جميل عبود
– حدثني شيخٌ كبيرٌ في السن عن نفسه فقال: ألحّ عليّ ولد لي أن أخرج معه في نزهة مشياً على الأقدام، حاولت التهرب منه، وتذرعت له بالعمل ومتاعبه، طالباً منه تأجيل نزهته هذه إلى يوم الجمعة؛ لنخرج سوياً مع والدته وإخوانه فرفض وأخذني جانباً، وقال: "أنا لا أريد النزهة، بقدر ما أريد أن أنفرد فيك وحيداً".
حيّرني إصرار الولد على هذه الرحلة وحيداً، فقلت في نفسي: "هل هو دلال الولد على أبيه أم هي حاجة في نفسه يريد قضاءها وأنا لا أعلمها؟ هل يستطيع الولد في مثل هذا السن أن يحدد هدفاً شخصياً له ثم يسعى لتحقيقه؟ وهل يوجد للولد – مهما كان سنه – قرون استشعار يكتشف بها مكان وزمان تحقيق مصالحه الشخصية؟"
للإجابة على هذه الأسئلة التي دارت في مخيلتي قررت أن أستجيب لطلبه؛ لكي أحاول أن أكتشف ما بداخله، لهذا اخترت طريقاً فرعياً خالياً من المارة لا يسلكه إلا صاحب حاجة مثلي. فوجئ الولد- ولم أًفاجأ أنا – بغُراب مرّ من أمامنا ثم سار بمحاذاتنا، فَلفَت نظره ذلك الطائر الأسود الغريب الذي حاول مرافقتنا دون خوف ولا وجل، وهو لا يعلم أن رؤية الغراب لوحدها نذير شؤم، فما بالك إذا رافقنا؟ تركت تشاؤمي من هذه الرحلة في داخلي وتمنيت انتهاءها، لكنني حفاظا ًعلى مشاعره لم أبح له بهذا الكلام، بل تركت له اتخاذ القرار .
فجأة، وبنشوة المنتصر والآمر الناهي قال: "نريد العودة إلى البيت"، ففرحت بهذا القرار الذي انتظرته منذ رؤيتي للغراب. عدنا إلى البيت فلم يستقبلني أحد كعادتهم، بل كانوا مجتمعين مع أمهم في غرفة واحدة، فما كان منه إلا أن اقتحم عليهم مكان تواجدهم وقد تظاهر بالفرح والسرور، وسمعته يقول لإخوته: "لقد اختارني والدي من دونكم، وأخرجني في نزهة طويلة، شاهدت فيها طيوراً وحيوانات جميلة، بعد ذلك اشترى لي حلوى لذيذة، وأكلتها وأنا في طريقي إليكم".
غضب إخوته نتيجة لقيامي بهذه الرحلة التي لم يعلموا بأنها كانت مشؤومة، وغضبت معهم أمهم، وأعطتني درساً عنوانه " التمييز بين الأخوة "، وأصبح إخوته وأمه ينادونه بـ "ابن أبيه"، فتساءلت في نفسي هل يمكن أن يستغل ولد أباه أو أمه ليتميز على إخوانه؟
تنحيت بالولد جانباً وسألته: "هل أنا الذي اقترحت عليك هذه الرحلة؟" قال: "لا" ، "هل رأيت في رحلتك غير الغراب الأسود في الطريق؟"، قال: "لا" ، "هل اشتريت لك حلوى؟" قال: "لا"، فلماذا ادعيت كل هذا يا بني أمام والدتك وإخوانك؟ لاحظ يا ولدي أنه باختيارك الطريق الخاطئ تعاقب عليه فوراً، فعندما كنت أنانياً، أرسل الله عليك الغراب الذي لم تكن تعرفه لتنتهي رحلتك الأنانية، واعلم أن من أطفأ شمعة غيره بقي في ظلام مثله.
