أرشيف - غير مصنف

طبقات المزورين في قضية الحريري الحلقة الثانية

خضر عواركه

هل أقيمت لجان التحقيق والمحكمة بسبب إغتيال رفيق الحريري أم إغتيل الحريري لأجل قيام المحكمة ولجان التحقيق ؟
لكي نتعرف على الطريقة التي يتم فيها إتخاذ القرارات في مجلس الأمن أكان لناحية إنشاء المحاكم الدولية أم لناحية التحرك ضد الدول المناوئة لأعضاء مجلس الأمن الخمسة الكبار وخصوصا للولايات المتحدة الأميركية ، يمكن الإستفادة من إعترافات جون بولتون الصهيوني الأميركي الذي شغل منصب مندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن ، مع العلم بأنه حصل بسبب صهيونيته وعدائه للبنان على جوائز من منظمة أيباك الصهيونية وهو أيضا حامل درع الأرز اللبناني الذي قدمه له نواب ومسؤولين من قوى الرابع عشر من آذار بالنيابة عن سعد الحريري وعن وليد جنبلاط .
في مذكراته المعنونة " الإستسلام ليس خيارنا " (صفحة 195 – النسخة العربية الصادرة عن دار الكتاب العربي في بيروت ) يقول بولتون :
" بعد ركوب قطار يوروستار عبر القناة عائدا إلى لندن (من فرنسا ) إجتمعت إلى أهرمان وساورز (مسؤولين  بوزراة الخارجية البريطانية) في الخارجية البريطانية في الخامس عشر من تموز يوليو . إتفقنا على أن تضع الولايات المتحدة (أي هو ) مسودة سيناريو مختصر لما يمكن أن يفعله مجلس الأمن بعد أن تحال إليه القضية "
 (تحدث هنا عن إيران ولكن كلامه يعطينا مثالا عن طرق التصرف في كواليس مجلس الأمن ، فهل حينما إغتيل الحريري سعى بولتون وغيره  من الأميركيين للعدالة أم كلفوه بوضع سيناريو عما يمكن فعله في مجلس الأمن لإستخدام موت الحريري ضد سوريا  والمقاومة اللبنانية؟ )
لم تعتقل الإستخبارات اللبنانية  عملاء مخابرات سوريين متورطين في جرائم إغتيال في لبنان ، المخابرات نفسها إعتقلت مجموعات ترتبط بالمخابرات الإسرائيلية  كثيرة ثبت تورطها في إغتيال العديد من اللبنانيين . مجموعة أحمد الحلاق قبل التحرير ومجموعة محمود رافع الذي إعترف بالمشاركة مع  ضباط إسرائيليين في عملية إغتيال الأخوين مجذوب في صيدا ،وإعترف أيضا بنقل حقائب فيها متفجرات إستلمها من الموساد ووضعها في أماكن تسليم (تسمى نقاط ميتة إذ يضع العميل بريدا أو حقيبة ولا يعرف من سيستلمه بعد ذهابه )(1)

قضية رافع وجرائم الموساد المعتددة لم تهتم لجنة التحقيق الدولية بها فلماذا يا ترى ؟

هل لأن المحكمة تسعى لتحقيق العدالة أم لأنها مهتمة بتركيب التهم ما دامت لا تتوجه لإسرائيل ؟
إقرأوا إعتراف القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي (صحيفة الأخبار السادس من أيار 2009 مقابلة أجراها معه الزميل عمر نشابة)
د. عمر نشابة :  الأساس هو العدل. ولا يمكن العدالة أن تكون انتقائية. هل توافقون؟
كاسيزي : نعم
د. عمر نشابة :
الف وثلاثمة لبناني قتلوا عام 2006
 ولن تكون لهم محكمة دولية، بينما رجل واحد ذهب ضحية اغتيال وستكون له محكمة دولية؟
القاضي كاسيزي:

– أنا أوافقك، لكن هذه هي السياسة. عليك أن تلوم السياسيين في نيويورك الذين يقررون في جرائم غزّة وجنوب لبنان أن لا يأخذوا أي إجراء، وفي حال اغتيال الحريري يأخذون إجراءات. هذه هي السياسة. ولا تلمنا فنحن خارج السياسة. نحن لسنا سياسيين. نحن محترفون طلب منا أن نحقّق العدل في قضية معيّنة. وأنا شخصياً كنت قد وقّعت على عريضة وجّهت للأمين العام للأمم المتحدة طالباً إرسال بعثة تقصي حقائق إلى غزّة. ولم يحصل شيء.
د. عمر نشابة : هل قرارات السياسيين في نيويورك تخلق صعوبات لكم بصفتكم قضاة يسعون إلى تحقيق العدالة للجميع؟

