أرشيف - غير مصنف
الرحيق السراب
أحمد عبد الأمير
– يوما ما كانت هناك وردة بيضاء من نوع الفل بين مجموعة زهور ناقمة على رقتها وحسنها كونهن لا يمتلكن ذلك ويسعين جاهدات لتفادي ذبولهن … لكن دون جدوى.. فللطبيعة سلطان في هذا… كانت مثار اهتمام العديد من عشاق الورود، والمروج الخضراء التي كلما طل عليها قوس قزح ازدادت هذه الياسمينة روعة وجمالا… مما جعل غالبية الورود كاسدة ولا احد يأبه بهن، حيث القين باللائمة في ذلك على فلة.. لما وهبها الخالق جل وعلا امن جمال روح وقوام ممشوق ربما فاق كل التصورات!!!
عادت فلة، تلك الزهرة التي تستحي الشمس من أن تلقي بأشعتها على جذعها الرشيق، كونها اكتسبت لونا بنفسجيا فاق جمال ما تحمله تلك الأشعة من أطياف، حيث انعكس هذا اللون على أوراقها الندية بعطرها الفواح… ليضفي إلى المكان المليء بشتى أنواع الورود- التي لا تحمل من سماتها سوى الاسم- حيوية وجمالا.
جميع الزهور لا ترضى ان تزرع بمقربة من فلة.. لأنها وببساطة شديدة ستسحب الأنظار نحوها، لما لها من سحر عجيب على عيون وقلوب من يراها.. لقد شكّلت فلة وبالفعل عقبة كبيرة أمامهن لكسب ود عاشقي الورود بشكل عام.. فاجتمعن.. وقررن أن يتخذن موقفا موحدا ضد هذه الزهرة البيضاء التي وجدت نفسها وقد نفذت جميع وسائلها للرد.. إلا طبعا من قلوب عاشقيها ومريديها… والبقية آتية…
طلّ صباح يوم جديد على وجه فلة المشرق، الذي رغم ما يواجهه من غيرة منافسيها، إلا أنه يزداد جاذبية وإشراقا. فتحت الوردة الجميلة أوراقها ومدّت أغصانها الغضة الطرية في حقل الزهور، لتستقبل كعادتها الفراشات الملونة وأسراب النحل الذي ما انفك يتبارى فيما بينه ليفوز ولو بنزر يسير من رحيقها… إلا نحلة واحدة.. بقيت تراقب من بعيد.. من على شجرة في مرج قريب.. تنظر وتسجل وتحلل.. غير أنها تخشى الاقتراب من فلة لأنها مزروعة في حقل ليس ضمن نطاق حركة هذه النحلة.. فهذا الحقل يكاد يكون محرما عليها…
لاحظت الوردة الساحرة بحسنها أن نحلة ربما يفوق عمرها ما عاشته هذه الزهرة الجذابة بعشر سنين.. وهي تحوم من بعيد حول مرج الورود الذي تريد حيث فلة. أدركت الفاتنة البيضاء وبعد وقت طويل أن هذه النحلة تتوق للفوز برحيقها السحري.. هذا الرحيق الذي تكتظ أنواع عديدة من النحل حوله، لاسيما من هو بعمر فلة، ويتحين الفرص ويبتكر طرقا غير مسبوقة لتحقيق أغراضه المختلفة والمشتركة في آن واحد.. فتارة تراه يتودد لها.. وتارة يصطنع الجفاء لجذب أنظارها.. الكل يريد أن يصيبها في تاجها كما يصيب كيوبيد قلوب المحبين.. إلا تلك النحلة البعيدة.. الغريبة عن فلة…
استمرت الزهرة البيضاء في تجاهلها وتظاهرها بعدم معرفة ما يجري في المرج الآخر حيث تقف النحلة… بل وجعلت أغصان الشجيرات القريبة منها تغطي مرأى هذه النحلة… من دون الأخريات.. لتبدو مخفية.. وهذا جعل الأمر في غاية الصعوبة أمام النحلة لتتقدم ولو بخطى بسيطة نحو هذه الوردة الجميلة.
