لم يأخذ تفشي مرض انفلونزا الطيور هذا الاهتمام العربي كما يأخذ الآن تفشي انفلونزا الخنازير الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية وباءً من الدرجة الخامسة، رغم أن انفلونزا الطيور وصلت الى البلاد العربية وأوقعت فيها اصابات. فالاهتمام العربي الآن تجاوز المستوى العلمي الصحي الى مستويات أخرى نشتم منها رائحة الثقافة العربية وعلاقتها بالخنازير، سواء كانت هذه الثقافة ببعدها الديني او القومي، وعلى كافة المستويات: البرلمانية والحكومية والشعبية.
ورغم أن انفلونزا الطيور لا تختلف كثيرا عن انفلونزا الخنازير كما أكد أكثر من مختص في مجال الأمراض والصحة العامة على القنوات الفضائية العربية لتوعية المواطن العربي، إلا أن كلمة "خنزير" وما تحمله من حمولات ثقافية كانت أقوى من هذه التوعية العلمية. وهذا واضح من آراء بعض نواب مجلس الشعب المصري الاسلاميين الذين طلبوا من الحكومة المصرية اعدام كل الخنازير في مصر، ومن بعض الاجراءات التي أعلنتها الحكومة الاردنية التي طالبت مُربي الخنازير باعدام الخنازير في مزارعهم، حسب ما نقلت قناة الجزيرة الفضائية. وفي الحالتين المصرية والاردنية لم يأخذ المطالبون باعدام الخنازير حقوق الملكية الخاصة لأصحاب هذه المزارع وحقهم في التعويض المالي. ولا يخفى على أحد انتماء أصحاب هذه المزارع لديانة معينة، مع ضرورة الاشارة الى أن مثل هذه المطالب لم نسمعها أيام تفشي انفلونزا الطيور!!. فهل هذه المطالبات تصب فعلاً في حل المشكلة حلاً علمياً صحياً وقائياً واقتصادياً، أم أنها مطالبات لها علاقة بالثقافة العربية تجاه هذا الحيوان الخنزير؟! وبالتالي النظر اليها على أنها حل انتقامي من هذا الحيوان مدفوعة بدوافع ثقافية دينية؟ وكأن الوقت قد حان لتصفية الحسابات مع هذا العدو الخنزير؟!
قبل أيام قليلة ظهرت على الانترنت الكثير من المقالات العربية التي تناولت وباء انفلونزا الخنازير، وتميزت هذه المقالات بإظهار الجانب الثقافي الديني الانتقامي أكثر من الجانب العلمي، بل إن بعض المقالات أظهرت الجانب القومي الانتقامي معتبرة أن هذه الانفلونزا هي من انتاج الغرب المتوحش الذي كان يقوم بتجارب للأسلحة البيولوجية الفتاكة، ولكن التجارب انقلبت على الساحر وخرجت الميكروبات عن السيطرة!!. وفي مقال على موقع المذكرة الاسلامية يدافع الكاتب عن الطيور معتبراً أنها اعدمت ظلماً وبهتاناً لأن أنفلونزا الطيور آنذاك كانت انفلونزا الخنازير، ولكن الغرب طمس الحقائق دفاعاً عن صديقه الخنزير وألصق التهمة بالطيور البريئة!!. هذا عدا عن المقالات التي اغتنمت تفشي الوباء لإثبات أن معتقداتها الدينية على حق ومعتقدات الآخرين على باطل، على أساس أن الدين الاسلامي حرم لحم الخنزير، وبالتالي إسقاط ضرورة تربيته، الأمر الذي كان سيمنع ظهور الانفلونزا. لقد اتسمت هذه المقالات مثلها مثل المطالبات الرسمية بالانتقام من هذا الحيوان وممن يأكلون لحمه على حساب الاجراءات العلمية الصحية الوقائية والعلاجية. وكان واضحاً من بعض المقابلات على القنوات الفضائية أن هناك رائحة تمييز عنصري ضد أقلية دينية عربية.