– نعم، أنت على حقّ. العدالة للجميع. لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ أنا أشعر أخلاقياً بأنني أعاني ازدواجية، لا بل أنا أتخبّط عندما ألاحظ أننا نقوم بعدالة انتقائية. ماذا عن كولومبيا والعراق وزيمبابوي وغوانتنامو؟ لكن علينا أن نقوم بواجبنا هنا.
 
هل إغتيل الحريري بغرض إقامة محكمة أم إقيمت محكمة لأن الحريري إغتيل ؟
في صيف العام 2004 عقد إجتماع هام بين جاك شيراك والرئيس جورج بوش على هامش مشاركة الطرفين في احتفال  الحلفاء السنوي بإنزال النورماندي الذي حسم الحرب العالمية الثانية.
يشير  المراقبون إلى  ذاك الإجتماع بوصفه الأم الحاضنة للقرار الدولي الموجه من الأميركيين ضد سوريا(1559) بهدف دفعها إلى الإستسلام لمطالبهم،  والتي حملها في العام السابق الوزير كولن باول والتي يمكن تلخيصها بالتالي :
" سنملي عليكم شروطنا فيما يخص العراق، ولبنان، والفلسطينيين، وعليكم الموافقة عليها لتنجوا بأنفسكم "

كان المطلوب من سوريا القضاء على المقاومة اللبنانية التي يشكل حزب الله  عمودها الفقري .
وكان المطلوب أن تعمل سوريا في العراق جنبا إلى جنب مع الأميركيين لضمان سلامة جنود الإحتلال لا لضمان حرية الشعب العراقي أو مصالح الشعب السوري .
وكان مطلوبا من سوريا  أن تضغط لمصلحة إسرائيل على المقاومة الفلسطينية التي لم تجد في ذاك الزمن ملجأ سياسيا لها إلا دمشق (ولا تزال) . ما كانوا يطلبونه هو أن تلعب سوريا دورا مماثلا للدور الذي يقوم به البعض في الضغط حاليا على الفلسطينيين للقبول بالشروط الإسرائيلية كافة.
حصار العرب للفلسطينيين أشد وأقسى من حصار إسرائيل لهم،  وهو ما كان مطلوبا أن تشارك فيه سوريا ورفضت .   يتشدد النظام المصري ويمارس أقسى الإجراءات  لضمان حصار محكم على مليون فلسطيني في غزة.   وهو ما كان مطلوبا أن تفعله سوريا مع الشعب اللبناني أيضا ولم توافق.
لم تقبل سوريا ولم ترضخ، وكان بوش يفتش على حل لتلك المشكلة ووجده في  مسار إجرائي بعضه معروف،  ومنه تشديد الحصار السياسي،  والإقتصادي على سوريا،  والتعرض لها بسلاح مجلس الأمن الدولي عبر القرار 1559،  والإستعانة بالفرنسيين لإغلاق الساحة الأوروبية في وجهها. وبعضه سري،  بدأ يتكشف الآن ومنه عملية إغتيال الحريري التي تشير مصادر أميركية إلى تورط ديك تشيني وجهاز إستخبارات عربي على علاقة بالأصوليين والتفجيريين بها.
لبوش أسبابه التي شرحناها سابقا،  ولكن ما هي أهداف الرئيس الفرنسي من السير في الركب الأميركي للتآمر على لبنان وسوريا ؟ (ليس بالضرورة أن يشارك شيراك في التخطيط لقتل صديقه وولي نعمته المالية ولكنه شارك بفاعلية في إستثمارها لمصالحة أميركية وإسرائيلية بغض النظر عن مصالح فرنسا نفسها)