اعلم يا بني بأن المستقبل يبذر بذرته في الوقت الحالي، ومن لا يبذر شيئا الآن، فعليه ألا يتوقع حصاداً على الإطلاق. إني أراك قد اخترت أقصر الطرق في صغرك، وفضلت الراحة على التعب، وإذا مضيت في هذا الطريق وبدون غاية، فستحصد الشقاء عندما تكون كبيرًا.
قلت للشيخ الكبير وقد ملأني التأثر بقصته وابنه وإن كنت أعلم خاتمتها: "أنتم معشر الآباء تنجبون الأولاد بداية لتثبتوا بهم رجولتكم، ثم تلقونهم في أحضان أمهاتهم وتغسلون أيديكم من المسؤولية وذلك بالهروب إلى العمل، وتمنون عليهم وعلى أمهاتهم بأنكم تعملون في الليل والنهار من أجلهم ثم تتبجحون بأنكم لا تملكون الوقت الكافي لمحاورتهم ومناقشتهم والتعرف على همومهم.
والأم عندما تنجب أطفالاً تزهو بأنها شجرة مثمرة وعندما يلقي الرجل عليها مسؤولية أولادها تفرح لأن ثمرها سقط في حجرها وليس بعيداً عنها وتعتبر أولادها من ممتلكاتها الخاصة فقد تضعهم في صندوق مجوهراتها وتقفل الباب عليهم ولا تفتحه إلا بعد فوات الأوان، وتبدأ في الحال ترسم أهدافاً أكبر من إمكانات زوجها بحجة رفع مستوى أولادها ولا تطلب أكثر من مستوى أولاد عمومتهم وأخوالهم.
بعد ذلك تنشغل الأم في رفع مستوى أولادها بالضغط على زوجها لزيادة ساعات عمله فتضعه في دوامة الحياة فينشغل الاثنان عن أولادهما ويقومان بإقناع الأولاد أن أباهم يعمل من أجل مستقبلهم فيكتشفون أخيراً أنه يعمل من أجل تحقيق رغبات أمهم.
ثم إنكم تميزون بين أولادكم بقصدٍ أو بغير قصد، فإذا كان الولد كبيراً في حجمه أو وزنه تعيّرونه بذلك أمام إخوته، لا بل تلقبونه بلقب لا يحبه، بالرغم أنكم كنتم السبب في كبر وزنه، وبهذا تعفون أنفسكم وتحملوه المسؤولية.
وإذا كان الولد ضعيفاً في تحصيله العلمي فإنكم تقومون بتهزئته بدلاً من مساعدته والأخذ بيده، وإذا كان الولد غير مطيع لأبويه توبخونه أمام الناس، وتنسون من جعله غير مطيع.
وإذا كان في الأسرة بنت واحدة فلها الجمل بما حمل، وتبررون خطأكم بأنها بنتٌ وهي تحتاج إلى المساعدة الدائمة. وبالعكس إذا كان الولد وحيداً بين أخواته يصبح الجميع له خدماً، وبذلك تقتلون فيه الإرادة والمبادرة في بذل الجهد ووضع الأهداف وتحقيقها.
في المدرسة لا يعلمون هذا الكلام بل يتركوه للبيت وللأم تحديداً وهذه الأم إما جاهلة أو مشغولة فيضيع الأبناء، وعندها تبدؤون باللطم وجلد الذات وتجرع الندم ونسيان ما اقترفت أيديكم.
اعلم يا شيخنا أن السعادة ليست في امتلاك الكثير، ولكنها في القناعة بما تملك، كن قليل الحاجة ليكون دائما عندك ما يكفيك، واعلم أن أقصر وأفضل طريق يكفل لك أن تعيش في هذه الدنيا موفور الكرامة هو أن يكون ما تُبطنه في نفسك كالذي يظهر منك للناس.
قال الشيخ: "كل ما قلتَ يا ولدي صحيح، لكنني لم أكن أعلم بأن هذه الأمور البسيطة ستجعل الطفل برميل بارود لا نعرف متى وكيف وفي أي اتجاه سينفجر؟ سنصلح ما أفسدناه بإرسالكم في عمرة لكي تنسوا ما حقنّاه في أنفسكم من أنانية من غير علم، وأنا أعدك بعد اليوم أن نغير من أسلوب حياتنا السابقة.
