اعتاد الأوربيون والأميركان على دور "العرّاب"، وهم لأسباب كثيرة ومعروفة، يمارسون دور "الخادم الممهّد" للإسرائيليين. وغالباً ما يمرُق السهم من كوّة "حوار الأديان" أو "حوار الثقافات" أو "حوار الحضارات". وكلها حوارات لا ننكرها، إذا كانت لمنطق الدين، والثقافة، والحضارة، لا لمنطق "السياسة". وعندما تقول وزارة السياحة والاثار إنها مهتمة بإصلاح وترميم جميع "المواقع اليهودية" في العراق، فإنّ ذلك لا يزعج أحداً، لكنْ أنْ يقال ذلك لمراسل صحيفة أو وكالة غربية أو أميركية، بدافع إظهار "الرغبة" في انتزاع "الرضا" من دون موقف واضح وصريح ومسجّل أيضا، فإنّ مناخ الكلام يصبح "خانقاً" لأنّه يلوذ بالأكاذيب لا بالحقائق. ويوم هجر اليهود العراق، كان البلد تحت الاحتلال البريطاني، وكان عملاء الاحتلال متواطئين في الانفجارات التي شهدتها معابد اليهود ومحالهم، بهدف إرعابهم وتهجيرهم في إطار تجميع الشتات عند نقطة ما قبل أو ما بعد إعلان دولة إسرائيل تحت شعار من الفرات الى النيل. إنّ قانون إسقاط الجنسية، والتشجيع على ما سُمّي بـ"الفرهود" لم يكن بإرادة عراقية شعبية أو "قومية راديكالية"، أو "دينية مفرّقة" إنما بموجب حسابات بين الإنكليز وبين وكالة المنظمة اليهودية العالمية "الصهيونية"، وعبر عملاء الإنكليز الذين كانوا يحكمون العراق . إن "مشروعاً صهيونياً" في فلسطين التي عدّوها "أرض المعاد" بعد أنْ ناقش المؤتمر اليهودي العالمي الذي ترأسه "ثيودور هرتزل" اختيار دولة في أفريقيا، وفي أميركا اللاتينية، وفي كندا، أو في الأرجنتين، وعدلوا عنها الى ما تسطّره توراتهم "المكتوبة" من أساطير كان الكاتب الفرنسي "روجيه غارودي" قد فضحها في كتاب قيم صدر في السبعينات. ذلك الكتاب الذي منع يهود فرنسا طباعته، واضطر الكاتب نسخه على آلة كاتبة، وتوزيعه باليد، ثم طبعه محمد حسنين هيكل في مصر على نفقته، وترجم الى العربية ونشر.
إن تماهي الرؤية عند المراسلين الصحفيين الأجانب بين "حزقيال" و"عزرا" و"دانيال" وبين من نسميهم في موروثنا وكتبنا وتاريخنا "ذو الكفل" و"العزير" أو النبي المبارك الذي تعلو قبّته في قلعة كركوك، ينبغي أن لا تكون "إغراء" لفتح الطريق نحو "فكرة التطبيع" لأنها أكبر وأهم أهداف الغزو. وما لم يستطيعوا الوصول إليه بالقتل وبالاحتلال وبحفنات من "العملاء" المبثوثين في كل مكان، يجب أن "يمرُق سهمه" من كوة أو نافذة الحوارات و"التسامحات" التي لا نرفضها ونراها مطلوبة حتى مع الذين لا دين لهم، شرط أن تكون بلا "نيات مبيّتة" تشبه كثيراً تلك القنابل التي تسمى "مصائد المغفلين". إن يهودياً عراقي المولد يعيش في القدس المحتلة يجرؤ على أن يقول "إن بغداد مدينة يهودية، للنصف الأول من القرن الماضي"، وإن مراسلاً غربياً، يجرؤ أيضا على القول "إن يهود بغداد كانوا في ذلك القرن، نحو ثلث السكان" وإنّ "أضرحتهم تنتشر في البلاد" وإنّ وزارة السياحة العراقية –التي لم تجد الفرصة حتى الآن لاستعادة الكثير من مسروقاتنا من كنوز الآثار- تملك الخطط للعناية بكل ما هو يهودي في العراق حتى المعابد.. إنّ هذه الجرأة التي "تهتز" لها قلوب بعض "البسطاء" القائمين على خدمة الأضرحة، وراءها ما وراءها، وهي ليست "بريئة" ولا في إطار حبنا نحن العراقيين لكل من يعيش في العراق مهما كان دينه أو كانت قوميته، أو طائفته.