يُجمع الخبراء في السياسة الفرنسية ممن كتبوا حول هذا الموضوع، على أن شيراك شعر بأنه خارج اللعبة في الشرق الأوسط .
فقد شكل فوز جورج بوش بفترة رئاسية ثانية  سببا لحالة من الإحباط لدى رئيس كان يعرف بأنه سيخرج من قصر الرئاسة الفرنسية قبل خروج بوش من البيت الأبيض.
كان يرى ويسمع كيف إستفادت بريطانيا إقتصاديا من عقود إعادة إعمار العراق،  ومن عقود التسلح والتدريب للجيش العراقي الجديد و التي مولتها الولايات المتحدة  والسلطة  العراقية الجديدة من البترول العراقي .
موقف الفرنسيين المناهض لغزو العراق كانت له أسبابه الوجيهة في وقته.  ولكن الضغوط السياسية من قبل جهات فرنسية مرتبطة بأصحاب المصالح الإقتصادية،  دفعت شيراك إلى محاكاة المواقف الأميركية،  خصوصا وأن فرنسا هي أكبر مدين للدولة العراقية السابقة (ربما في المرتبة الثانية بعد الإتحاد الروسي إذ ما حسبت الديون العسكرية )
كان شيراك يحس بأن خياراته لم تكن صائبة ، خصوصا وأن جورج بوش يزداد عنادا وجنونا ، وإحتمال قيامه بمغامرة أخرى في سوريا أو في إيران لم يكن أمرا مستبعدا.
 لذا أراد شيراك أن يكون شريكا في ذلك الأمر طمعا بلعب دور يماثل الدور البريطاني بالنسبة لإحتلال العراق .
 كان شيراك محبطا و ناقما على السوريين الذين لم يوافقوا على مشاريع فرنسية إقتصادية في سوريا. كانت تلك المشاريع ظالمة بالنسبة للسوريين و لم يجدوا فيها  مصلحة لهم .
جلس شيراك إلى جانب بوش في إحتفالات النورماندي عام 2004  تائبا عن موقفه من حرب العراق، مستعدا للتكفير عن ذنبه،  وكانت عينه على  البريطانيين  الذين كانوا( برأيه ) يقطفون ثمار تحالفهم مع واشنطن .  أراد القيام بخطوة تعيده إلى الملعب الدولي وبقوة،  فكان الإتفاق مع بوش على ضرب  سوريا من لبنان، وهكذا ولد القرار الدولي 1559 .
لم يكن القرار بحد ذاته مشكلة لسوريا لو أن القوى التي عملت على إصداره لم تدعمه بخطط سرية لم نعرف ما هي إلا في وقت لاحق ( عملية اغتيال الحريري تكملة سياسية للقرار 1559  وتحقق أهداف من وضعوه  وعملوا على إصداره ) . بعض الإشارات السياسية  أوضحت أن إتجاه الأمور هو إلى تصعيد خطير على الساحة اللبنانية .
أرسلت فرنسا أحد مستشاري رئيسها شيراك السيد برنارد أيميه سفيرا فوق العادة إلى بيروت . وما أن وصل الرجل حتى عقدا إجتماعات تنسيقية مع السفير الأميركي وصار الرجلين يعملان وكأنهما سفيران لدولة واحدة .