فقلت للشيخ وقد تأثرت من ردة فعله: "أتمنى أن تكون الأمور بهذه البساطة، فالعمرة في أيامنا هذه أصبح عدد من يسيرها أكثر من عدد الصناع والحرفيين في مجتمعنا ومنهم من حولها إلى نزهة وجعلوها أنواعًا فهناك عمرة بخمسة نجوم وأخرى بدون نجوم، وانشغلت المدارس والجامعات والشركات بتجييش الناس للعمرة، كما أن الأهل يرسلون أبناءهم إليها تكفيرا عن أخطائهم معتقدين أن الفلوس تشتري العمرة فتغسلها، ولكنني أريدك أن تعلم أن قطعة الإسفنج عندما تغمس في الماء يدخل الماء في داخلها ومن الصعب خروجه إلا بعصرها وإخراج الماء منها، لكنني سمعت بمن يخرج الجن من الجسد جربه وإذا لم ينجح في إخراج الأنانية من أجسادنا فلن نصدقه في ادعائه هذا، وعليه أن يجدد عمرته فعمرته السابقة قد انتهت صلاحيتها ورأيي أن نستفيد من ما تبقى من بركاته ونأخذه معنا ليعلم الأسرة كلها أداء العمرة فتعودون جميعكم كالثوب الأبيض وتُحل المشكلة".
أكمل الشيخ قصته قائلاً: "دارت الأيام، شبّ ولدي وشخت أنا، وفي أحد الأيام تعرضتُ لوعكة صحّية، فحضر ذلك الولد لينقلني الى المستشفى، وعندما هممتُ بالركوب في سيارته مرّ غراب من أمامنا. في الحال تذكرتُ ذلك الغراب الذي حاول مرافقتنا عندما كان ولدي صغيراً ، لكن ولدي لم يعد يتذكرتلك الحادثة البعيدة.
فقلت له : ما اسم هذا الطائر يابني ؟ فأجابني بصوت عالٍ ومظاهر الاستياء تبدو واضحة على ملامح وجهه وبدون كلمة يا أبي قائلاً : "هذا اسمه غراب ومن يراه في بداية رحلته لن يرى خيراً" – قالها لي ولم يحافظ على مشاعري – وتابع قائلاً: "عسى الله أن يُريحنا وإياك" وطلب مني أن أقول آمين ظناً منه أنني لم أعد أفهم الحوار الذكي، بعد أن انتهى من كلامه فهمت المقصود ولم أعلق".
فجأة توفيت والدته، وكان إخوانه وأخواته في الخارج فلم يحضروا دفن والدتهم، وكانت نكسة لي لم يخفف وقعها عليّ غير تدينه، فقد أصبح لا يصلي إلا في المسجد، ولا ينطق الا بآية أو حديث، وفجأة اختاره الناس إماماً للمسجد، وأصبح يحل مشاكل الناس، ويستفتونه في كل صغيرة وكبيرة في شؤون حياتهم . وأصبح مطيعاً لي، لا بل أصر على أن أترك بيتي وأسكن مع زوجته وأبنائه برغم ضيق مسكنه.
وفي أحد الأيام جاءني الولد مهموماً، واقترب مني حتى أن لحيته الطويلة قد لامست وجهي، وقال : إخوتي كلهم بالخارج وأنت كبرت في السن وخفت قدرتك على مقارعة الناس، أريد أن تكتب كل أملاكك باسمي وتريح نفسك من المعاملات الرسمية، فقلت له: يابني كل الناس يعرفون أنك تنوب عني في الأفراح والأتراح، رد علي قائلاً: لا يكفي معرفة الناس بذلك بل يكفي معرفة كاتب العدل، أريدك أن تذهب معي وتوقع عنده ورقة تنازل، وفعلا حدث ما يريد خلال خمسة دقائق.