وبوضوح: إنّ إسرائيل تبحث عن "طريق" الى بغداد، لأنّ الدخول إليها عبر التطبيع الممرحَل لن يكون "محض زيارة" كما يصف ذلك رجل بسيط يقوم على خدمة ضريح "ذو الكفل". نحن في عالم –كما يصفه أحد المحللين السياسيين- تصوغ أبجدياته الجديدة "مخابرات الدول الكبيرة" ولهذا فكل شيء فيه يوحي بالريبة، ويدعو الى الشك، وإلى "تفتيح العقول" قبل العيون، لكي لا تعيش ملايين جديدة منّا في الشتات، ولكي لا نتحوّل إلى "لاجئين" حتى ونحن في أرضنا!.
يقول (جوزيف كروس) مراسل وكالة فرانس برس: تقريباً، كل شخص يستطيع قراءة "الكلمات العبرية" التي نقشت على جدران ضريح (حزقيال) قبل نحو 60 سنة، لكن ذاكرتهم مازالت تحتفظ بما يعد اليوم "ضريح مسلم موقّر". وبين سنتي 1948 و1951 هربت معظم الجالية اليهودية التي يرجع عمر وجودها في العراق الى 2,500 سنة وسط تفشّي ما يسمّيه المراسل "العنف القومي"، لكن مسلمي العراق اليوم ومسيحييه، مازالوا يزورون أماكنه المقدسة.
ويتابع (كروس) حديثه قائلاً: في المدينة الصغيرة (الكفل) جنوب بغداد، بقي ضريح (حزقيال) –النبي الذي تبع اليهود الى المنفى البابلي في القرن السادس قبل الميلاد- جزءاً من الفسيفساء الدينية عبر حقب التاريخ السحيقة.ثمة مئذنة من طابوق القرن الرابع عشر الميلادي، تبدو مائلة خارج المدخل المؤدي الى الضريح، لكنّ المسجد من الداخل مصمم على طريقة "الكنيس اليهودي" بالخزانات الخشبية التي تستعمل لحمل لفائف التوراة القديمة، و"الدرابزينات" أو الأسوار الصغيرة التي كانت ذات يوم تفصل الرجال عن النساء.
وداخل الضريح –يقول مراسل وكالة فرانس برس- تظهر "مخطوطة عبرية" تشبه الكتلة على امتداد الجدران الصخرية، تحت قبة بطراز تركي، مزيّنة بتصاميم زهرية إسلامية. ويؤكد (كروس) أن الحكومة شرعت بتنفيذ مشروع لترميم الضريح من الداخل، ووزارة السياحة والاثار تقول إنها تأمل في النهاية أن تصلح وترمم المواقع اليهودية الأخرى في العراق.
ونقلت الوكالة عن (عبد الزهرة الطالقاني) الناطق الرسمي باسم الوزارة قوله: ((الوزارة مهتمة بجميع التراث العراقي، سواء أكان مسيحياً، أم يهودياً أو من أي دين آخر)). وأضاف: ((إنّ الخطط الحالية لا تتضمن الكنيسات أو المعابد اليهودية في بغداد، والبصرة، والموصل، والفلوجة، وفي الأماكن الأخرى بسبب قلة التمويل، لكنني أعتقد أنها ستكون ضمن الخطط المستقبلية)).