تخشى النحلة لو اقتربت من شاغلتها البيضاء أن تبخل عليها برحيقها.. الذي تريده هذه النحلة.. كما أنها تخشى من أن تهب عاصفة غير متوقعة حينما تقترب من فلة، أو أن ذلك ربما سيثير امتعاض الحشرات الطفيلية.. وما أكثرها في مرجها.. بقيت تنتظر استلام ولو حتى إيماءة صغيرة من صغيرتها الجميلة لتمضي قدما نحو الحقل المجاور… لكن لحد الآن لا وجود لأي مؤشر إيجابي في هذا الشأن.. وللحديث بقية…
صارت هذه النحلة في حيرة من أمرها… هل أن فلة ترفضها بسبب انتمائها لحقل آخر تستطيع التنقل فيه بحرية تامة، أو أنها مرتبطة بخليتها ولا تستطيع مغادرتها… أم أن الأمر لا يتعدى كون أن فلة عبارة عن زهرة اصطناعية لا حياة فيها.. وهذا يعني لا رحيق لديها، وأن الأريج الذي يفوح منها ما هو إلا عطر اصطناعي من صنع البشر؟؟؟؟
لم يكن في مخيلة النحلة إلا شيء واحد… ألا وهو الفوز برحيق فلة.. وليس شرطا أن يكون ذلك من خلال الاقتراب إليها وغرف ما تستطيع غرفه من رحيقها… بل يكفي أن يجري هذا بالإيماء والنظر ولو من بعيد.. لأنها ببساطة لا تريد أن تأخذ شيئا ربما لا ولن يكون من نصيبها.. فالنحلة تريد الرحيق لأجل الرحيق وليس لغرض الاستهلاك اليومي… و لا تنتظر الحصول على أي مقابل جراء هذا… أخذت تدور في مخيلتها أفكار ربما ستفضي في النهاية إلى انسحابها من مرمى أنظار فلة لتتركها تعيش.. وبهدوء…
بزغ يوم جديد آخر، مدّت الشمس فيه بأشعتها على المروج الخضراء المترامية الأطراف حيث المياه العذبة تنساب ببطء في جداولها الممتدة على طول الحقول والبساتين، كاسرة في خريرها سكون المكان.. كانت السماء صافية وأسراب الطيور محلّقة.. وزقزقة العصافير وهديل الحمام تسمع في كل مكان.. وتملأ نسمات الهواء النقي، المحمل بأريج ورود الربيع، حقل تلك النحلة الغريبة الباقية في حيرة من أمر مليكتها الجميلة التي طالما حلمت أن تحط رحالها في قلب وردتها البيضاء النقية… والبقية آتية…
كانت تتوق لرؤية الزهرة الحسناء.. والتمتع بالنظر إلى جمالها الخلاب لما تحمله من أوراق بيضاء كبياض القمر مشكّلة تقاطيع وجهها الملائكي و الجذاب في كل شيء..
أخذت تنظر وتنظر وتطيل النظر لكن دون جدوى… لم تكن فاتنتها في المكان.. فلا يوجد فيه سوى من يحسب على الورود إلى جانب الحشائش والأدغال.. اقتربت النحلة ولأول مرة من المرج حيث زهرتها الجميلة التي طالما تمنت أن تكون بقربها.. ولم تجدها.. خيّل لها أنها كانت، ولكل أسف، تجري وراء سراب.. وخيال جميل لا وجود له على أرض الواقع… فأثرت الصدمة فيها كثيرا… والخاتمة قريبة..
توقفت وفكّرت وعادت بذاكرتها إلى الوراء.. إلى عشر سنين خلت وربما ازدادت أربع، حين وقعت أنظارها ولأول مرة على الوردة البيضاء.. وتذكرت كيف إنها، وبعد أن دخلت هذه الزهرة حيز تفكيرها قررت أن تتجه نحوها لترشف من رحيقها السحري، شعرت بالذهول والصدمة. فقد عرفت أن نحلة أخرى سبقتها إلى ساحرتها الصغيرة واستحوذت على رحيقها السحري.. ورغم كل محاولات الزهرة الجميلة لإرضاء النحلة.. من خلال حركة أغصانها وإشراق طلتها الحسنة صوب النحلة، موحية أنها راغبة في أن توهب رحيقها لها، إلا أن الأخيرة كانت على يقين أن رغبتها في الحصول على ما تبتغيه من الزهرة لن تتحقق، لأنها كانت تنتمي لخلية نحل قد تكون من المحرمات على شاكلة فلة.
واليوم.. وبعد كل هذه السنين رجعت فلة، لكن بحلة جديدة وفي مرج آخر يختلف عن الذي هجرته قبل أكثر من عقد خلى، فبعدما تركت النحلة المكان وارتحلت إلى مرج ثان بعيد، عادت وكما ذكرنا لتعيد الحياة إلى الحقل الذي كان يشكو قلة رحيق أزهاره وشح أريجها، قبل أن تزرع فيه هذه الوردة الصغيرة في حجمها .. الخلابة في جمالها وتمد جذورها الرقيقة في تربته التي انتظرتها طويلا…
ورغم كل السنين التي مضت والنحلة باحثة عن وردتها البيضاء التي فقدتها ذات يوم، إلا أنها لم تيأس، آملة أن تكون الزهرة الجديدة التي رأتها في الحقل المجاور، مع صغر سنها، أفضل حتى من سابقتها في رحيقها وأريجها اللذان يجددان بالتأكيد حياة من يفوز بهما… وهو أمر قد يكون مستبعدا بالنسبة للنحلة.