بعد توقيع الورقة أخذني الى إحدى مكاتب السفر وقال لي: "أولادك في الخارج بانتظارك ولن أكون أنانياً وأمنعك من السفر، فقد حجزت لك في الباص وليس في التاكسي لأنه أرخص ومريح لك أكثر وأريد منك أن تسلم على إخواني وأخواتي جميعهم".
فقلت له: "يا بني، إنني اكتشفت أنانيتك منذ أن كنت صغيرًا كما اكتشفت أم حاتم الطائي ابنها ، فبعد وفاته انبرى أخٌ له ليملأ الفراغ الذي تركه أخوه، فلما رأته أمه وهو يحضر لذلك قالت له أرح نفسك يا بني لا يمكن أن تملأ فراغ أخيك لأن حاتما كان يرفض الرضاعة إلا ومعه طفل آخر يرضع معه، أما أنت يا بني فكنت تبكي ولا تقبل الرضاعة إذا كان معنا في الغرفة أحدٌ غيرك، لكنني خدعت في لحيتك وفي اختيار الناس لك إماماً لهم.
ساعدني في الصعود على درج الباص وبعد أن أجلسني على الكرسي قلت له : يا بني ألم تسمع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"؟ قال: بلى، لكنه لم يقل زوجتك ومالها لأبيك فأنا كنت قد تنازلت لها قبل أن أطلب التنازل منك، لكي أقدم نفسي لإخواني بأنني لا أملك شيئا وبذلك أكون قد قطعت عليهم خط الرجعة فيما لو فكر أحدهم في مقاضاتي وكما تعلم يقول الله عز وجل: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به" وأنا والحمد لله لم أشرك به بعد بل على العكس فقد سجلت لأداء فريضة الحج لهذا العام وبما أنني إمام للمسجد فلي الأولوية ولا أنتظر الدور الذي ابتكروه، وبصراحة أكثر كنت أنتظر سفرك لتقل التكاليف إلى النصف.
ودعني، وانطلق الباص في رحلته اليومية، وبدون أن أشعر رجعت بتفكيري للوراء، وبدأت أراجع نفسي عن ما عملته مع والداي بعد هذه المدة التي جعلتني أنسى، فتذكرت أخيراً عندما جاءت أمي للسكن معنا رفضت زوجتي ذلك وقالت بالحرف الواحد "إما أنا أو أمك في هذا البيت" وكانت هي. أما أمي فقد أسكنتها عند أختي المتزوجة من ابن عمها حلاً للمشكلة، وعندما تقدمت فيها السن وعجزت عن الحركة تماماً لم تتحملها لا أختي ولا ابن عمها فردوها لي ثانية وقالوا أنت أولى في أمك شرعا وعرفاً، وزوجتي لم تُليّن من موقفها فلم أجد بداً من عرضها على أختي الثانية وزوجها الغريب فرحبوا بها وتُوفيّت عندهم، وبذلك صدق المثل الذي يقول "كما تكونوا يُولّ عليكم" وصدق تعالى إذ قال: "ولا تدرون أيهم أكثر نفعاً"
وصل إلى ابنه الآخر فرحب به ولم يفاجأ من تصرف أخيه لأنه يعرفه صغيرًا لكن زوجته عندما سمعت بفعلته السوداء قالت له : "اذهب إلى من وهبتهم ما منحك الله"، فحمل نفسه وذهب عند ابنته التي رحبت به وزوجها واعتبروه فرداً من أفراد الأسرة لكنها اشترطت عليه أن يقص ما حدث معه ليتعظ الناس ويغيروا من نظرتهم للمرأة بنتاً وأختاَ وزوجةً وأماً.
بعد سماعي قصة هذا الشيخ مع ابنه، أليس جلياً أن ما نفعله، وما نخطط له اليوم، سيقودنا إلى شكلٍ من أشكال المستقبل؟ وما لا نفعله اليوم وما لا ننجزه، أو ما ننجزه بطريقة سيئة أيضاً، سوف يحدد ذلك المستقبل الذي ننتظره، فلا بد من تحريك العقول وتحرير الإرادات ومراجعة الموروث للتواصل مع المستقبل وصنعه بصورة أفضل.