أرشيف - غير مصنف

المفاوضات تكشف العورات

عمــاد عــودة

 

المفاوضات تكشف العورات
دأب الكثير من الناس على تعريف السياسة بأنها فن الممكن , وهو تعريف أجده يصلح للضعفاء فقط فهو يعني بالضرورة أنك معذور فيما لم تحققه من أحلام شعبك , وينتج عنه فكر تبريري يتيح للبعض فرصة التنازل عن ثوابته الوطنية , والأدهى من ذلك كله انه يحول صاحبه الى مدافع عن قيم الإستحذاء والإرتهان لإملائات العدو ضاربا بعرض الحائط ثوابت شعبه الوطنية.
المطبلون لذلك سيجدون لك المخارج الشرعية على منوال لا يكلف الله نفسا الا وسعها وهذا حق يراد به باطل , وسوف يجد هذا المفرط في غوغاء شعبه ضالته المنشودة خصوصا اذا اضيف الى ذلك شيء من ضغط الراتب والرتبة ليتحول فخامته الى محرر واللص من أعوانه الى قائد ملهم قلما يجود الزمان بأمثاله .
أما الأقوياء فتعريف السياسة عندهم يختلف تماما فهي فن تحقيق الهدف وليس فن الممكن , والفارق بين التعريفين اكبر من ان لا يلحظه أحد , فالقوي لا يأبه بما يمكن تحقيقه في المدى القصير الا على سبيل المرحلة المؤدية الى كامل الهدف المنشود , وللقوي مرجعية لا يستطيع الإفلات من محاسبتها له على أفعاله فكيف بالذي يجعل من أوامر الله ونواهيه مرجعيته وميزان أعماله .
ميزان القوة والضعف لا يمكن قياسة بالأساطيل والطائرات والأموال فقط , فهي جميعا الى زوال ولنا في عشرات الحضارات البائدة خير مثال , القوة الحقيقية تكمن في شرعية الهدف وشرعية الأدوات المستعملة في تحقيقه , ولنا في الأنبياء والمرسلين الأسوة الحسنة , وقديما قالو ولا زال القول صحيحا بأن الحق لا يعرف بكثرة الأتباع ولا أظنه يعرف بحجم ما يملك هؤلاء الأتباع من متاع الدنيا على أهميتها .
المبرر الأكبر لدى فتح وبعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينيه عند الحديث عن أوسلو لا يعدو عن أن الثورة حاولت طويلا بكل الوسائل لكنها اصطدمت بجدر منيعة أكبرها الإنحياز الغربي للصهاينة مضافا اليه حالة الضعف العربي المستشرية , ربما يأخذ البعض بهكذا مبرر ويصوغ للثائر المتعب أن يجلس على كرسي الحكم حتى لو كان مصنوعا من عظام شهداء قدمهم بنفسه الى آتون الحرب, ولكن أن يلجأ صاحب هذا الكرسي الى منع البعض الآخر من شعبه من الإصرار على الثوابت وإكمال الطريق نحو التحرير فهو أمر لا يمكن تبريره الا باستعمال الفاظ قاسية من قاموس العمالة والإستحذاء وغير ذلك مما لا نحب استعماله أبداً.
هذا بالضبط هو مربط الفرس , ففريق التسوية قد أقر بصعوبة تحقيق الهدف وأضاف الى ذلك اقرارا بعجزه النهائي عن بلوغه في حين يصر الطرف المقاوم على قدرته على الصمود والتحدي حتى ينال احدى الحسنيين ويلقى الله بعذره المقبول فهو يعلم مسبقا أن مرجعيتة لا يمكن الكذب عليها فالله يعلم السر وأخفى .
ومع كل ذلك فإن حماس لا ترغب ابدا في قطع الروابط مع الطرف الآخر أو استعدائه أو الإصطدام به لا سمح الله وحرصها هذا نابع من فهم صحيح لأحكام الشريعة الإسلامية وتأمل بأن يصلح الله الحال ويثوب الأخوة الى رشدهم ويوقنوا بأن فلسطين وقف اسلامي لا يجوز التفريط فيه أيا كانت الصعوبات . لكنها وفي نفس الوقت لن تسمح لأنصار اوسلو بأن يجروها الى مستنقعات التنازل والتفريط مهما بلغت الضغوط .