لا شك أن الانفلونزا مرض قديم، عرفته البشرية عبر تاريخها، كما يخبرنا الطبيب اليوناني "ابوقراط" الذي عاش قبل الميلاد. فهو مرض يصيب الانسان كما يصيب الحيوانات مثل الطيور والخنازير والأحصنة والكلاب وبعض الحيوانات المائية كما تقول الموسوعات العلمية. ولا شك، تاريخياً، أن التسميات التي تُعطى لوباء الانفلونزا تختلف أدبياً عن التسميات العلمية، فالانفلونزا نفسها كلمة ايطالية تعني التأثير (إنفلِوَنس بالانجليزية)، أما علمياً فهي تنتمي الى المجموعة (اتش آيه ان آيه) حسب تصنيف الجينوم في الحمض النووي (آر ان آيه)، حيث أن (اتش آيه) تشير الى تركيب الهيموجلاتينين وهو البروتين المسؤول عن تجميع خلايا الدم الحمراء، و(ان آيه) تشير الى الانزيمات. وبهذا يأتي تصنيف الانفلونزا مثل (اتش 1 ان 1) وهي التي تصيب الانسان. أما تغيير الارقام في هذا التصنيف فيشير الى نوع من التحوير الذي يحصل للفيروس مثل (اتش 1 ان 2) التي تصيب الطيور، وهكذا. هذا التحوير ينتج عن طفرة تحصل في بنية الـ (آر ان آيه) للفيروس حيث يأخذ بعض الجينات من الانسان مثلاً والطيور والخنزير لينتج تحويراً جديداً. كما هو الحال في (اتش 5 ان 2) مثلاً والذي انتشر في الولايات المتحدة في قطعان الخنازير والديك الرومي.
أما التسمية الأدبية، ان صح التعبير، فهي تأتي من مكان انتشار المرض، جغرافياً او حيوانياً، مثل انفلونزا الطيور والخنازير والكلاب والأحصنة وغيرها، او مثل الانفلونزا الاسبانية (اتش 1 ان 1) التي حصدت 40 – 100 مليون انسان بين عامي 1918 و1920، والانفلونزا الروسية (اتش 2 ان 2) التي حصدت مليون انسان في العام 1889-1890، والانفلونزا الآسيوية (1957) وانفلونزا هونج كونج (اتش 3 ان 2) عام 1968. هذه التسميات الادبية قد تحدث ارباكاً كما هو الحال في انفلونزا الخنازير كما هو واضح من الضجة التي قامت من أجل تغيير التسمية الى الانفلونزا المكسيكية او الامريكية الشمالية كما اقترح البعض بسبب العوافب الاقتصادية التي قد تطال مزارع الخنازير والصناعات التي تنتج منها، وكما هو واضح من تأثير التسمية على الصراع الديني الذي بدأ بالظهور على الانترنت.
أما المرض نفسه فينتقل من الحيوان او الطير المصاب الى الانسان، والعكس صحيح، فالانسان بدوره ينقل المرض الى الحيوانات والطيور، فلماذا لا نُطالب باعادم البشرية أيضاً؟!. في الحالات الطبيعية يبقى انتقال المرض محصوراً بين افراد النوع الواحد (الخنازير مثلاً) مثل أي مرض يصيب الانسان والحيوان، وفي هذه الحالة يكون من الصعب انتقاله الى نوع آخر. ولكن حين يحدث تحوير في الفيروس له علاقة بجينات بشرية يمكّنه من الانتقال للإنسان فإنه ينتقل عن طريق التعامل المباشر مع هذا الحيوان المصاب، كما حصل في المكسيك، فهذا الفيروس تحور داخل الخنازير من عدة فيروسات: انفلونزا الخنازير الامريكية الشمالية وانفلونزا الطيور الامريكية الشمالية وانفلونزا الانسان وانفلونزا الخنازير الاوربية الاسيوية. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل الخنازير على هذه الأرض قد أصيبت كما أصيبت بعض الخنازير في المكسيك.
لماذا هذا الهجوم، عربياً، على الخنزير إذاً؟ إنه مثل باقي الحيوانات لجهة الانفلونزا، ومثل الانسان، يحمل المرض وينقله. فما هو عيبه؟ ولماذا كل هذه النقمة عليه؟ هل هو مكمن الشر في العالم؟ هل هو شرير أكثر من الانسان؟ هل حطّم وقتل وظلم أكثر مما فعل الانسان؟ او الحصان؟ او الخروف؟ أو الأفعى؟ إنه كائن حي وعضو في المجموعة البيئية العامة، يتغذى على نوع آخر، وتتغذى عليه أنواع أخرى. فكل عضو بيئي يمكن أن يكون مفيداً ويمكن أن يكون ضاراً، وبالطبع كل عضو (او نوع) يعمل على افادة نفسه على حساب الآخرين، من هنا تأتي ما تسمى بشبكة الغذاء والطاقة في علم البيئة. فمثلما يتغذى الانسان على النباتات والحيوانات هناك حيوانات وميكروبات وفطريات تفتك به وتتغذى عليه.. وهكذا دواليك بالنسبة لجميع المخلوقات على هذه الأرض. والخنزير ليس استثناءً اذا تجاوزنا المعتقدات الدينية.
