أرشيف - غير مصنف

السعودية والإمارات: وجود البنك المركزي الخليجي تحت تصرف ‘الأخ الأكبر’ يعني إن البنك سوف يعطس كلما أصيب ‘الأخ الاكبر’ بالزكام

انتهت السعودية الى المضي قدما في مشروع الوحدة النقدية، قائلة ان موضوع مقر البنك المركزي الخليجي لن يطرح للتفاوض من جديد. وهو ما يمثل نوعا من إغلاق الباب على دولة الإمارات العربية المتحدة لدخول الاتحاد النقدي من باب الإفتراض بامكانية حل المشكلة المتعلقة بمقر هذا البنك.
 
وقال وزير المالية السعودي ابراهيم العساف في سلطنة عمان بعد أقل من أسبوعين من انسحاب الامارات “لن تخرج الخطة عن مسارها بل ستستمر. ستمضي الوحدة النقدية كما هو مخطط لها”.
 
وكان وزير الخارجية الاماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان قال في وقت سابق بأن بلاده ستدرس اعادة الانضمام الى الوحدة النقدية اذا تغيرت الشروط ووافق جيرانها على السماح بأن تكون الامارات مقرا للبنك للمركزي.
 
ويبدو ان الإمارات كانت تحاول ان تتيح للدول الأربعة الاخرى، السعودية والكويت وقطر والبحرين، قدرا اكبر من الوقت لإعادة النظر بموقفها من طلب الإمارات. إلا أن العساف، بإعلانه عدم طرح موضوع المقر للتفاوض، جعل من المستحيل من الناحية العملية للإجتماع الخليجي المقرر في السابع من يونيو/حزيران أن يتوفر على فرصة للتأمل. وبذلك فان الدول الأربع ستجتمع في ذلك اليوم لتوقع على اتفاقية الوحدة النقدية بمعزل عن الإمارات.
 
وهذا منعطف يبدو مؤسفا بالنسبة لكتلة اقتصادية، مثل مجلس التعاون الخليجي، أن تجد نفسها في وضع لا تأخذ في نظر الاعتبار مطالب ثاني أكبر اقتصاد فيها.
 
وزاد الطين بلة عندما تحركت اقلام سعودية لانتقاد مطلب الامارات. وهي اقلام بدا انها تدفع في اتجاه تعكير الأجواء في قضية اقتصادية كان يفترض التعامل معها بحس عملي، لا بحساسية انفعالية.
 
فالامارات كانت هي أول من طرح فكرة الوحدة النقدية، ومنها بدأت أولى التحضيرات للمشروع. وكان الهدف هو أن تتاح للاقتصاد الخليجي أداة نقدية توحد سوق المنطقة وتوفر لها الأسس للنمو، وتزيل العوائق أمام حركة الأموال والتبادلات التجارية، وتقدم الخليج ككتلة واحدة أمام الكتل الاقتصادية العالمية الأخرى.
 
ولئن كان مشروع الاتحاد النقدي قائما بالفعل على تقارب سياسي وروابط أخوية وثيقة، وعلى تاريخ طويل من علاقات واتفاقات التعاون، فان طابعه الاقتصادي يظل عاملا حاسما.
 
والآن، فهناك من يحاول أن يضحي بكل تلك الروابط من اجل تبرير تمسك الرياض برفض الإصغاء لمطلب ترى أبوظبي انه مشروع ومنطقي.
 
ولكن الحقيقة الأكثر جلاء، قبل أي جدل، هي أن المقرات الرئيسية لإدارات مجلس التعاون الخليجي تتوزع كالتالي: 11 مقرا في السعودية، 4 مقرات في كل من قطر والبحرين، مقران في كل من الكويت والبحرين، ولا يوجد اي مقر في الإمارات.
 
وبالنسبة لبلد كان هو مولد الاتحاد الخليجي، وكان هو مولد مشروع الوحدة النقدية، وتؤكد الأمانة لمجلس التعاون انه الأكثر التزاما بقراراته، فلا بد لافتقاره لأي إدارة من إدارات المجلس، أن تعني تمييزا يفتقر الى الحس أكثر من افتقاره للإنصاف.
 