وكتب (جوزيف كروس) يقول إن (فلاح عبد الهادي) الذي يشرف على ترميم ضريح حزقيال، يأمل أنه سيجتذب مرة أخرى الزائرين من جميع الديانات في أنحاء مختلفة من العالم. وأضاف قوله: ((لم يكن هنالك أي نزاع ديني في بابل)) مشيراً الى البقايا التاريخية للمدينة القديمة التي تبعد كيلومترات قليلة عن الحلة مركز محافظة بابل. وأكد قوله: ((كل شخص يعرف اليهود العراقيين يحبهم، وهؤلاء الناس كانوا عراقيين بكل شيء)).
ويشير (عبد الهادي) الى أن المسلمين في العراق يوقّرون جميعاً تقريباً الشخصيات الدينية المعروفة من الديانتين المسيحية واليهودية، بضمنها (حزقيال)، مشيراً بذلك الى (ذو الكفل) الذي ذكر في آيتين قرآنيتين. وقيل أنه كان يُنهض الموتى. ويؤكد مراسل فرانس برس أن الحجاج المسيحيين، والمسلمين، واليهود في الشرق الأوسط، كانوا لقرون يقطعون مسافات طويلة، ليزوروا أضرحة بعضهم بعضاً، وليصلّوا طلباً للعافية، أو من أجل تنمية الرزق، أو طلباً للنسل، وهي العادات التي ترجع الى الوثنية القديمة، طبقاً لقول المراسل.
وفي مدينة (العزير) الجنوبية –يتابع كروس حديثه- يقوم (بشير زعلان) المسلم الشيعي على خدمة ضريح (عزرا) العالم البارز للقانون اليهودي، والذي قاد عدة مئات من اليهود وعاد بهم الى القدس في القرن الخامس قبل الميلاد. وتنقل فرانس برس عن (بشير) قوله: ((نحن لا نفرق بين أي من الأنبياء، سواء أكان يهودياً أم مسيحياً)). وأضاف: ((إن النبي عزرا كان من بني إسرائيل لكن المسلمين يزورون هذا الضريح، تماماً كما يزورون الأضرحة الأخرى)).
وفي المدينة الشمالية كركوك –يقول مراسل فرانس برس- يود اليهود لو يطوفون فوق حصن المدينة الذي يعود تاريخه الى 4,600 سنة، طلباً لـ"البركة" على الرغم من أنه موقع مشكوك بأمره لضريح النبي (دانيال)، ويعد الآن ضريحاً إسلامياً مزيّناً برايات خـُضر. ويقول (أياد طارق حسين) المسلم التركماني مدير المواقع القديمة في المدينة: ((المسلمون، والمسيحيون، واليهود، اعتادوا زيارة هذا المكان. إنهم دائما يأتون يوم السبت، حتى المسلمون منهم يفعلون ذلك، لأنّ الضريح لنبي يهودي)).
ومن جانب آخر، يزعم الصيدلاني (غازي محمد صالح) 66 سنة، أنّ عائلته ظلت مسؤولة عن مفاتيح القلعة لأكثر من 1,400 سنة. ويقول: ((لقد افتقدنا اليهود عندما تركناهم)). وأضاف: ((اعتاد والدي أن يحدثنا عن مختار اليهودي رئيس عائلة شلومي الذي كان يجيء كل سبت مع جماعته ليقدم تبرّعاً للضريح. ونحن جميعاً نحب بعضنا كأخوة)).
وتحت عنوانه المثير جداً "بغداد كمدينة "يهودية".. ينقل (جوزيف كروس) مراسل فرانس برس عن اليهودي العراقي (نيسان رجوان) الذي هرب من بغداد سنة 1948 عندما كان يومها بعمر 26 سنة: ((دائما يقال إن نيويورك مدينة يهودية. أعتقد أن المرء يمكن أن يقول الشيء ذاته عن بغداد وهو مطمئن. وأنا أتحدث عن النصف الأول من القرن العشرين)). واعتماداً على ذاكرته –يعيش الآن في القدس- يصف (نيسان) كيف أن أسواق بغداد كانت تغلق أبوابها كل يوم سبت، وهو يوم عطلة "الراحة" بالنسبة لليهود. وكتب (نيسان) يقول أيضاً: ((إن الاختلاف بين نوعية العالم الذي ولدت فيه ببغداد منتصف عشرينات القرن الماضي، وبين الذي أكملت فيه نضجي في الأربعينات –من دون الحاجة لذكر العالم الذي نعيش فيه الآن- كان عظيماً جداً، والى درجة يكاد فيها خيالي أن يقتنص الصور من الذكريات)).
