب في سياقه من أخطاء وتجاوزات فقد بقيت الأحلام التي راودت طلائعهم الثورية تراود مخيلة كل الناس بمن فيهم أؤلئك الذين يعيشون على هامش إنتاجهم، ويدرك الجميع اليوم أن تحرير الطبقة العاملة من عبودية رأس المال هو تحرير لكل الأمم والشعوب من أخطار الحروب بكل أشكالها، قومية كانت أم دينية ، اقتصادية أم ثقافية . إن سقوط التجربة السوفيتية قد أدمى قلوب كل المتطلعين لتحقيق العدالة والحرية على سطح المعمورة ، وقد تناولت الأمر عشرات الدراسات والتحليلات في الأسباب والعوامل التي أدت لهذا السقوط المدوي والمحبط، ولا يمكننا في هذا المقال أن نستعرض تلك الأسباب، ولكننا نستطيع القول أن القلعة قد سقطت من الداخل وكانت هزيمة التجربة في مواجهة لم يحسن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي إدارتها ولا استخدم الأسلحة المناسبة فيها، كانت حرباً على العقل والوجدان العمالي الاشتراكي المزهو بعدالة فكرته وإنسانيتها، وكانت هزيمة لوعي الشعب ولوعي طبقته العاملة على وجه الخصوص.إن الحديث عن الخلل في توقيت ثورة أكتوبر العظمى، والتشويش الهائل الذي تلمسه في نقاشات الكادر الحزبي حول تخلف لينين وتسرعه … إلى آخر المعزوفة حول ضرورة إعادة النظر في كل ما مثلته الثورة، إن هذا يشير بوضوح إلى نجاح الدعاية الإمبريالية والرأسمالية في توظيف الإرباك الذي جرى وثغرة البريسترويكا والجلاسنوست في ضرب القلعة من داخلها. وربما يقول قائل أن إعادة البناء والشفافية أمران حيويان لاستمرار الثورة ونجاحها … هذا صحيح ، لكن الأمر لا يعود كذلك عندما يفتح النقاش على التوقيت وصوابية الاختيار، بعد سبعين عاماً على انطلاق التجربة ونجاحها في إقامة دولة العمال والفلاحين بقيادة حزب العمال . إن تفريغ الثورة الاشتراكية من مضامينها عبر التشويه المتعمد لمؤسسها ومنطلقاتها وتوقيتها يمثل السلاح الأشد فتكاً بأي تجربة طالما لم تجد من يدافع عنها ليس بالشكل النظري فقط، بل أيضاً بتقديم النموذج المطابق لأفكار تمثل ذروة التقدم الحضاري والإنساني ، الأمر الذي افتقدته التجربة لسوفييتية أو فقدته إن شئتم في عقدها الأخير على الأقل . ولو تركنا التجربة السوفيتية جانباً وعدنا لطبقتنا العاملة في فلسطين و سورية، أو أي مكان على سطح الكرة الأرضية فإننا سنجد العمال الأحرص على الأمن والأمان الاجتماعي، ويأتي هذا الحرص من زاويتين، الأولى طبيعة العلاقة بين العمال وبعضهم البعض وإدراكهم ضرورة رسوخ هذه العلاقات واستقرارها لاستمرار العملية الإنتاجية، والثاني ارتباط مصلحة الطبقة العاملة بهذين الأمرين وضرورتهما لحياة كريمة ومستقرة لهم. ومن البديهي أن توفر الأمن والأمان يوفر الظروف المناسبة للاستثمار وإنجاز الأعمال وهذا يعطي العمال فرصتهم في توفير مصدر عيشهم وأسرهم. وفي ذات السياق نجد أن الطبقة العاملة هي الأكثر احتراماً لعقيدة المجتمع الدينية والأحرص على حرية ممارستها بعيداً عن التعليب والتزوير، وفي الشأن القانوني أيضاً تجد العمال الأكثر احتراماً للقانون وانصياعاً للعقد الاجتماعي المجمع عليه، وهم يفعلون ذلك طواعية لإدراكهم أهمية الأمر في تنظيم علاقتهم بأرباب العمل من جهة وبقوانين العمل المرتبطين بها معيشياً بخلاف طبقة الملاكين عقاريين كانوا أم صناعيين، أو حتى في مجال المعلوماتية الذين يتحايلون على القانون بهذه الطريقة أو تلك . العمال هم الأكثر انخراطاً في النضال الوطني الذي تخوضه الشعوب للتخلص من الهيمنة والاستغلال ، وفي الدول المستقلة حديثاً أو قديماً كان العمال هم وقود الثورة وأكثر المضحين من أجل انتصارها يؤازرهم في ذلك المثقفون الثوريون، وهم اليوم يتصدون ببسالة للطغمة الاحتكارية في واشنطن وحلفائها من المثقفين الليبراليين الجدد الذين يتوالدون كالطحالب في مجتمعاتنا العربية، ليزيدوا الهم على الهزيمة، ويطفئوا آخر شعاع يمكن أن يضيء ولو قليلاً من زوايا ليلنا المدلهم. وكما نلاحظ فان موت التجارب الثورية أو هزيمتها في الأعم يزيد الفكرة نضجاً ولمعاناً، وهذه عبقرية الفكرة، ولولا هذا ما تقدم الجنس البشري أي خطوة للأمام. إن ديالكتيك الفكرة والثورة، وتجسيدهما بدولة العمال والفلاحين، ثم هزيمة التجربة واندثارها(نتيجة أخطاء التطبيق والتغاضي عن ضرورة توفير مكانيزمات الدفاع عنها) قد مكن للفكرة وعمق أصولها الفلسفية، وزاد من تجلياتها وأنصارها على الصعيد العالمي. إن حبس الأفكار في قوالب جامدة حتى وان كانت ثورية للغاية لا يمكن أن يستمر بدون إبداع الحرية والديمقراطية الذي سعى إليه العمال عندما قدموا أرواحهم في ذلك اليوم المجيد من القرن التاسع عشر والذي بقي رمزاً لكل الطموح الإنساني المشروع بعالم تسوده العدالة . واليوم لم يعد يوم العمال العالمي أو عيدهم الكبير يوماً لدولة اشتراكية أو مجموعة دول، ولا حتى لطبقة العمال فقط بل أصبح يوماً لكل الناس ولكل الأمم، وسيبقى كذلك لان الفكرة التي جسدها ذلك اليوم الأغر ما زالت تمثل الطموح الإنساني الأكثر عدالة. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن انتصار هذه الفكرة وتجسيدها واقعاً عالمياً سيكون عاملاً رئيسياً في عودة الحق العربي بفلسطين والجولان، وسيجعل حل المسألة اليهودية أمراً ممكناً….وتهنئة من القلب لعمالنا الأشاوس . زياد ابوشاويش Zead51@hotmail.com
|