أخطاء ” فتح “…. وخطايا ” السلطة “

للكاتب/عبدالحليم أبوحجّاج
من قبل أن تظهر على الرئيس الراحل ياسر عرفات علامات الاعتلال،كان قد طفح على الجسد الفتحاوي آيات محكمات لا نضل بها، تنبئ بأن أمراضاً خطيرة قد اخترقته فنالت منه ما أفقده القدرة على الثبات والاستمرار. فذوى عوده وقلّ عطاؤه ووفاؤه ، وانحرفت إبرة البوصلة فيه إلى جهة الثراء واعتلاء المعارج إلى السماء. ونشط التسارع ثم التصارع على مواقع السلطة والتسلط، وكان لا مناص من إسعافه و تمريضه  باستئصال الخلايا العفنة، وبإزالة بؤر الخبث والخمج فيه  حتى يتعافى ولا يؤول أمره إلى هلاك ثم إلى زوال.
       لقد أنفقنا من حياتنا عشرات السنين، تتابعت علينا فيها الهموم والمصائب ، وتواترت علينا فيها الأحزان والنوائب، وضاقت علينا دنيانا بما رحبت، فانطفأت قناديل ليالينا ، وانكفأت شموس نهاراتنا فاستحال ابتسام الحياة إلى عبوس واكتئاب .                                        ولقد كان البلاء الأعظم يوم أن امتُحن أخيار الناس بأشرارهم، وعلماء الناس بجهّالهم ، ووجهاء الناس بسفهائهم، ويوم أن سُلِّط على وفاء الأوفياء وإخلاص المخلصين؛ نفاق المنافقين وإفساد المفسدين . لقد عُني أولئك القوم بما تدرّ عليهم هذه البقرة الفلسطينية الحلوب، فأصابوا كثيراً من الأموال العامة، وأصابوا كثيراً من اللذات الآثمة، فامتلأت جيوبهم وانتفخت كروشهم وأداروا ظهورهم للناس وتركوهم يتضورون ويألمون وينقسمون، وأذنوا للموت يسعى إليهم ، فتطحنهم رحى الاقتتال… وليس لأولئك القوم عما أصاب الناس من سؤال، فانصرفوا عنهم إلى ملذاتهم يستمتعون. ولو قُدِّر لأولئك النفر أن يدخلوا حياتنا ويعايشونا قليلاً من الأيام والليالي ويسبروا أغوارنا ويقفوا على خبايا أمورنا، لعلموا علم اليقين حجم عذاباتنا وهول البؤس وشناعة القهرالذي يلازمنا صباح مساء. ولوقُدّر لهم أن يصغوا إلى أنين قلوبنا وحديث نفوسنا ويستمعوا إلى شهاداتنا فيهم ،   لأدركوا كم نحن نضيق بهم وبسلطانهم الجائر، وكم نحن نمقتهم ونكرههم، ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا ….. والحق ياسادة أننا سئمنا وجوهكم ومللنا أساليب حكمكم فينا، لأنكم أسأتم إلينا و إلى أنفسكم وإلى فتح العاصفة ، فساءت فينا سيرتكم…. فأخبرونا يا سادة متى ستتركون مقاليد أمورنا وتنصرفون عنا إلى غير رجعة؟. مع الإحاطة أن عمركم الافتراضي قد انتهى، وأن مدة صلاحيتكم قد انقضت منذ أكثر من عشر سنين ، فأنتم الآن يا سادة في حكم علب السردين الفاسدة.
      لقد فتح الشعب ذراعيه وتلقاكم بالآهات والقبلات وآتاكم بكل ما سألتموه، ولكنكم ما إن استوت سفينتكم على الجُودِيِّ حتى أدرتم له ظهوركم وتنكرتم له وانشغلتم عنه باقتسام الكعكة، حتى شاطئ البحر لم يسلم من أنياب ذئابكم فتحاصصتموه، وضربتم سياجاتكم حول كل مكان تطؤه أقدام حراساتكم وميليشياتكم، وأصبحتم من ذوي الأموال والأملاك والقصور،وانتقلت العدوى  منكم إلى قوارض جديدة  فكثرت “الكامب ديفيدات” واتسعت رقعتها على حساب أراض حكومية ومدنية، وانتشرت ” الباستيلات ” من السجون والمعتقلات ، هذا عدا عن تطوير وتحديث سجن غزة المركزي (السرايا)، وكلها موبوءة بأبشع وسائل وأساليب الإذلال والتعذيب.
