التجسس في لبنان
د. مدين حمية
تهاوي الخلايا الجاسوسية الإسرائيلية، شكل من دون أدنى أي شك, صفعة قوية للإستخبارات الإسرائيلية، لكن في المقابل شكل صدمة قوية للبنانيين، إذ كيف يقيم على أرض المقاومة في الجغرافيا الوطنية اللبنانية هذا الكم الكبير من الجواسيس.
عدد الجواسيس المعلن عنهم حتى اللحظة، يكشف عن ثغرات خطيرة على المستوى الأمني في لبنان، وهو أمر يعيد الحديث إلى مربعه الأول، أي إلى بداية عمليات الاغتيال السياسي في لبنان، انكشاف الساحة اللبنانية أمام الاختراقات الاستخبارية الاسرائيلية والمتعددة الجنسيات. كما تطرح هذه القضية أسئلة كثيرة حول أداء المسؤولين الأمنيين في لبنان، سواء أكانوا رؤساء دوائر صغرى أم كبرى.. وألا يطرح هذا التحدي سؤالاً جوهرياً، لماذا كل هذا الكم والكيف التجسسي في بلد أذاق "إسرائيل" مرارة الهزائم المتتالية؟. وهل يتساءل هؤلاء المسؤولين عن الأسباب التي أدت الى هذا الأمر الخطير؟
شخصياً لا أملك جواباً. لكن من المفيد جداً أن نعرج على مفهوم التجسس.
الثابت هو أن الإستخبارات هي الجهة المعنية بصيانة الأمن القومي للوطن وهي الذراع الطويلة لدرء الأخطار عن الدولة ومكوناتها. وهي تتألف من "واجب إستخباري"، "ممكن إستخباري"، "جسم إستخباري" و"جسماني إستخباري".
الواجب الإستخباري هو قتل الخطر قبل أن يتجاوز الحدود الداخلية والخارجية لجسم الوطن. والممكن الإستخباري هو إستكمال الكمالية للإستخبارت خارج الوطن لدفع المحتمل الهجومي على الوطن. والجسم الإستخباري هو الفكر والدرع والمسببات الأساس المتعلقة بالجيش والإقتصاد والسياسة والثقافة الداخلية للوطن. والجسماني هو اللون الذي يكتسبه الجسم الإستخباري من حيث نجاحاته على سلم النسبية في العمل الخارجي.
الجسم الإستخباري هو واجب الوجود للدولة، بوصفه صمام الأمان الذي يسهم في تحصينها ودفع الأعراض ذات المخاطر الكبرى والصغرى عنها، لا سيما أعراض التجسس الداخلي وهو ما يسبب الأعراض الجسمانية على الجسم الإستخباري وبالتالي على جسم الوطن كله.
لا شك أن أولى موجبات الجسم الاستخباري، مكافحة حالات التجسس التي تحصل إما بسبب الإقتصاد الفردي والترانسندنتالي وإما بسبب التباس ما في معنى ومفهوم الإنتماء أو بمجرد حالة الإقصاء عن جسم الدولة وتحويل الفرد إلى هامش الأرقام المتخلفة المنبوذة، وهذه كلها أسباب تقتل مناعة الردع الذاتي لدى الفرد فيتحول إلى علة إنتقام من جسم معين، داخل الدولة أو ضد جسمانية تحقيرية لحقت به.
هذه الإشارة ضرورية، من أجل التحريض على وضع الأولويات والخيارات بغية القضاء على آفة التجسس الداخلي لمصلحة العدو بوصفها جريمة بشعة ضد الوطن والمواطن والكرامة. والالتفات إلى هذا الجانب مهم، لأنه من الأسباب الكبرى المتعلقة بالمساحة المتاحة للتجسس الداخلي. فعندما تقتل الأسباب الوجودية للفرد، تدفع به الى الإنحراف واقتراف أفعال جرمية تتنافي مع مصلحة الوطن.
إذا عدنا بالتاريخ الى بداية الكون نجد ان الله خلق الأشياء والنِعم وبعدها خلق البشر هذا على مذهب الأديان السماوية، وإذا أخذنا المذهب المادي فالطبيعة أوجدت نفسها وبعدها نحن البشر.