العنصر الأكثر أهمية من ذلك هو أن قضية بلد المقر ليست بالضرورة قضية سياسية. إنها قضية عملية بالدرجة الأولى، تتعلق بما إذا كان في وسع هذا البنك أن يتصرف بشفافية حيال الدول الأعضاء، وما إذا كانت تتوفر لخدماته البنية التحتية والتسهيلات البيروقراطية الضرورية التي تتيح جعله محورا لتعاملات الدول الأعضاء، وكذلك لتعاملات البنك مع الكتل النقدية الأخرى ومصارفها المركزية.
 
صحيح ان السعودية هي الاقتصاد الأكبر في المنطقة، إلا أن ذلك لا يمنحها الحق تلقائيا بان تكون هي دولة المقر. وهناك ما يبرر الاعتقاد، بان الحفاظ على استقلالية البنك وتوازن نشاطاته، تتطلب أن يكون بعيدا، ولو بشبرين، عن “الأخ الأكبر”. على الأقل من أجل المساعدة على خلق الانطباع الملائم، بان الوحدة النقدية الخليجية لا تمثل نوعا من “الضم” أو “الإلحاق” النقدي للإقتصادات الأخرى في المنطقة.
 
وإيحاء التوازن والإستقلالية ضروري في الخليج أكثر من ضرورته في أوروبا. فالمؤسسات المالية الأوروبية تقف على ركيزة عريضة من الاستقلالية المهنية. وحاكمو المصارف المركزية الأوروبيون لا يخضعون للإملاءات الحكومية. وهو أمر ما يزال من المفيد أن تقدم دول مجلس التعاون الخليجي الدلائل الضرورية عليه.
 
السعودية، مع ذلك، لم تعامل قضية الوحدة النقدية بالشفافية اللازمة. فالقرار بهذا الشأن اتخذ في اجتماع تشاوري لم يكن معدا لاتخاذ قرارات اقتصادية مصيرية. ورغم ذلك لم تحاول الإمارات أن تعرقل الاجتماع واكتفت بالتحفظ على نتائجه، وذلك بانتظار الوقت والمشاورات الملائمة لاعلانه.
 
وجرت العادة أن يتم اتخاذ هذا النوع من “القرارات المصيرية” بالإجماع. والإجماع في هذه الحال كان يتطلب إيجاد وسائل لتسوية الخلاف، وهي كثيرة وممكنة، لا معاملتها بتعال، ولا بما يبدو انه إملاء من جانب “الإقتصاد الأكبر” على الآخرين.
 
وتمتلك الإمارات استثمارات في كل أرجاء العالم، وتلعب دورا حيويا في المساهمة في استقرار الاقتصاد العالمي. وهي إذا كانت تتأثر، برغم كل الحصانة التي تملكها، بأزمات هذا الاقتصاد، فلأنها قوة فيه. وتحرص، على هذا الأساس، أن تتعامل مع قرار بمستوى الوحدة النقدية بقدر من التدقيق والتأني والحذر، وذلك لتوفير الضمانات لبنوكها ومدخريها بان لا تدخل أموالهم في دوامة تفتقر الى الحماية الضرورية.
 
الكل يذكر أن ارتباط الجنيه الاسترليني بآلية تبادل العملات الأوروبية الذي سبق إطلاق اليورو كان بمثابة كارثة لثاني أكبر إقتصاد في أوروبا. ودفعت تلك الكارثة الى اهتزاز الثقة بالاقتصاد البريطاني، وادت في غضون أيام قليلة الى هروب مئات المليارات الى الخارج بحثا عن حماية.
 
الوحدة النقدية قرار قد يبدأ سياسيا، إلا أنه يجب ان يعالج وفقا لأفضل المعايير الاقتصادية وأكثرها تحفظا. وفي بيئة تغلب عليها السياسية، (وتتحول وحدتها النقدية الى مهاترات صحافية) فان معالجة قضية المقر بتأن وعقلانية، من اجل مراجعة الأفضليات العملية، أمر لا بد منه. بل انه شرط ضروري لحماية جميع الأطراف، بمن فيهم “الأخ الأكبر” نفسه.
 