         وتدفقت الأموال فتزاحم (الحراميّة) فسرقوا ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم وهرّبوها إلى الخارج ليلحقوا بها هاربين حتى لا يفاجأوا يوماً بصحوة ضمير القانون من غفلته وسكره، وحتى لا يفجؤهم الزمان برئيس جديد يسألهم: من أين لك هذا… يا هذا؟. وتزاحم عجائز فتح وأعجاز السلطة وأعقاب الجنرالات، فعمدوا إلى توزيع التوكيلات التجارية فيما بينهم لاستيراد البترول والغاز، واستيراد التبغ والسجائر، واستيراد الإسمنت ومواد البناء ، واستيراد الطحين وسائر المواد الغذائية الأخرى، واستيراد ما هبط من البضائع الفاسدة، ومن المواد الضارة كالمفرقعات والألعاب النارية وأسلحة الأطفال. ونشطت أيضاً حركة التهريب من الخارج إلى الداخل مستغلين صفاتهم الاعتبارية، وحقائبهم وسياراتهم الدبلوماسية، وكانت فضيحة رجال تقلَّدوا أعلى المناصب وأرفعها في فتح وفي السلطة. ويا فضيحتاه على صفحات الجرائد الإسرائيلية والغربية، وعلى شاشة الفضائيات العالمية.!.. ويا فضيحتاه يا سيادة الرئيس! فماذا فعلت؟، لم يفعل شيئاً، استغفر الله – بل فعل، إنه أبقى عليهم في مواقعهم وأوحى إلى الإعلاميين بدفع التهمة عنهم وتبرئتهم، وبالدفاع عن نزاهتهم وعفافهم المزعوم.
       إن كثرة الأجهزة الأمنية وتعدد الفصائل والأحزاب هي السوسة التي نخرت عظم الجسم الفتحاوي وعصب السلطة،فهوت البلاد في وحل الاحتراب، فطاش عقل قادتها وانفلت الأمن، واشتد الصراع بينهم على بسط أيديهم ومد نفوذهم، فتسابقوا لنيل الرضا من السيد الرئيس الذي أقرَّ لهم تنازعهم وأعطاهم مزيداً من الصلاحيات ليظلوا تحت العباءة وتحت السيطرة. فأقطع لهم العطايا والهبات وخلع عليهم المناصب والألقاب، فوهب لمن يشاء المال والأطيان، ومنح من يشاء المراتب والصولجان. وتوالدت القطط السمان، وأصبح لدى  سلطتنا من الرتب العسكرية الرفيعة ما يزيد عن حاجة كبرى الدول العربية، على الرغم من أن الكثير من “جنرالات السلطة” لم يتخرجوا في مدرسة شرطة أو في كلية عسكرية، وما كان يؤهلهم لها إلا نفاقهم السياسي الفاضح ، وإلا ولاؤهم المزعوم للسيد الرئيس، وإلا كون بعضهم أبناء العائلات والعشائر ذات الثقل والنفوذ الاجتماعي. فاصطنع منهم السيد الرئيس سياجاً يمتنع بهم على بعضهم، ويبطش بهم كل من يجرؤ على قول : لا. وتشتدُّ سطوتهم ويشدُّون خيولهم المهجنة لتطأ رؤوس الجميع ، وفي نهاية المطاف ينقلب السحر على الساحر، فيتمردون على سيدهم  الشهيد ياسر عرفات رحمه الله بالخروج عليه ومناددته والإسهام في حصاره .