وفق الأديان السماوية، فإن الله منحنا حوافزاً مادية لكي نؤمن به، بمعنى أخر، لقد أطعمنا وأنزل علينا الرسالة. ووفق المفهوم المادي، فإن الطبيعة أعطتنا وأطعمتنا ومن البديهي ان نتبع لقمة عيشنا.
أما في مفهوم الدولة، فإنه من الطبيعي أن توفر الدولة مقومات العيش الكريم لمواطنيها لتعزز في نفوسهم معنى المواطنة والانتماء والاخلاص، لكن المفارقة أنه ومنذ العام 1989 ابتدعت مقولة "الأمن قبل الرغيف" ونتيجة هذه المقولة رزح اللبنانيين تحت دين عام بدأ يتخطى عتبة الستين مليار دولار، لا ناقة للبنانيين به ولا جمل، لا بل مطلوب من المواطن أن يسدد فاتورة خدمة الدين العام من أجل بريستيج ورفاهية المسؤولين الذين يقتسمون جبنة الهدر والفساد.
الم يقل الله في كتابه الكريم" فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" ألا يعني ذلك أن الرغيف هو قبل الأمن.
الرغيف ليس ممكن وجودي للإنسان بل هو واجب وجودي لإستمرار الإنسان. فمقولة "الأمن قبل الرغيف" ما هي إلا فذلكة إستنباطية من الممكن الجسدي للقانون المرتكز على روحية طاغوتية هدفها الإبالة لطبقة معينة وحمايتها، اما الشعب الى الجحيم.
صورة أخرى في لبنان تستوقفك مذهولاً ألا وهي كثرة المصانع الإنتاجية وندرة اليد العاملة، بحيث تستورد الدولة مهندسيين وعمالاً من الخارج كي لا يقف الخط الإنتاجي للمصانع، وإلا وقعوا بكارثة جسيمة ككارثة الناسداك في نيويورك. مما يستدعي المستثمريين لدينا في اللحم الأبيض الى سحب أموالهم والإنتقال الى خارج الدولة.
وتقف مذهولاً أيضاً أمام التجانس الاخلاقي والتوازن العملي والطبقي ما بين الحكام ودائرتهم من جهة والشعب من جهة أخرى، وكأننا في المدينة الفاضلة.
كما تقف مذهولاً أمام معضلة الدعم الرِئاسي والوزاري والنيابي و… بالمادة والعتاد للزراعة اللبنانية بحيث أصبحنا ننافس كوكب المريخ.
صورة أخرى في لبنان تستوقفك مذهولاً ألا وهي أن المستشفيات والمدارس والجامعات و… كلها بأسعار مدروسة جداً وكأننا في البلاد الإسكندينافية، بل وخدماتها أفضل فأصبحنا في خدماتنا الإجتماعية ننافس أفغانستان والصومال.
صورة أخرى في لبنان تستوقفك، ألا وهي المنهجية المتبعة في الجامعات والمدارس والبلديات و… وهذه المنهجية عبارة عن إنفاق معتدل لبرامج توعية للبشر كي لا نقع في شباك العنكبوت الصهيوني وكيفية الإبلاغ عن أي مكيدة. بحيث أصبح كل فرد في لبنان مثقف إستخباري من المستحيل ان يقع في شباك العدو.
صورة أخرى في لبنان تستوقفك ألا وهي صولات وجولات السفارات الأجنبية على المواطنيين، لكن كما علمنا بأن الخارجية اللبنانية أخذت تعهدات من قبل السفارات بأنهم قطعوا التعاون الإستخباري مع العدو الإسرائيلي، وبذلك حصل لدينا الأطمئنان بأن تلك السفارات لن تحول معارفها الى أحجار شطرنج للعدو الصهيوني الغاشم.
صورة أخرى تستوقفك في لبنان ألا وهي كيفية التعاطي مع العملاء وكيفية إكرامهم، أولها كوبُ من الشاي وأخرها صينية معكرونة، فنحن في لبنان مثل كوكب المشتري لا نعدم المتعاملين مع العدو الإسرائيلي بل نحضنهم ونثقفهم .. وعفا الله عم مضى.. حتى ولو كان الآتي أعظم…
عذراً.. سأتوقف عن الكتابة لإطعِم القلم قليل من الحبر وإلا قتل نفسه.
فهل أدركتم لماذا هذا الكم والكيف؟