وبما أنها الأكبر، فان السعودية قد لا تحتاج حماية الإمارات، إلا أنها، في قضية بحجم العملة الموحدة، تحتاج أكثر من الإمارات أن تحمي نفسها من نفسها. ووجود مقر البنك المركزي في الإمارات كان يمكن بالفعل أن يوفر أفضل حماية للسعودية. فهناك، يمكن على الأقل النأي بالقرارات الاقتصادية، وباستقلالية البنك نفسه، من التأثيرات السياسية، او حتى شبهاتها. وبما أن التقلبات يمكن أن تحدث وتتحول الى كوارث، فان تعزيز الحماية ووضع سياسة محافظة للبنك، وإخضاع عملياته لرقابة مشتركة صارمة، تعد من أقصى الضروريات التي يحسن اتباعها. ولكن وجود البنك المركزي الخليجي، تحت تصرف “الأخ الأكبر” وتحت مظلة “الإقتصاد الأكبر” يعني ببساطة إن البنك سوف يعطس كلما أصيب الأخ الاكبر بالزكام. وهذه وصفة لكارثة.
 
لا بأس، يستطيع بعض صغار وكبار الصحافيين السعوديين ان يقرروا ما هو الأنسب للإمارات، فهذه جرأة مألوفة (وتقصد إغلاق الأبواب، وتلوح بما لا يليق) إلا أنهم بالتأكيد لا يستطيعون أن يركبوا حصان الشيخ زايد ليسابقوا أبناءه وأحفاده في ملعبهم. فهذا فيه شيء أكثر من الجرأة.
 
نعم، يقول احدهم، “لقد كان زايد شيخاً وزعيماً وعرّاباً للوحدة والاتحاد، ومن عاصمة بلاده أعلن عن إنشاء مجلس التعاون الخليجي في منتصف العام 1981”.
 
هذا صحيح تماما. ولهذا السبب لم يترك له “الأخ الأكبر” لأبنائه مقرا واحدا من مقرات الاتحاد! وعندما جاءت المناسبة لتكون الإمارات مقرا للبنك المركزي الخليجي، لأسباب محض اقتصادية، وتتعلق بمكانتها الاقتصادية الإقليمية، فقد قرر وزير المالية السعودي إغلاق باب المفاوضات. وتولى غير صحافي همام، أن يعرب عن استعداده لقبول انسحاب الإمارات ليس من مشروع الوحدة النقدية، بل “ومن غيرها إن شاءت”، للتعبير عن نزعة تعال مفلسة أخلاقيا، قبل أن تفلس إقتصاديا.
 
فالإمارات قدمت بالفعل وعلى طول الخط “دعمها الدائم لكل إجماع خليجي، إيماناً منها بالعمل المشترك، لما من شأنه مصلحة مواطني دول المجلس”. وهذا الواقع الذي يقر به الحصيف وغير الحصيف، يستوجب أن يثير الشكوك والتساؤلات حول السياسة التي يُواجه بها ذلك “الدعم الدائم لكل إجماع خليجي”، لا العكس.
 
فثمة في هذه السياسة شيء بيّن من النكران على الأقل، إن لم نقل الجحود أيضا.
 
والحال، فان الإجماع إجماع. بمعنى انه يجب أن يتضمن النظر في ما تقوله الإمارات أيضا. ولكن يبدو أن ثمة تعريف جديد للإجماع هو الذي سيقرر الاتجاه الذي تمضي فيه الوحدة النقدية الخليجية هو “الكل ناقص أي أحد”.
 
وهذا أمر يجب أن يُقلق كل من يجد نفسه ليس “أخا أكبر”.
 
والمؤسف، أن هذا النوع من “الإجماع” لا يحمي أموال أي أحد، ولا الكل أيضا.
 
لقد شاءت الإمارات بتصريحات، انطلقت من روح إيجابية، أن تترك الباب مفتوحا للنقاش. ولكن الرياض قررت أن تغلق باب النقاش، وان تقفله من دون مرونة، وأن تضع المفتاح في جيب بعض الصحافة للتراشق بـ”النصائح”.
 
وهذا فيه من الجرأة ما يجعلها تتعدى حدود اللائق.
 

زر الذهاب إلى الأعلى