بوجودهما حصل التصعيد الذي قاده البطريرك والمطارنة الكاثوليك والموارنة،  وتحت رعايتهما وضعت خطط سياسية لفريق قرنة شهوان ولوليد جنبلاط موضع التنفيذ.
حاول الجميع عبر أطراف عربية أن يؤثروا على السيد رفيق الحريري لكي يتخلى عن سياساته الوثيقة الصلة بسوريا . ولكنه رفض (بشهادة إلتزامه حتى يوم مقتله بالتحالف الوثيق مع سوريا)
كان الرجل رمزا سوريا في لبنان  وحكم البلد بضوء أخضر وبدعم سوري لمدة خمسة عشر عاما ،  ولكنه مع ذلك كان على علاقة عضوية بالسعوديين الذين يحمل جنسيتهم، وهم من هم في العلاقة مع الأميركيين. رغم ذاك رفض الرجل التخلي عن التحالف مع السوريين ونفذ رغبتهم ومدد للحود مع نفوره الشخصي من التمديد .
 وبإنتظار الإفراج عن المحاضر السرية لإجتماعات الحريري بالسيد حسن نصرالله،  ليس لنا إلا أن نصدق ما ذكره زعيم حزب الله من أقوال عن الرئيس الحريري،  والتي كشف فيها الرجل للسيد نصرالله عن حجم الضغوط التي وضعت عليه  ( يفهم ذلك من قوله "  إن كنت ساقاتل المقاومة فسأرحل عن لبنان نهائيا" ) من حلفاء له في الغرب وفي المنطقة العربية لكي يتصادم مع المقاومة ومع سوريا ولكنه (والكلام نقلا عنه ورد على لسان نصرالله ) لم  يفعل .
لطالما إختلف الرئيس اللبناني أميل لحود مع الرئيس الحريري وكلاهما كان مدعوما من فئات محسوبة على سوريا . أي أن الصراع كان بين الفريق الواحد على الخيارات الإقتصادية .
لم يختلف الحريري ولحود على الموقف من إسرائيل،  ولا على موقع لبنان من العلاقات اللبنانية السورية،  ولا على الموقف من سلاح المقاومة،  ولا على طريقة التعاطي اللبنانية مع القرارات الدولية،  ولا على الموقف من الإحتلال الأميركي للعراق.
إن أقصى العبارات وأشدها قسوة  في مواجهة خصوم سوريا لم تصدر عن حزب البعث – فرع لبنان بل عن شخصيات  تيارالمستقبل الذي أسسه رفيق الحريري.  وأكثر التصريحات والخطب   تمجيدا بالمواقف السورية من المواضيع السياسية الآنفة الذكر، لم تصدر عن حزب الله بل  صدرت في تلك المرحلة عن شخصيات محسوبة على رفيق الحريري، وكانت  تلك الشخصيات الأشد تطرفا في مدح سوريا ورئيسها ونظامها .
لم يتوقف الأمر على التسليم الكامل لسوريا بصحة مواقفها من المواضيع الخارجية من قبل الرئيس الراحل ،  بل إن الحريري أكان رئيسا للحكومة أم رئيسا لكتلة نيابية معارضة ، هو لم يحيد أبدا عن  الخيارات السياسية الخارجية لسوريا والتي تبناها جميعا  وأعلن قناعته بها كسياسة يجب إتباعها من قبل الحكومة اللبنانية .
وهو نفسه وضع كل إمكانياته بتصرف سوريا على الصعيد الدولي في أكثر من مناسبة،  خصوصا لمواجهة المرحلة الصعبة التي كانت تمر بها المنطقة  بعد إحتلال العراق.
 