 أزعم أن الأسباب الحقيقية لعدم قدرة الفلسطينيين على الإتفاق فيما بينهم في اجتماعات القاهرة مؤخرا نتج عن الاختلاف في التعريف , فالأخوة في فتح على وجه الخصوص هم من أتباع التعريف الأول للسياسة بينما حماس ومن معها يؤمنون بالتعريف الثاني , وليت الأمر يقف عند هذا الحد فالمفاوض من حماس تبين له أن المطالب التي يطرحها الطرف الآخر عليه لم تكن نتيجة اجتهاد سياسي أو تكتيك مرحلي يهدف الى خدمة القضية الأُم بل على العكس من ذلك تماما , فالمطلوب كان دائما الإعتراف باسرائيل دونما اي غموض وبحسب بتعبيرهم اعترافا كريستاليا .
السؤال الملح في ذلك كله , لماذا يصر فريق اوسلو على مثل هذه الشروط التي كشفت عوراتهم وسوف تؤدي حتما الى هدم كل العناد والصمود الأسطوري لغزة في موقعة الفرقان ناهيك عن ضياع ارتال من الشهداء الذين قدمتهم حماس وفصائل المقاومة ومن قبل ذلك فتح , ألم يكن بالإمكان إعفاء حماس من مثل هذه المواقف غير المفيدة على سبيل التكتيك مثلا أو على الأقل تأجيل البحث فيها كما فعلوا مع اسرائيل في أوسلو , ألم يطلعوا علينا حينها بمقولة تأجيل البت في المسائل الشائكة لحين الإتفاق النهائي والتي لا زالت مؤجلة حتى الآن , أليس ذوي القربى من حماس والجهاد أولى بمثل ذلك التأجيل من العدو التاريخي , هل فقدوا بوصلة العداء الى هذا الحد ام أن ستر عوراتهم لم يعد يعني لهم شيئا .
مثل هذا الترحيل كان سيفيد الجميع بلا استثناء , فحماس ستبقى على ثوابتها وهم سيحصلون على حكومة التوافق الوطني التي يريدونها والمحاصرون في غزة سيتنفسون الصعداء أخيرا , ويدعم ذلك كله وجود حكومة يمينية متطرفه في دولة الكيان لا تعترف أصلا بحل الدولتين الذي يسعون له مما سيخفف من الضغوط الدوليه على حكومة التوافق المنشودة .
كان يتوجب على المفاوضين من فتح استغلال مثل هذا الظرف التاريخي لو كانوا بالفعل مخلصين للقضية الأم بل وأكثر من ذلك أقول بأن وجود حماس وأخواتها على الساحة وتأثيرهم القوي في الشارع كان يجب أن يكون مطلبا فتحاويا بامتياز لأنه سيسهل عليهم تحقيق مكاسب تفاوضيه مرحلية على درب التحرير, هذا فقط إذا صدقنا بانهم أرادوا من اتفاقية أوسلوا تحقيق مكسب مرحلي تتبعه مراحل تهيئها ظروف المستقبل .

أما وأن ايا من ذلك لم يحدث فهذا يعني أن أوسلو كانت هدفا نهائيا لمن وقع عليها وأنه أعطى صكا تاريخيا بأحقية اسرائيل في اراضي 48 ولم يبقى عليه وعلينا بالتالي الا الإعتذار من اسرائيل على ما تسببت به ثوراتنا من اذى لليهود المساكين والمستوطنين المسالمين المقيمين في أرضهم والتي نازعناهم عليها زورا وبهتانا وربما يتوجب علينا بعد ذلك دفع التعويضات لهم . أوليس هذا هو معنى سلوكهم التفاوضي مع حماس في القاهرة وصدق من قال ان المفاوضات تكشف العورات .

زر الذهاب إلى الأعلى