     وينهار السياج ، ويحتدم الاحتراب بين القادة الأمنيين وميليشياتهم ، إذ حلت القبلية السياسية والفصائلية محل القبلية الاجتماعية، وأصبح انتماء الفرد لجهازه الأمني أو لحزبه السياسي، لا لعائلته ولا لحمولته أو عشيرته. ثم تشتدُّ الخصومة بينهم فينتكس المشروع الوطني بعلامتين فارقتين : أولاهما يوم أن قامت إحدى المجموعات المسلحة المحسوبة على فتح بقطع الطريق على اللواء مدير عام الشرطة الفلسطينية فتم اختطافه واحتجازه بطريقة مهينة على مرأى ومسمع من السيد الرئيس. أما الثانية فكانت باقتحام سجن غزة المركزي(السرايا) لأكثر من مرة بقوة السلاح، بهدف إخراج معتقلين فيه ، إما لتحريرهم من القيد أو لتنفيذ حكم الإعدام فيهم رمياً بالرصاص على مرأى ومسمع من السيد الرئيس… واستباح الفلتان الأمني كل مؤسسة وكل وزارة ، وكل شارع وكل حارة ، حتى الحرم الجامعي لم يسلم من فوضى السلاح على مرأى ومسمع من السيد الرئيس.
      لقد ابتلي الشعب بهذه الأجهزة التي انتشرت دكاكينها في كل مكان ، ونشط رجالها يتحكمون في المعابر الحدودية، ويتحكمون في عمل التنسيق الأمني لمن أراد السفر، ويتحكمون في منح الوظائف الحكومية والمدنية أو منعها من خلال تقاريرهم الأمنية. ثم كان الصدع الأخطر الذي قوّض أركان فتح وأعمدة السلطة يوم أن باتت الثورة الفلسطينية  حكراً محتكرا على فئة تدعي لنفسها فضل التأسيس، أو تزعم أنها من رعيل الصف الأول من السياسيين العجزة أو المفاوضين الفاشلين أو من الكلمنجيين المنافقين أو من المحاربين القدماء الذين طالت إقامتهم في المواقع الحساسة من السلطة، على الرغم من بلوغهم سن التحنيط ، ولم يتبدلوا ولم يتغيروا، وإنما تبدلت أزياؤهم وحقائبهم فقط ، وكأن فلسطين أنجبتهم ولم تنجب أبناء غيرهم !. وأبقوا الثورة وقفاً عليهم وإرثاً تتناقله الزوجات بعد أزواجهن ، فيقعدن في مواقعهم القيادية ! أو ينتقل بالوراثة إلى الأبناء فيحتلون مواقع من الحكومة لا يستحقونها. فليس من المنطق الثوري أن يُعيّن بعض هؤلاء في مناصب حكومية رفيعة: وزراء ومستشارين أو تُفصَّل لهم وظائف وتُستحدث لهم مسمّيات وظيفية في السلطة بعد أن يكونوا قد شبعوا من عملهم سفراء ومندوبين دبلوماسيين،ووصلوا إلى أرذل نهايات العمر. كذلك ليس من المد الثوري أن تُفرز أسر بكامل أفرادها على أحد الأجهزة الأمنية أوإحدى الوزارات، فيتقاضون الرواتب العالية وهم في بيوتهم قاعدون! مع أن في بلادنا الآلاف من خريجي الجامعات يتسكعون في الشوارع بدون عمل.                                                            ومرت الأيام وتقلد السيد محمود عباس رئاسة السلطة، فاستبشرنا خيراً، وأخذنا نمني أنفسنا بعهد جديد. والحق أنه قد خطا خطوتين أو ثلاث أحدثت تغييراً في أروقة السلطة، فأرسى قواعد الاطمئنان والتفاؤل… ولكنه توقف وغاب عنا وهو حاضر بيننا، فخذلنا وخذل آمالنا وترك المراجل على النار تغلي حتى كان الاقتتال والانقسام، فولّى الجنرالات  مدبرين وفرّوا إلى رام الله، فاحتضنهم الرئيس وآواهم بدلا من أن يعيدهم إلى غزة التي أضحت ساحة مهجورة تنعق فيها الغربان. 
سيادة الرئيس/ إنه لن تقوم لدولة فلسطين قائمة ما دام في حركة فتح وفي أروقة  السلطة تلك الجوقة من المستشارين الذين لا تعدو عيناهم عن موطئ أقدامهم، فأضلّوك وأضلّونا معك ،وأغرقوك وأغرقونا في أوحال المفاوضة والحوارات العبثية . إنهم لايشيرون إلاّ بما  يخدم مصالحهم ، ويؤدي إلى  تغذية الفتنة بين الفرقاء ، فكلما أضاءت شمعة الوفاق والمصالحة أطفأوها بأيديهم وبألسنتهم…. فلماذا  تستمع إليهم بعد أن استفتيت فيهم الشعب الذي أعلن سخطه عليهم ورفضه لهم؟ ولماذا تتمسك بهم وتدنيهم منك وتقربهم إليك بدلا من أن تبعدهم عنك وتقصيهم عنا؟ ولماذا يا سيادة الرئيس لا يعترف أبناء جيلكم أنهم قد استهلكوا أدوارهم،وأنهم شاخوا فشاخت بهم فتح وهرمت بهم السلطة، وأصبحوا شخوصاً محنّطة غير قادرة على العطاء والعمل؟. ولماذا يا سيادة الرئيس لم تتحقق وعودكم بانعقاد مؤتمر فتح السادس حتى الآن؟ أم أن مومياء فتحِ لا يريدون له الانعقاد خشية على أنفسهم من أن يسمعوا كلمة (كش ملك!). وكأني بك يا سيادة الرئيس تشاركهم نفس الهواجس، فتخشى على نفسك من سماع كلمة (كش رئيس!). فهل نفيق يوماً يطلّ علينا فيه السيد الرئيس ويعلن بشجاعة الشجعان عن عدم ترشحه لمنصب الرئاسة، وعن عدم السماح لأولئك النفر من العجزة العاجزين بترشيح أنفسهم في انتخابات قادمة سواء على مستوى الحركة أو البرلمان حتى لاتتكرر مأساة الانتخابات السابقة، ولإفساح المجال لوجوه شابة من فتح لا يكونون أمثالكم ويحلّون مكانكم ؟. وهل نفيق يوماً على أنباء ثورة تصحيحية يثورفيها شباب فتح وفتيانها على شيوخها الذين لفظهم الشعب  فسقطوا في الانتخابات التشريعية السابقة وأسقطوا معهم كل فتح، وأصعدوا من خلال سخط الناس عليهم – خصومهم السياسيين إلى مراقي الحكم والسلطة ؟. هل ينتفض شباب فتح وفتيانها فيقوموا بإقصاء أولئك (الكهنوت) ؟ الذين ما زالوا يظنون أنهم أصحاب العقد الاجتماعي الشرعي والأوصياء على الثورة وعلى الشعب الفلسطيني ، متوهمين أنهم قد حققوا مكاسب سياسية، ويسوِّقون شطارتهم في أسواق كسدت فيها تجارتهم، فخسروا كل شيء، إذ لم يستطيعوا أن يتحصلوا في ملاعب المفاوضة على شعرة واحدة من ذقن مستوطن بغيض.
      لقد ثبت لنا بعين اليقين أنهم لا يصلحون لشيء، وعليهم أن يهيئوا أنفسهم لعرضهم في قاعات المزاد العلني لبيعهم بأبخس الأثمان، وهذا جزاء من فرّط في الأوطان، وأودع قضية فلسطين في خزائن سليمان، وحاويات” ليبرمان” .   أيها الفتحاويون الأماجد : نحن نتطلع إليكم و نرقب الأيام ، ننتظر الوليد القادم، حفيد ياسر عرفات شهيد فلسطين. وإنها لثورة – بكم – حتى النصر على أنفسكم أولاّ…….
*****
Exit mobile version