قبل إغتيال الحريري إشتعلت الساحة السياسية اللبنانية بصراع إعلامي وبتبادل للإتهامات القاسية بين الساسة اللبنانية  وبخلفيات تتعلق  بالعملية الإنتخابية التي كانت على بعد أشهر .
.
خلاف الحريري لحود تصاعد ولم تحسمه دمشق بل تركت اللعبة تأخذ مداها،  ولكن عندما حان وقت إتخاذ القرار ، دعمت  دمشق  التمديد للرئيس لحود، ما عنى لها  التمديد للإستقرار في منصب الرئاسة فوافق الحريري على التمديد ولم يكن رجل بوزنه ليفعل لو لم يكن مقتنعا بوجود مصالح أهم من عراكه الإقتصادي مع الرئيس اللبناني.
بعد إغتياله قال بعض من تلفحوا بكفنه بأنهم أجبروا على التمديد ، رجل مثل رفيق الحريري لم يكن ليجبره أحد بل هو أعلن أكثر من مرة وبوضوح وصراحة بأن رئيس وزراء لبنان لا يتلقى الأوامر من أحد . قال ذلك بحرية رغم تحالفه مع السوريين فهل من يقول ذلك يرضخ لقرارات جبرية ؟
في الرابع عشر من شباط وقعت الجريمة، وفي الرابع من شباط أي في نفس اليوم خرجت تصريحات قادة في تجمع البريستول الموالي للأميركيين (..) تدين الأجهزة الأمنية واللبنانية لقتلها الحريري .
.
في يوم واقعة الإغتيال الإجرامية  بدأ جنبلاط تصعيدا سياسيا غير مسبوق ضد سوريا ،  مترافقا مع حملة عنيفة شنتها أدوات مخابراتية شوارعية (مخبرون على الأرض) وجهت الحزن والغضب الشعبي في الأوساط الطائفية التي مثلها الحريري في حياته،   بإتجاه سوريا وحلفائها في الأجهزة الأمنية اللبنانية .
كان من المواضح لكل من حضر التشييع بأن الهتافات والصور المرفوعة واليافطات لم تكن عفوية بل مخطط لها سلفا .
أيضا  هنا يمكن إيراد السؤال التالي :
هل إغتيل الحريري فرفع المتظاهرون صور قادة أجهزة الأمن اللبنانيين وإتهموا سوريا ؟
أم أن الحريري إغتيل لترفع صور القادة الأربعة وحتى تتهم سوريا بقتله ؟
.
بين سقوط الحريري ضحية للتفجير الإجرامي وبين دفنه مرت البلاد بعاصفة من التصريحات المنسقة والمدروسة والتي صبت كلها في إتجاه إتهام سوريا والأجهزة الأمنية اللبنانية بقتل الحريري.
رفضت عائلة الحريري تقبل التعازي من رئيس الجمهورية اللبنانية أميل لحود،  كما رفضت قيام الدولة بترتيب تشييع رسمي للحريري، وأصرت على تشييع شعبي لإستغلال دمائه في ساحة طائفية لم تكن كلها متعاطفة معهم  في حياة الفقيد.  
 في الإعلام الموجه من شركات إستأجرتها عائلة الحريري، جرى  تصوير الإغتيال وكأنه إستهدف الرجل بصفته الطائفية، مما  أثار الغرائز لدى العامة،  فنزلوا خلف نعشه ليجدوا شاحنات وموظفين من شركات الراحل  بإنتظارهم على مفارق الطرق وفي الأحياء حاملة لوائح الإتهام وعرائض الإدانة ، ففي غضون ساعات فقط تمت طباعاة مئات  آلاف الصور للقادة الأمنيين اللبنانيين الأربعة وعليها كلمة " مطلوبين للعدالة " وكتب الخطاطون ورفعوا المتطوعون آلاف اليافطات ، وكلها تحسم إسم  الفاعل القاتل والمرتكب والمخطط.
 هكذا بلا أدلة وقبل إنتهاء مراسم الدفن .
حين تُرتكب جريمة ينشغل أهل الفقيد بترتيبات الدفن،  وتنشغل أجهزة الأمن بالتحقيق، بينما في حالة الحريري ويوم  إغتياله ، إنشغل اهل الفقيد وبعض مستشاريهم في تمويل حملة لشركة إعلانية ضخمة (س – أند س)  لكي تصمم الشعارات الطائفية ،  ولكي تدير دفة إعلام يملكه الراحل فإستشرست صحيفة المستقبل وتلفزيون المستقبل وصحيفة النهار وصحف وقنوات عربية
" معتدلة " في تلفيق التهم بلا دليل وفي إستثارة العواطف الطائفية والغزائز المذهبية العنصرية .
عادة عندما تقع جريمة سياسية ينتظر أهل الضحية لحين إنتهاء المراسم ، مراسم التشييع والعزاء ومن ثم يتحدثون في السياسة وعن التحقيق . أما في حالة مقتل رفيق الحريري فلم يوفر إبنه سعد ولا المستشارين المحيطين به الفرصة لإكتساب الأنصار الجدد .  إذ بدأوا فورا تحركا سياسيا وتعبويا شعبيا لإستثمار الدم في مشاريعهم السياسية طمعا في إكتساب الشعبية عن طريقة إستثارة الغرائز الطائفية .
كان رد سعد الدين على سؤال صحافي حول من إغتال الحريري مختصرا ولكن واضح في إستهدافه إذا قال : الأمر واضح والجهة معروفة !
لم يعلن الرجل عن إنتظاره للتحقيق أكان دوليا أم محليا ، لم يتحدث عن إحتمالات قيام إسرائيل أو الأصوليين بقتل الحريري ، لم يسمي سوريا والضباط اللبنانيين الأربعة ( قادة الأجهزة الأمنية) ولكنه كان يشير إليهم بإماءة من الرأس .