لا أواجه انقساماً في آراء الطلاب أثناء تدريسي لمادة علم البيئة في الجامعة، ولكن الانقسامات تظهر أثناء تدريسي لمادة "البيئة والاخلاق" لأن الديانات تتدخل هنا، خاصة في بلد تتعدد فيه الديانات والمذاهب والثقافات كالولايات المتحدة. فمن منظور أغلبية الطلاب الذين ينتمون الى الديانات الابراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والاسلام، فإن الانسان هو مركز الحياة على الارض، بمعنى أن المبدأ هو "مركزية الانسان"، وبالتالي فكل شيء في هذا الكون مسخر له، هكذا تقول هذه الاديان، ولهذا أباحت للانسان الفتك بباقي الانواع لأجل مصلحته. إلا أن هذا السلوك الانساني أصبح يضر بمصلحة الانسان نفسه نتيجة اعتدائه الدائم والجائر على الطبيعة، الأمر الذي أدى الى ظهور أخلاقيات الحفاظ على البيئة. ولكنها بقيت في حدود مبدأ "مركزية" الانسان، أي انها اخلاقيات لم تقم من أجل الانواع الاخرى لإنصافها بحد ذاتها، وانما لحماية بقاء الانسان على هذه الارض التي اغتصبها وخربها. وهنا ظهر مبدأ جديد في أخلاقيات البيئة أخرج الانسان من مركزية الحياة، وأعطى باقي الانواع حقها في الحياة، لا لأجل الانسان، بل لأجلها هي كأنواع. هذه الاخلاقيات الجديدة تحرم ازهاق ارواح الكائنات الأخرى لإشباع رغبات الانسان او بقائه، فالبقرة مثلاً يجب احترام حقها في الحياة وعدم ذبحها لاشباع الانسان، وهلم جراً. وهنا تظهر المشكلة الثقافية الدينية، فكيف سنحتفل بأعياد الشكر بدون ذبح الملايين من الديك الرومي؟ وكيف يستقيم موسم الحج الى الكعبة المشرفة دون تقديم الأضاحي؟ وهنا ينقسم الطلاب الى قسمين، قسم يؤيد الاخلاقيات الجديدة ويدعو الى الحمية النباتية ووقف كل هذه الطقوس الدينية والقومية، وقسم يحافظ على اخلاق الثقافة التقليدية في أن الانسان هو المركز وكل شيء مسخر لمصلحته بشرط أن يحافظ على البيئة.
قصة الخنزير لا تختلف كثيراً، فلحم هذا الحيوان محرم دينياً عند المسلمين واليهود، كما تنص الآيات في سفر تثنية الاشتراع في التوراة وفي سور المائدة والانعام والنحل في القرآن الكريم. ورغم أن هذه الآيات تتحدث عن تحريم لحم الخنزير ولا تتطرق الى معاداة الخنزير نفسه إلا أن الثقافة الدينية الشعبية تجاوزت الآيات الى تشكيل ثقافة عدائية تجاه الحيوان نفسه، فكلمة خنزير في الثقافة العربية تعد من أقسى عبارات الشتائم. واصبح هذا الحيوان رمزاً لكل السلبيات، فهو غبي ووسخ وعديم الغيرة و"خنزير"!!. تماماً مثل رمزية البوم عند العرب وعلاقته بالشؤم، ولكنه في ثقافات اوروبا الشرقية رمز للتفاؤل والنجاح. وكذلك الخنزير عند الغرب يعتبر من الحيوانات المحببة خاصة عند الاطفال.
