أرشيف - غير مصنف

قبلة على جبين الأردن الغالي في ذكرى استقلاله

محمود عبد اللطيف قيسي

قبل احتلال فلسطين وسائر بلاد الشام في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي من قبل بريطانيا العظمى وفرنسا اللاحقة بها ، شهدت البلاد العربية يقظة فكرية ثقافية تمحورت في سوريا الكبرى وفي مصر العربية الرائدة  في التحرك دائما من اجل القضايا العربية والإسلامية ، والتي هدفت لبلورة الفكر النضالي العربي القومي ضد الاستبداد التركي الآخذ بالتبلورعلى يد الاتحاديين العلمانيين الذين أصبحوا بديلا للعثمانية الإسلامية ، كما وفي مكة حاضرة جزيرة العرب عاصمة الخلافة الإسلامية الأولى التي شهدت حركة فكرية جهادية سياسية شاملة خطتها الثورة العربية الكبرى التي قادها شريف مكة العربي المسلم سليل آل البيت الأطهار الحسين بن علي طيب الله ثراه ، والتي تحركت لمسك أمور الشعوب العربية المتقطعة الخيوط والمبعثرة في الجزيرة العربية وبلاد المشرق العربي ، فقد استغلت الثورة العربية الكبرى بشكل منطقي وناجح كل الأوضاع والظروف والصراعات الدولية المحيطة بالمنطقة العربية وبالرجل المريض التركي ، بهدف الحصول على الدعم الأوروبي الصريح لمصلحة القضية العربية المتمثلة بضرورة إقامة دولة عربية واحدة موحدة حال الخلاص من العنصرية والدموية والدكتاتورية التركية ، من خلال تفاهمات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة بين الأوروبيين الأقوياء الذين يمتلكون جيوشا قوية قادرة على خوض حرب عالمية ويحضرون لها ، وبين ثورة عربية واعدة اخذت تتشكل وتتهيأ بكل مقوماتها وابعادها السياسية والتنظيمية والإدارية والعسكرية ، هدفها الرئيسي والأساسي إقامة دولة عربية واحدة في عموم الجزيرة العربية والمشرق العربي ، بما يخدم مصالح العرب القومية والإستراتيجية المنظورة وبعيدة المدى في منطقتهم العربية وللإفلات من المجهول المنظور الذي قد ينتظر الشعوب العربية فيما لو وقفوا ضد الجيوش الغربية المنفلتة الراغبة بمهاجمة المنطقة بإذن أوبدون إذن أهلها ، وكنتيجة طبيعية لمواقفها الوطنية القومية تجاه كل القضايا العربية عامة والفلسطين خاصة فقد نجحت الثورة العربية الكبرى من أسر لب وقلوب جميع أحرار العرب في بلاد الشام التي منها فلسطين ، وبسبب تطلعاتها وايدلوجيتها الدينية وأهدافها بإقامة خلافة عربية إسلامية ، وبسبب قيادتها الهاشمية وشرعيتها الدينية والدستورية ، وإنضباطيتها المتناهية ومسلكياتها الثورية ومهامها الوطنية القومية التي عاهدت أمتها العربية عليها وسعت إلى تنفيذها .
في صيف عام 1917م تمكنت القوات البريطانية والعربية المتحالفة معها من دخول الأردن لتحريرها من الوجود التركي الاستبدادي الظالم وللمساعدة بتمكين الأمة العربية من الاستقلال حالما تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها من وجهة النظر العربية ، ولتحريرها وفلسطين واستعمارهما بعد ذلك ثم تمكين اليهود من فلسطين من وجهة المستعمر المتآمر القاتل ، والتي تقدموا نحوها من ثلاث محاور ، من الجنوب عبر سيناء انطلاقا من مصر والتي كان من بينها اللواء اليهودي المجوقل في الجيش البريطاني الذي تميز ببراعة تدريباته وبقتاله تحت راية بيضاء يتوسطها خطان أزرقان متوازيان وسطهما نجمة داوود سداسية الاضلاع ، الراية التي أصبحت لاحقا علما لدولة إسرائيل ، واللواء نفسه الذي اصبح عماد جيش الدفاع الإسرائيلي في دولة إسرائيل الكيان ، كما وساعد بالهجوم الإنزال البحري للقوات البريطانية من السفن الحربية وسفن الإمداد التابعة لها عبر الشواطىء الفلسطينية الطويلة على البحر المتوسط وخاصة عبر ميناء حيفا ، كما ونزلت معهم واحيانا بواسطتها الآلاف من اليهود للاستيطان في فلسطين ، ومن الشرق دخلوها عبر نهر الاردن بقوات بريطانية فقط بعد أن منعت قوات الثورة العربية الكبرى من مرافقتها والاشتراك معها بالقتال بهدف منعها من التمركز فيها مساهمة من الإنجليز بتهيئة الظروف لوعد بلفور المشؤوم الذي كان أعطي لليهود سرا  قبل اشتعال الحرب العالمية الأولى ، والذي أصبح واقعا بضغط أمريكي روسي وأوروبي كبير وموحد سنة 1917م .