من من عائلة الحريري كان متماسكا لدرجة تخطيط والإشراف على تنفيذ حملة إنتخابية شعبية عنوانها الإتهام الصريح لجهات لبنانية وسورية بتدبير الإغتيال بينما رفيق الحريري لم يدفن بعد ؟
الرجل لم يكن زعيم قبيلة تتصارع مع قبيلة أخرى . كان لرفيق الحريري أدوار متعددة وتتطور الرجل في تصرفاته وفي أفكاره، من ساعي إلى الزعامة بأي ثمن،  ومن مراهن على السلام مع إسرائيل في ربيع العام 1993 ، إلى أن وصل إلى مرحلة من النضج والوعي السياسي جعلته يسعى لدى ملك الأردن لإطلاق عناصر من حزب الله إعتقلهم الأردن بتهمة محاولة تهريب السلاح للمقاومة الفلسطينية عبر جسر اللنبي .
 
الم يصدم مقتل الحريري عائلته والمقربين منه ؟
ألم يتأثروا عاطفيا بالحدث فتفرغوا لدفنه بطريقة تليق به ؟
إذاكيف إستطاعوا التفكير بالإنتخابات وبالإستثمار الطائفي للجريمة في الساعات الأولى لحدوثها ؟

في الثاني والعشرين من آذار – مارس 2005 نشرت صحيفة النهار اللبنانية مقالا لمراسلها ومراسل قناة العربية في واشنطن السيد هشام ملحم وهو صحافي لبناني موالي للغرب  وعلى علاقة وثيقة جدا بالدوائر الأميركية الرسمية . الرجل حصل على سبق صحفي مع بداية عهد الرئيس باراك  أوباما،  إذ أعطاه الأخير المقابلة التلفزيونية الأولى لوسيلة إعلامية عربية بعد إستلامه للسلطة في البيت الأبيض،  وقد بثت تلك المقابلة قناة العربية في يناير 2009 .
ورد في مقال السيد ملحم في الثاني العشرين من آذار – مارس 2005 :

يصل السفير ديفيد ساترفيلد نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى غدا الاربعاء الى بيروت، في زيارة من المقرر ان تستغرق اسبوعا، وهي مرشحة للتمديد وذلك لضمان وجود تمثيل اميركي على مستوى سفير أو أعلى، خلال فترة غياب السفير جيفري فيلتمان في الولايات المتحدة التي قد تدوم اسابيع بسبب مرض زوجته. وكان من المقرر ان يغادر ساترفيلد واشنطن امس الاثنين، ولكن موعد سفره تأخر الى مساء اليوم الثلثاء. وسوف يصل ساترفيلد الى بيروت قبل يوم من صدور تقرير بيتر فيتزجيرالد رئيس فريق الامم المتحدة لتقصي الحقائق حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ويقول مسؤولون اميركيون ان الأهمية التي يحظى بها لبنان الان في السياسة الاميركية حيال الشرق الاوسط، ورغبة واشنطن في مواصلة الضغوط على سوريا لتنفيذ القرار 1559، تتطلبان تمثيلا اميركيا مهما في بيروت.
ويتحدث هؤلاء المسؤولون عن "الساعات الطويلة" التي تخصص للبنان هذه الايام في مختلف الوزارات والاجهزة الاميركية.

