أرشيف - غير مصنف
صورة من الذاكرة
د/ نصار عبدالله
رغم أن الدكتور عمرو محيى الدين واحد من أبرز علماء الإقتصاد فى مصر والعالم العربى ، ورغم أنه أستاذ فى الكلية التى تخرجت منها ( الإقتصاد والعلوم السياسية ) ، بل فى القسم الذى التحقت به (الإقتصاد)، …رغم ذلك فلم يقدر لى أن أراه أو أن ألتقى به طيلة فترة دراستى ، والسبب فى ذلك بسيط، وهو أننى تخرجت من الكلية عام 1966، بينما سيادته قد انضم إلى هيئة تدريسها بعد ذلك بسنوات ، ومع هذا فقد قدر لى أن ألتقى به بعد ذلك فى عام 1976 فى مصادفة غريبة جدا، وفى مكان لم أكن إطلاقا أتوقع أن ألتقى بسيادته فيه !،… لقد التقيت به فى مستشفى الكلب!!!.أما سبب ذهابى إلى تلك المستشفى فقد كان نتيجة لواقعة طريفة أظن أن فيها ما يجعلها جديرة بأن تروى ، فقد زارتنا يوما فى بيتنا بالقاهرة ( وكنت إذ ذاك مازلت مقيما بالقاهرة ) ، زارتنا سيدة عجوز من بلدياتنا اسمها :" فلامينا" ، …. حين رأتنى تذكرتنى وصافحتنى، وقرنت المصافحة بما اعتادت عليه السيدات الجائز من بلدياتنا ، أعنى أنها قرنتها بتقبيل اليد !،…. لكنها حين قبّـلت يدى شعرت بأن أسنانها تكاد تنغرس فيها فجذبتها من بين براثنها وأنا أكاد أصرخ من الألم!! ، وفى اليوم التالى بلغنى أن السيدة فلامينا قد حجزت فى مستشفى حميات العباسية لاشتباه إصابتها بمرض الكلب ، ثم لم تلبث بعد ذلك طويلا حيث فارقت الحياة بعد بأيام !!، وعندها أصبت بالفزع وقررت أن أهرع إلى مستشفى الكلب الذى لم يكن بعيدا عن منزلى فذهبت إليه ، وفى المستشفى كانت المفاجأة حين التقيت بأستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم صقر عليه رحمة الله وفى صحبته من عرفت يومها أنه الدكتور عمرو محيى الدين ،…. وبطريقته المعهودة ، التى جعلته أخا كبيرا وصديقا حميما للكثيرين من طلاب كلية الإقتصاد من جميع أقسامها وليس فقط من القسم الذى يدرس فيه ( العلوم السياسية ) بطريقته المعهودة استقبلنى الدكتور صقر بالأحضان ، وراح يسألنى عن آخر أخبارى وسبب مجيئى إلى مستشفى الكلب ، وعندما حكيت له الحكاية ضحك طويلا وقال لى : الدكتور عمرو ..أيضا خدشته قطة ثم هربت!!، فانتابه وسواس وطلب منى أن أصاحبه إلى مستشفى الكلب ! لكى يحصل على اللقاح من باب الحيطة!! ،… يبدو أننا وصلنا متأخرين …، فقد كان طابور المنتظرين طويلا، وعلى رأس الطابور كانت هناك منضدة صغيرة عليها موقد بوتاجاز صغير مشتعل ، وحولها طاقم من ثلاثة يبدو من سيماهم أنهم: طبيب وحكيمة وممرضة، ..كانت الحكيمة تطلب من كل شخص أن يكشف عن بطنه فى الوضع : واقفا وهى تدون بيانات معينة فى بطاقة أمامها ، ثم يقوم الطبيب بحقنه فى عضلات البطن ، …كان يستخدم سرنجتين زجاجيتين بالتبادل ( لم تكن السرنجات البلاستيكية قد شاعت بعد)، حيث كان يقوم بالحقن بإحدى السرنجتين ثم يعطى السرنجة للمرضة التى كانت تقوم بتسخين إبرتها على شعلة البوتاجاز إلى أن تحمر، ثم تغمسها فى سائل لكى تتطهر، بينما يقوم الطبيب باستخدام السرنجة الأخرى لسحب جرعة اللقاح وحقن الشخص التالى، ثم يناولها للمرضة، لكى تقوم بتعقيم إبرتها ، ويأخذ منها السرنجة السابقة ، وهكذا دواليك !!! ( ثبت فيما بعد أن هذه الطريقة لا تضمن التعقيم التام ، ولهذا السبب فقد كان استخدام السرنجة الزجاجية فى حقن أكثر من شخص واحدا من أهم أسباب انتشار عدد من الأمراض المعدية فى مصر، وعلى رأسها الإلتهاب الوبائى الكبدى !!) ، ..أمسك بى الدكتور إبراهيم صقر بإحدى يديه وأمسك بالدكتور عمرو باليد الأخرى واقتادنا معا إلى الطبيب قائلا: "الدكتور عمرو محيى الدين ابن عم الدكتور فؤاد محيى الدين وزير الصحة ، ومعا ه الدكتور نصار، وعايزين ياخدوا المصل " …رحب بنا الطبيب وأعفانا من إجراءات الدخول وطلب من الحكيمة أن تحررلنا بطاقة بمواعيد الحقن ، وقام بإعطاء كل منا أول حقنة !!!… قفزت إلى ذهنى ذكرى تلك الواقعة حين قرأت فى العدد الماضى من الفجر عزاء تقدم به الأستاذ عادل حمودة والأستاذة منال لاشين إلى الدكتور عمرو محيى الدين فى وفاة المغفور لها بإذن الله السيدة زوجته ، وقد وجدتها مناسبة لكى أتقدم له بدورى بخالص العزاء فى مصابه ، ولكى أستعيد فى الوقت ذاته ذكرى أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم صقر الذى مضت سنوات طويلة على رحيله لكنه ما زال حاضرا وساطعا فى قلوب كل من عرفوه .