ويتابع المراسل قائلاً: قبل النزوح الجماعي سنة 1948، كان اليهود يشكلون نحو ثلث سكان بغداد، وقد لعبوا دوراً كبيراً في العاصمة، اقتصادياً، على مستوى الحياة الثقافية للبلد. واليوم تناقص السكان اليهود الى أقل من أصابع اليد الواحدة. و"مأزقهم" بدأ في أوائل سنة 1930 مع الارتفاع التدريجي للفكر القومي الراديكالي، والذي تزامن مع وصول الصهيونية الى العراق، وحث المبعوثين الشبّان المبشرين بالهجرة الى فلسطين.
وتوّجت العملية بإعلان نشوء "اسرائيل" سنة 1948، وأيضاً بإعلان الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى، وأيضا عملية (عزرا ونعيميا) التي رحّلت 120,000 يهودي –أي نحو 96 بالمائة من يهود العراق- الى إسرائيل سنة 1951. ويقول (موشيه غات) أستاذ التاريخ المولود في العراق، والذي يعيش الآن في تل أبيب: ((إذا سألت الجالية اليهودية سنة 1948، كم منهم يريد الانتقال الى إسرائيل، أقول لك إن فقط 20 الى 30 ألفا منهم كان سيقول لك: "نعم")). ويضيف قوله: ((لكنْ بسبب الحرب في فلسطين، فإن الاضطهاد العراقي، والنشاطات التبشيرية الإسرائيلية، دفعت جميعها اليهود الى ترك العراق. إنك لا تستطيع أن تقول إن هناك سبباً واحداً)).
وبالنسبة للقليل من اليهود الذين مكثوا في العراق –يقول مراسل فرانس برس- فإن الظروف أخذت تسوء، على مدى العقود التالية، وعلى إيقاع تصاعد النزاعات العربية-الإسرائيلية المتقيّحة، ثم تأزمت الحال في العراق بعد الثورات السياسية، لتصل الى العقوبات الدولية. وفي العنف الذي اندلع بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة سنة 2003، اختفى اليهود القليلون الباقون في وقت كانت فيه "الميليشيات الطائفية" تجوب أنحاء البلاد، وصار المسلمون يذبحون بعضهم المنافس لهم، وتعرّض المسيحيون وغيرهم من الأقليات الدينية للشيء ذاته. ولكنْ بعد انخفاض مستويات العنف خلال السنتين الماضيتين، بدأت الحكومة، تعيد النظر في "الكنوز الثقافية" الكثيرة في البلد، والعناية بقضية لجعلها "مادة مغرية" للسياح.
ويتابع المراسل حديثه قائلاً: إن القليلين في العراق اليوم، كبار السن بما فيه الكفاية، ليتذكروا الجالية اليهودية، ولاسيما أن نزاعات الشرق الأوسط تثقل كثيراً على العرب ومنهم العراقيون. لكنّ "المخلصين" من الأديان الثلاثة " ربما يتلمّسون الطريق ثانية وبشكل سريع الى ضريح " ذو الكفل" بالقرب من المكان الذي يقال أن (حزقيال) مشى خلال وادي العظام العارية من كل شيء، ورأى الله يرفعها، ويكسوها باللحم.
وفي ختام تقريره يؤكد (جوزيف كروس) مراسل فرانس برس أن (فلاح عبد الهادي) أكد قائلاً: ((إنّ العراق يجب أن يكون ذا اتجاه سياحي. وإذا جاء أي وفد بترخيص حكومي، فأهلاً وسهلاً)). وأضاف مبتسماً: ((طالما يأتون فقط للزيارة))!. وهو يعني طبعاً "اليهود في العالم" أو "يهود إسرائيل"!.