هكذا إذا …ساترفيلد في خضم الأزمة التي تلت إغتيال رفيق الحريري كان مشغولا لا بكشف قتلته وليس من عادة الأميركيين الإهتمام بالعدل وبالقضايا الجنائية إن لم تخدم مصالحهم . أعلنها ساترفيلد دون خجل ولا فزع من عقلانية اللبنانيين.   كان كثر منهم قد سقطوا في فخ الإثارة والتحريض الطائفي الجنوني،  فتوقفت عقولهم عن إستيعاب ما يجري من حولهم .
ساترفيلد قال بأنه قادم للبقاء في لبنان وأن الأميركيين يقضون أوقاتا طويلة للبحث في الموضوع اللبناني (لماذا ؟)
لممارسة أشد الضغوط على سوريا ، لا لأجل لبنان بل لأجل المطالب التي حملها كولن باول ورفضتها سوريا.
إنشاء لجان التحقيق لأجل إغتيال شخصية سياسية لم يحدث وأن حصل قبل قرار مجلس الأمن بالتدخل في موضوع إغتيال الحريري .
المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة لم تنشأ إلا بعد سنوات من وقوع الجرائم ضد الإنسانية هناك،  وهي محكمة تتعلق بإعتداءات على عشرات آلاف البشر ممن سقطوا ضحايا للإبادة. وكذلك هو موضوع المحكمة الدولية الخاصة برواندا .
للحريري فقط أنشأ مجلس الأمن محكمة دولية وارسل لجان التحقيق بعد شهروعشرة أيام فقط من إغتيال الرجل، فلأي سبب ؟
الجواب قاله رئيس المحكمة  أنطونيو كاسيزي وأعلنه جون هانا مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني.
أعلن بصراحة السيد جون هانا (أو حنا)  في الثالث والعشرين من شهر أذار 2009 من على منبر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إذ قال بأن المحكمة سلاح إستراتيجي للضغط على سوريا   (تراجع الحلقة الأولى و هوامشها )
 لجنة تقصي الحقائق التي ترأسها المفوض فيتزجيرالد قررت بأن القضاء اللبناني والأجهزة الأمنية اللبنانية غير مؤهلة للقيام بواجباتها في مسألة كشف قتلة رفيق الحريري.
بعد أربع سنوات على تقريره الذي ناقشه مجلس الأمن في الثلاثين من آذار 2005 ، هل حال القضاء الدولي  ولجان ميليس للتزوير والتلفيق (بشهادة جون هانا وأنطونيو كاسيزي) أفضل ؟
من يقرأ الفقرة الواردة في الصفحة 165 من كتاب الناطق السابق بإسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان (الطبعة الإنكليزية الصادرة عن بابليك أفير بي بي أس) يشعر بأن إستخدام مقياس المفوض فيتزجيرالد لإنشاء المحاكم الدولية قد يؤدي إلى قرار دولي بوضع اليد على الرئاسة الأميركية وعلى القضاء الأميركي كله .
في تلك الفقرة من كتابه " ماذا حصل " يروي ماكليلان كيف تلاعب مساعدو ديك تشيني بحياة عميل سري لسي أي أيه هي زوجة السفير الأميركي السابق في النيجر فاليري بلام ، والتي كشف مساعد مقرب من تشيني هو سكوت ليبي عن هويتها لإحدى الصحافيات (صهيونية بالمناسبة)  إنتقاما من كشف زوجها لزيف التقرير الإستخباري عن إستيراد العراق للكعكة الصفراء
 (يوارنيوم ) من النيجر.
نائب رئيس أميركا عاقب سفيرا لبلاده بأن  نفذ عبر مساعديه محاولة لقتل زوجته عميلة الأجهزة الأمنية الأميركية التي كانت قيد الخدمة ، فهل مثل هذا المجرم يتورع عن قتل الحريري إن كان له مصلحة في ذلك ؟
مجلس الأمن أنشأ لجنة التحقيق الدولية  بمقتل الحريري بناء لتقرير فيتزجيرالد الذي شكك فيه بأهلية الأجهزة الأمنية اللبنانية والقضاء اللبناني لكشف القتلة .
القضاء الأميركي لم يكن مؤهلا أيضا لمعاقبة ديك تشيني وسكوت ليبي على كشفهم لفاليري بلام ، فلا تشيني حوكم ولا بلام نالت تعويضا عن محاولة قتلها المتعمدة . شيئ من العزاء في هذا الامر ، فمن ساواك بنفسه ما ظلمك .
(يتبع )
\

 

 

هوامش : في السابع من تموز – يوليو 2006 ، أعلن الجيش اللبناني في بيان له أن رجلا لبنانيا متهما بعلاقاته بالمخابرات الإسرائيلية اعترف بتنفيذ سلسلة اغتيالات شملت مسئولين بارزين من حزب الله وميليشيات فلسطينية منذ العام 1999 لصالح الموساد الإسرائيلي.
وأوضح البيان أن محمود رافع الذي اعتقل مع ثلاثة آخرين لعلاقته بقتل اثنين من مسئولي الجهاد الإسلامي في 26 مايو 2006 يعد أحد أبرز أعضاء شبكة إرهابية كانت وراء ثلاثة اغتيالات على الأقل في لبنان.
وجاء في البيان أيضا :" تبين من التحقيقات التي أجرتها مديرية المخابرات، أن الشبكة المكتشفة ترتبط بجهاز الموساد الإسرائيلي، منذ عدة سنوات وقد خضع أفرادها لدورات تدريبية داخل إسرائيل وخارجها وقد كلفت الشبكة من قبل الجهاز المذكور بتنفيذ تلك العمليات
 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى