إقامة الكائن في البياض.. قراءة في شعر مصطفي فتحي
د.أحمد الصغير
– إن الشاعر مصطفي فتحي من شعراء جيل الثمانينيات في مصر، فقد صدر له ثلاثة دواوين شعرية وهي (مواسم الأوز والدخان 1997،وقيامة الأعضاء 1999،وإقامة الكائن في البياض 2008)ومن الملاحظ أن مصطفي فتحي من الشعراء الذين يمهلون أنفسهم في عملية النشر، حتي تستوعب الساحة الثقافية نصوصهم التي تتمرد علي السائد والمألوف وتجنح إلي التجريب و خلق بلاغة جديدة للنص الشعري الحداثي ، ومن ثم فقد اتكات هذه القراء النقدية علي استنطاق النص الشعري الأخير (إقامة الكائن في البياض)لأن فتحي انشغل بصياغة عالمه الشعري منذ أوائل الثمانينيات تحديدا فجاءت أعماله الشعرية معبرة عن هذا العالم الذي تكمن داخله الذات الشاعرة المتمردة علي الواقع المعيش وتجلي ذلك في قوله:"نلتقي/ قرب أحزاننا/ننتهي في حواش الكلام. نفتح في الأبدية المغاليق
ونخطر وحدنا
في دهاليز الوحشة
اقتربي لأضمك
أملا الفراغ
في حفرة الذاكرة
وأسدد سهما في الغيم."
لاشك أن الذات الشاعرة تنشغل بخرق حواجز الوحدة والانفصال الذي يقترب من التمام ،هذا الانفصال المأساوي الذي تغلفه الوحشة والتمزق والانهزامية المريرة ،ولا تستطيع الذات أن تبلغ غايتها، فتسدد سهما في الغيم الذي ينتشر حولها ،و يضللها ويجعلها تفقد صوابها المحتمل،ثم تعود الذات الشاعرة، لتعلن عن إحباطاتها السرمدية إزاء الواقع فيقول مصطفي فتحي:"كم أنا محبط
سرقتنا المواعيد يا حبيبة
والمطارح لم تعد تتسع
لصراخ
أخير!!
الذات الشاعرة إذن لاتستطيع أن تتخلص من هذا الإحباط الذي سيطر علي قلب الواقع ،وأصبح العالم ضيقا ،فلا يتسع حتي للصراخ، ويقول في مقطع آخر :
أنا الطلقة القادمة "
والانفجار المؤجل،
والهزيمة التي
تمشي علي قدمين".
تعلن الذات الشاعرة في المقطع القصير السابق عن تمردها الشديد وانفجار كياناتها المتعددة، وفي الوقت نفسه تعلن عن هزيمتها الكبري التي تسير بين جموع الشعب ،ومن الملاحظ اتكاء الشاعر مصطفي فتحي علي المفارقة التصويرية التي تجعل المتلقي في حالة من الحيرة الشديدة كيف تكون الذات طلقة قادمة ،وهزيمة تمشي علي قدمين في آن واحد،إن اللعب بالمفارقة هو المحك الرئيس في تجربة فتحي الشعرية ،وهذا اللعب له ما يبرره من حيث الدلالة لأن الذات تشعر بالضياع الكامل في عالم لا يري إلا نفسه (أناه) متغطرسا ومتشحا بالنفاق والتملق ،فالنص الشعري إذن صورة من صور الانفلات والتمرد والتناقض الذي تحياه الذات، وفي قصيدة الدرس نلاحظ مجموعة من الاستدعاءات المختلفة لأعلام من الشعراء والفلاسفة والروائيين ……..وغيرهم فيقول:
سبع مرات تقاطعني حاملات القرابين /غير أنني ـ في التلاوة الآثمة ـ ماض إلي الوراء، موشك علي النفاذ في الخواء المزين لي، ومؤتمر بالسوء إلي ماتعلمون / علما نافذا إلي الخلاص والفجيعة ،لا أمان لي إذا ضللتموني
هكذا
أ
ص
ع
د
مخفورا بظلي
ومؤتما "بمالارميه،وبوشكين،وفوكنر،واراجون،ومونتين،وكانط،وهيجل،وكامي،وسارتر،ورامبو،وبودلير،وتشيكوف،وانجلو،وايكو،ودانتي،وميكافيللي".لاشك أن استدعاء هذه الشخصيات العالمية التي أثرت في تكوين الشاعر نفسه، وتجلي ذلك الأثر في الحس الصاخب الذي تتبناه الذات الشاعرة من حين لآخر علي الرغم من أن توظيف هذه الشخصيات جاء عن طريق الاسم فقط إلا أنها أصبحت تؤدي دوا رئيسا في نسيج النص الشعري نفسه بل هي بنية داخلية في النص لاخارجية ،ولا يخلو هذا من دلالة واضحة مفادها ،انفتاح الخطاب الشعري الثمانيني علي الخطابات الأخري التي تمثل ركنا قويا في توجيه النص من حيث الدلالة ؛لأن شعرية النص عند مصطفي فتحي تشي بالجنوح المباشر الي استكناه العوالم الأخري ،وقد تجلي ذلك أيضا في استدعائه لمجموعة من الأسماء لشخوص بعينهم في نصه ( قصائد المقهي) ،فيقول:" لا هم للنادل في مقهي رباب
سوي البحث عن غرباء ،
ليسرقهم ملحهم
غير أن الوجوه القميئة:
نفس الوجوه القميئة
يا أولاد الكلب
كلكم
من بلد
واحد ؟
2
يعرف فرج وحده كيف يفرغني نقودي،
ويملؤني بالكلام!
3
لماذا
لا يكون النيل مرآة
لوجه خالد هاشم؟!
4
واحد فقط
لايبحث عن محمد سعد
هومحمد سعد!
5
انفجر كرش خيري السيد
فخرج منه سبعون محررا صغيرا
تحت التمرين
6
أملك
أن أغير العالم
من بصقة
واحدة
تعرفون أين أبصقها!!
لاشك أن النص الشعري السابق يتكيء علي تقنية المفارقة التي تتجلي من خلال استدعاء هذه الشخصيات التي تعد نموذجا للفساد في الواقع المعيش ، وعلي الرغم من السخرية اللاذعة التي تنشغل بها الذات الشاعرة فإن الكوميديا السوداء هي التي تتصدر المشهد الشعري من خلال الحديث عن كل شخصية بعينها في مقطع شعري منفصل ،
وفي النهاية لابد من القول إن مصطفي فتحي من الشعراء الذين آثروا الابتعاد عن الأضواء ،حتي يتثني له مراقبة المشهد الشعري ومحاولة الإضافة لهذا المشهد من خلال الفعل الكتابي فهو مفتن في شعره زاهد في حياتنا لكنه في قلوب القراء كامن ،يفتح نوافذ الغيب الشعري ،ويفجر المشاعر المستكينه من خلال نصه المفعم بالحضور.
دكتور/أحمد الصغير