كان لسمعة الثورة العربية الكبرى التي جاءت محررة ومنقذة للأمة العربية وموحدة لها ، ولسمعة الشريف الحسين بن علي الشخصية العربية الإسلامية المحبوبة جماهيريا ، أن ساهمتا في تمكين الأمير عبد الله بن الحسين ذو الشخصية القيادية القوية الجريئة المقتدر سياسيا من تشكيل إمارة شرق الأردن والبدء بصقل الشخصية الوطنية الأردنية ، بعد مباحثات مضنية بين الأمير عبد الله بن الحسين ورئيس وزراء بريطانيا تشرتشل في مدينة القدس حيث اعترفت له بريطانيا رسميا بقيام حكومة مستقلة في شرق الأردن في أيار من عام 1923م .
وكما واجهت الثورة العربية الكبرى المؤامرة البريطانية ضد الأردن وفلسطين وباقي بلاد الشام بحد سواء ، واجهت إمارة شرق الأردن المؤامرة بما توافر لها من قوة سياسية واجتماعية وعسكرية ، فقد شارك الشعب الأردني وقياداته بكافة الثورات التي اجتاحت فلسطين بدءا من ثورة البراق 1921م مرورا بالثورة الفلسطينة الكبرى عام1936م ، وبعد أن نال الأردن استقلاله وتشكلت المملكة الأردنية الهاشمية في 25 / 5/ 1946م ، شارك الجيش العربي بالحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948م بالرغم من أن الجنرال جلوب الإنجليزي الذي كان قائدا له حاول منعه من أداء واجبه ، كما هو حال جميع الدول العربية المحتلة أو الخارجة من الاحتلال حديثا التي كانت مازالت مرتبطة بمعاهدات بينها وبين المحتل الأقوى ، فقد استشهد في هذه الحرب غير العادلة والتي كانت كل مؤشراتها تميل لمصلحة اليهود ومن ورائهم عددا كبيرا من أفراد وضباط الجيش العربي والمتطوعين الأردنيين الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى فلسطين .
وحتى لا تتمكن القوات الإسرائيلية من اكمال سيطرتها على كل الأرض الفلسطينية بما فيها القدس ، أعلن الشعبين الفلسطيني والأردني أول وحدة اندماجية بالتاريخ الحديث وذلك بالعام 1950م ، من أجل الحفاظ على ما تبقى من الأرض الفلسطينية في فلسطين الشرقية قانونيا لحين بروز إرادة وقيادات فلسطينية صادقة مخلصة تقود شعبها وقضيتها نحو الحرية والاستقلال ، الوضع السياسي والأخلاقي الخلاق الذي دفع الملك الأردني الشهيد عبد الله الأول المؤسس حياته ثمنا لمواقفه الوطنية والقومية تجاه القضية الفلسطينية وذلك بعد عام واحد فقط من اعلان الوحدة بين الضفتين .
أما الشعب الفلسطيني الذي عشق وأحب الملك الشهيد طيب الله ثراه وخسر كثيرا لفقدانه فقد كان عزاءه بتولي الملك العربي الهاشمي الوطني القومي الحسين بن طلال سلطاته الدستورية في الأردن عام 1953م ، الذي وما أن تمكن من الحكم حتى قام فورا بتعريب قيادة الجيش العربي الأردني عام 1956م وإقصاء البريطاني الجنرال جلوب عن قيادتها التي حملها المسؤولية المباشرة والكاملة لضياع فلسطين بيد الإسرائيليين ، الخطوة والموقف الوطني الجريء الذي أظهر الحس الوطني القومي الكبير لجلالته ، كما واظهر عاطفة صادقة جياشة مع الشعب الفلسطيني الذي فقد أرضه ووطنه ، ومسؤولية تاريخية من أجل بناء أردن عصري حر وطني وعربي قومي .
وعلى عهد ه الميمون احتضن الأردن ملكا وحكومة وشعبا الثورة الفلسطينية حال انطلاقتها ، ودعم وبكل طاقته منظمة التحرير الفلسطينية الذي ومنذ البداية طالب كل الأطراف العربية بتحييدها عن الصراعات بينها من أجل خير القضية الفلسطينية ولتأهيلها لمسك وإدارة الملف الفلسطيني ، كما وخاض الجيش العربي الأردني بكل بسالة معركة الكرامة الخالدة  بمشاركة فاعلة من قوات الثورة الفلسطينية حيث سطر الشقيقين انتصارا كبيرا ممزوجا بالدم على الجيش الإسرائيلي الذي صدّق قبلها انه لا يقهر ، المعركة التي مهدت السبيل لانتصار العرب في حرب رمضان عام 1973م  .
وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982م كان الأردن من أوائل الدول العربية التي نسقت الجهود العربية والوطنية لدعم منظمة التحرير الفلسطينية ، بهدف إيقاف المجزرة الصهيونية بالتنسيق الكامل والتام مع مصر والسعودية ، المجموعة الأساسية من الدول العربية التي أرسلت مساعداتها الإنسانية الكبيرة إلى لبنان بهدف تمكين المقاتلين المحاصرين والشعبين اللبناني والفلسطيني على الصمود ، كما وفتح الأردن مستشفياته وعياداته الحكومية والخاصة وأرسل مشافيه الميدانية ذات الأمكانيات المادية والعينية والتقنيات المتطورة إلى لبنان لتقديم الدعم الطبي الضروري لمساعدة الجرحى العسكريين والمدنيين على حد سواء ، وتم أيضا الطلب من الشعب العربي الأردني التبرع بالدم لصالح إخوتهم في لبنان ، من جهة ثانية سمح الأردن لآلاف المتطوعين من الشباب الأردنيين من الذهاب إلى لبنان للإلتحاق بصفوف الثورة الفلسطينية للدفاع عنها وعن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفسطينيي .
كما وبناء على طلب رسمي من القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية ياسر عرفات، سمح الأردن لقوات جيش التحرير الفلسطيني ( قوات بدر ) المرابطة في الأردن ، التي تمتاز بالتدريب العالي والانضباط الممتاز ، وبالقدرة على القتال في مواقع قتالية ثابتة ، واتقان عمليات فدائية خلف خطوط العدو وفي واجهاته الأمامية بمغادرة الأراضي الأردنية للدفاع عن الشعبين اللبناني والفلسطيني المستهدف من الجيش الإسرائيلي .
وبعد الخروج الفلسطيني المسلح من لبنان عام 1982م فتح الأردن أراضيه لقادة وكوادر فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها انطلاقا من الروابط والعلاقات المميزة التي تجمع الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني والمصير المشترك ، كما وقدم الأردن طائرات أردنية خاصة للرئيس ياسرعرفات لتمكينه من التنقل بين دول العالم لحشده التأييد للقضية الفلسطينية .
في صيف العام 1988م أعلن جلالة الملك الحسين بن طلال بخطاب وطني موجه للأمة العربية وتحديدا للشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني قراره التاريخي المتعلق بفك الإرتباط بين الضفتين الشرقية والغربية قانونيا وإداريا إستجابة لطلب منظمة التحرير الفلسطينية بهدف تهيئتها للقيام بدورها القانوني والدستوري على أرض فلسطين ، ولتمكينها من الاطلاع بمسؤولياتها نحو بناء دولة فلسطينية من خلال إشغال مقعد فلسطين في كل المؤتمرات ومحادثات السلام التي مهدت لدخول ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية لأرض الوطن عام 1994م ، وبهدف تمكين دولة فلسطين من إشغال مقعدها الدائم في الأمم المتحدة حال إقامة الدولة الفلسطينية فعليا والتي أعلن الشهيد ياسر عرفات قيامها رسميا عام 1974م .
ومع تفجر الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي أضاف لها جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله كلمة ( المباركة ) ، وقفت الحكومة والشعب العربي الأردني وبمختلف أطيافة مع الشعب العربي الفلسطيني في محنته ، فقدمت له وعلى الدوام المساندة والدعم والتأييد من أجل إخراجه وقضيته العادلة من عنق الزجاجة تمهيدا لإحقاق حقوقه الوطنية المشروعة ، فقد قامت الحكومة الأردنية بتوجيهات ملكية سامية بالكثير من الخطوات العملية والسياسية لدعم الشعب العربي الفلسطيني في انتفاضته السلمية المجيدة ، ولإيصال صوته وصورته الحقيقية كشعب يبحث عن حقوقه ودولته الهدف من إشعال ثورته الانتفاضة لكل بلدان وشعوب العالم ، وإلى كل المحافل الدولية الرسمية والشعبية من أجل حشد التأييد للشعب العربي الفلسطيني وقيادته الشرعية الوطنية ، وضمان تأييد العالم لنيل الشعب الفلسطيني كل حقوقه الوطنية المشروعة التي يبحث عنها وما زال منذ نكبته وحتى الآن .
وبعد فشل محادثات كامب ديفيد الثانية بسبب مواقف ياسر عرفات الوطنية ومصداقيته مع شعبه وقضيته وعدم تنازله عن الثوابت الوطنية الفلسطينية ، التي بسببها المباشر قامت إسرائيل بهجمة شرسة على عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي القاتل أريئيل شارون ، استمر الأردن بتقديم كل أنواع الدعم المادي والعيني والتأييد السياسي للأشقاء الفلسطينيين لتمكينهم من مواجهة ذيول المرحلة وتجاوز نتائجها ،والضغط وبكافة الاتجاهات لوقف الهجمة الإسرائيلية الشرسة ضد السلطة الفلسطينية وشعبها وأجهزتها .  
وبعد انتقال جلالة الملك الحسين بن طلال محبوب الجماهير العربية والأردنية ومعشوق الشعب الفلسطيني إلى جوار ربه مغفورا له بإذن الله سنة 1998م ، بكاه الشعب العربي جميعا ونعاه وحزن على فراقه ، لكن عزاءه كان بتولي الملك الشاب جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين أطال الله عمره لسلطاته الدستورية ، الذي وعلى ذات الخطى عربيا هاشميا وطنيا قوميا قدم وما زال كل الدعم المادي والعيني والتأييد السياسي للشعب الفلسطيني وقضيته وقيادته للوصول به نحو الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف فوق أرض فلسطين .
 
              [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى