أرشيف - غير مصنف
ثقب في جدار الأوزون
ابراهيم دكس الغراوي
نط من بين الجالسين . كان يلف جسده بقماش يشبه ورق النشاف. أماط لثام بدنه. علّق عريه أمام أنظار الجميع. تعكر فرح الحضور لبشاعة جلده. دمامل، أورام حروق. طالعته العيون بين مستفهمة ومستنكرة.
– عـذراً أيها السادة لقبح جسدي. أنا لست الوحيد المطعون بهذا المس الشيطاني. هناك خلف أفراحكم آخرون مضمخون بذات الغم. حجب عنهم رفاه العافية. سقطوا مجنى عليهم بأحضان الأنسانية. وها أنا أحّملكم مسؤولية رصد الجناة باحتراس شديد لأنهم مدججون بالعافية، ولم شملهم في زنزانة واحدة .
كان المكان عامراً بالفرح متشرباًُ بأصوات التصفيق كلما نودي أحدهم لتسلم جائزته ثواباً لاجدر عمل في مكافحة الجريمة . لكن ذل الرجل ومهانته بعثرا سرور الحاضرين وهيجا وعيهم بالتفاتات ساخنة قذفت بقلوب آخرين رعب التهمة . منهم من تبنى تخدير روع المنتفضين وأعلن على الفور ٳجراء مناقصة بكلفة قنص الأسباب والقبض على المتسببين. وهذه فرقة عمل من غير المختصين بالبحث الجنائي والعلمي . وتلك حناجر صدحت بموال حقوق الأنسان قالت حقاً يراد به باطل . وآخرى … وآخـرون .. سارعوا لتقديم أقل عطاء . كان من بين المتقدمين ، شركة دبغ الجلود ، قد فازت بالمناقصة . أخذت عينة من الأورام . وبعد تحليل ٳلكتروني معقد تبين لهم أن ثقب جدار الأوزون كان هو السبب .
الكلام أثار سخرية وٳستهجان البعض . الناطق الرسمي بأسم الشركة أزاح غمة جهل العلاقة بين الأوزون وأورام الجلد. فعرفوا أن (3 О) المظلة، هي الأبن الهجين لزواج شرعي باركت له السماء بين الأوكسجين إبن الأرض، والأشعة فوق البنفسجية، بنت السماء، وثمة أوغاد خرقوا غطاء الرب لأحياء الأرض، فهطلت شلالات آسنة رشت أجساد كانت تتناسل خارج السقوف .
بدأ تقاذف التهم بألسن من نار. مانشيتات عريضة إستهلت صحف العالم ( أكبر عملية سطو لقبة الكون الأحدب ) …. من هم اللصــوص…؟ أصابع الاتهام أشارت إلى كل من يلتهم من الأوكسجين ما ليس مخصصاً له . الويل لمن قذفت شباكه بكرة من نار وهو لا يمتلك قفاراً من جليد . كان في واجهة الأتهام ذوات لن تأخذهم ف (…..) لومة لائم. أصحاب ( مصانع علب الكبريت . مصانع السجاير . مصانع المدفعية بعيدة المدى . مصانع المصائب النووية والجرثومية. وكل من له أنف كبير . و……). حشدوا المتهمين في قاعة غصت بالناس . جحظت الأنظار جهة حكام محترفين، تربعوا بثبات أجوف فوق رؤوس الحاضرين .
محامو الدفاع منهمكون باستجداء أدلة كافية لابعاد التهمة عن ساحة أرباب السوابق وشذاذ الآفاق . إرتجاف أصابعهم توحي بصعوبة المهمة .
– محكمــــه …ھ….ھ….ـــه .
صوت إبتلع هذر الحضور وأجّل الأنفاس وعلق العيون صوب مطرقة القاضي متى تنزل على رأس من ؟ ضج المكان بخطب رنانة تشم دسومة ثمنها تفوح بها حقائب الدفاع وشهود الزور . بين زعيق الحكام وثرثرة المتهمين علا صوت المجنى عليه . أعصابه لم تمنحه فرصة الهدوء . صوت كأنه النشيج . . تتوزعه الخيبة والمهانة والحنق.
– يــا ويـــلتاه….واعــدالتـــاه .,..
المتهمون تباكوا كأنهم يبكون حقاً . أطالوا بالبكاء ريثما تصل توصية ببراءتهم !. مر وقت ليس بالقصير . هيئة الحكم ذو المهابة .. ما زالت تستحم بالضباب . الألسن تذري بما يروق لها . وثمة شفاه تهدلت إستهزاء بما آلت اليه الأمور . أجساد المتهمين تكدست بالقفص بما لا طاقة له على إستضافتها .
قبح الدمامل وعفن الحروق ، توعرت له الوجوه . الكل ينتظر قراراً . تمتمة وتساؤلات معيبة عن سبب مأزق القضاة . فجأة التوت رقاب الناس بفزع صوب باب القاعة . ركل الباب برجله . وقف يطحن اسنانه كأنما يريد أن يفترس أحــداً . عيناه جاحظتان بما يلفت الانتباه . إتصل شعر رأسه بلحيته الكثة . لم تشف ملابس الرجل ، الكوكتيل، عن هويته . كان صامتاً . رئيس المحكمة شب صائحاً كمن قذفته أضغاث نوم مرعبة .
– إنه أحد الأوغاد … هاتوه .. !!
سحلوا الرجل . . أوقفوه على مقربة من المنصة خارج قفص الاتهام المتخم بالابرياء..!!! .تركوه . أعاد ترميم ملابسه التي تهدلت والأجزاء التي تمزقت . مسد شعره المنفوش باصابع مرتجفة . وما زال صامتاً. مسح المكان بنظراته الناطقة . من جديد فاض المكان بالمجادلات بصوت أعلى من الهمس ، مفادها ، إن لم ينطق الرجل ربما تمنحه المحكمة ضياعاً فوق ضياعه ،.
حاولوا بلا فائدة إقتحام أقفال فمه . الّحوا عليه بشدة . لوّحوا له بالتهديد. لكن الرجل ما زال صامتاً . فتشوا ملابسه حتى بطريقة غير مؤدبة .
أخيراً تركوه وشأنه . أدار وجهه عن الجميع . نحو الجدار ناصع البياض . عــضّ على إصبعه . تفصد منه الدم بغزارة . راح يكتب على الجدار بلون اسيان عروقه القاني .
– إستاصل لساني بسبب ورم خبيث لحق بي جراء فعلة الأوغاد بمظلة الأوزون . أتمنى أن لا ينسى سيادة القاضي أنه أدى قسم مزاولة المهنة بنزاهة قبل هذا الوقت . ……..