في الحالة التوراتية يحاول المُشرع التوراتي في سفر التثنية (على اساس أن الاسفار الخمسة الأولى كُتبت بعد موت النبي موسى بقرون عدة كما يذهب علماء الكتاب المقدس) ايجاد تبرير لتحريم لحم الخنزير، فيضع شرطين للتحريم: الأول أن يكون الحيوان غير مُجترّ، والثاني أن لا يكون من الحيوانات التي لها ظلفين (شق في الحافر). وبذلك يقع التحريم على الخنزير لأنه من الحيوانات غير المجترة رغم أن له ظلفين، أما الأرنب فهو مجتر ولكن ليس له حافر بظلفين لذلك فهو محرم أيضاً، وكذلك الحال بالنسبة للجمل. ولا يعطي المشرع تفسيراً لعلاقة منطقية بين الاجترار والحافر بظلفين وبين تحليل لحم الحيوان. أما في الحالة الاسلامية فالآيات القرآنية لا تتحدث عن هذين الشرطين، وإنما تذكر تحريم لحم الخنزير فقط من دون ذكر بقية الحيوانات: (حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به…). أما في المسيحية فيبدو أن تحليل لحم الخنزير جاء من قراءات معينة لأقوال السيد المسيح مثل: "ليس ما يدخل فم الإنسان ينجسه بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان". مع العلم أن كنيسة "الادفنتست اليوم السابع" تحرم لحم الخنزير. فهل تحريم لحم الخنزير سر من الأسرار الالهية أم انه من ثقافة شرق المتوسط؟
يرى علماء الاديان والانثروبولوجيا والميثولوجيا أن الديانات البدائية قامت حول مفهوم التابو (اي الحرام)، وارتبطت بطوطم ما (اي رمز معين)، ومن هنا جاءت علاقات الطوطم بالحرام. فبالنسبة لشرق المتوسط كانت الديانة الفرعونية قائمة بطريقة أو بأخرى على هذه العلاقة الطوطمية الحيوانية، حيث لا يخفى من آثار الفراعنة عنايتهم الفائقة بالحيوانات المقدسة التي كانت ترمز الى الآلهة. وكانت على نوعين: الأول يرمز الى الخير والثاني يرمز الى الشر، فإذا كان الإله إله خير كان رمزه الحيواني كذلك، والعكس صحيح. في الديانة الفرعونية كان "حوروس" ابناً للإله "رع" وروحه المقدسة، وكان القمر بمثابة عين حوروس اليسرى، أما الشمس فكانت عينه اليمنى. وتقول الاسطورة الفرعونية أن الإله "سيت" المرموز له بالخنزير قد أكل عين حوروس اليسرى (ربما للتعبير عن غياب القمر). أما عين حوروس اليمنى، الشمس، فالاسطورة تقول أن حوروس أراد أن يرتقي الى مستوى رع في رؤية كل المخلوقات، إلا أن رع انتبه للمؤامرة وأرسل شعاعه الناري على عين حوروس اليمنى وأحرقها وهو يقول "يا حوروس أيها الخنزير الاسود" (ربما اللون الاسود يحيل على الظلمة)، ثم أمر الآلهة قائلاً: "الخنزير سيكون بغيضاً وملعوناً لحوروس". ولهذا السبب لم يقدم المصريون الخنزير قرباناً لحوروس، فأصبح الخنزير رمزاً للنجاسة في مصر القديمة. يخبرنا هيرودوت أبو التاريخ (القرن الخامس قبل الميلاد) أن المصريين إذا لمسوا خنزيراً كانوا يهرعون الى الماء لغسل النجاسة. أما لحم الخنزير فكان من الاطعمة المحرمة كقربان ولا يدخل في قائمة طعام الموتى. هذا التحريم انتقل الى بلاد الشام من تأثير الثقافة الفرعونية. وبالطبع دخل في الديانة اليهودية من باب الأعراف التي يحتويها الدين لاحقاً.
لقد حاول اليهود في العصور الحديثة، كما حاول المسلمون من بعدهم، اثبات الاعجاز العلمي في تحريم لحم الخنزير، استناداً على الحجج القائلة بوجود ديدان (مثل الدودة الشريطية) في الخنزير او جراثيم وما شابه ذلك من الحجج الطبية التي تم تفنيدها، فكل الحيوانات فيها ديدان، وكلها تستقطب جراثيماً وتسبب أمراضاً إذا تم تناولها نيئة. ولكن لحم الخنزير نفسه من الناحية الصحية يقع بين اللحوم الحمراء وبين البيضاء، أي أنه يحتوي كمية وسطية من الميوجلوبين التي تحتوي على عنصر الحديد، ما يجعل لحمه أفضل من لحوم البقر الحمراء. أما الحجة القائلة بأن أكل لحم الخنزير يقلل من غيرة الرجل على نساء بيته، كما قال أبو حيان التوحيدي، والتي ما زال يرددها بعض الاسلاميين فهي لا تصمد أمام أي فحص علمي ونفسي وثقافي ولا أمام أي خبرة للعيش بين الشعوب الأخرى التي تأكل لحم الخنزير، فغيرتهم في أحيان تزيد عن غيرة المسلمين، بل كيف نفسر تفشي ظواهر تنتشر في مدن الوطن العربي مثل راقصات البلدي وأنواع الزواج المختلفة (متعة، عرفي، مسفار، فرند…) والدعارة العذراء؟!. أما البيئة التي تعيش فيها الخنازير فإن أمر نظافتها يعود الى صاحب المزرعة، تماماً كما هو الحال بالنسبة لباقي الحيوانات.
في الأردن عندما كنت صبياً كنت أشاهد الخراف والماعز تقتات على أوراق الجرائد (الرأي والدستور) المتناثرة في الشوارع وعلى الأرصفة، فهل هذا يعني أنها أصبحت مؤهلة للحصول على شهادة الثانوية العامة او على مقاعد في البرلمان؟!
مجلة الفينيق الثقافية/ هيوستن