فوق القانون
بقلم سهام البيايضة
وقف ” الضابط خلدون” على باب المخفر, ينتظر سيارة الشرطة التي ستقله إلى الحدود الجنوبية, وقد جهز”يطقه” أغراضه في صندوقه من أجل الإنتقال الى ذلك الموقع البعيد عن مركز العاصمة .
ترجل السائق بكل إحترام, وضع كل حاجيات “الضابط خلدون” في صندوق السيارة الخلفي ,ثم انطلق به عبر الطريق الصحراوي الى الحدود الجنوبية.
الوقت لا يزال مبكراً, والطريق طويلة ,ولا رغبة له بالنوم ,فلقد اعتاد الصحو باكرا .كعادة كل العسكريين ,في كل العالم ,حلاقة ذقنه لا تحتاج أكثر من دقيقتين, وذلك من قبيل الإعتياد اليومي على سرعة الجاهزية و القيافة العسكرية .التي زادت من جمال هيئته وجسمه المتناسق ,الطويل وعيونه العسلية التي تلمع تحت” البوريه” الزقاء والحمراء المعتمرة رأسه الذي اعتاد شموخ صقور الجو في علياء طيرانها.
أرخى خلدون نفسه على المقعد الأمامي, يحاول أن يخفف توتر جسمه المتعب ,يغمض عينيه عن أعمدة الهواتف التي يتجاوزها الواحد بعد الاخر بعدد لا نهائي بجانب الطريق الممتد عبر الصحراء .
– “الحمدلله ,الآن اصبحت الامور على خير,الحمد والشكر لله الذي قدر ولطف”.. فكر الضابط خلدون راضياً مقتنعا بما آلت إليها أحواله.
تناول الجريدة من المقعد الخلفي محاولا أن يشغل تفكيره ,بعيدا عن الاحداث التي أدت إلى نقله .
من الصعب تجاهل ما حدث , لا يزال كل ما حدث, راسخاً في مخيلته كشريط سينمائي جيد الاخراج
– “الحمد لله ’ لم أطلق علية النار من مسدسي, هناك أشخاص , يدفعوك الى أضيق الزوايا ولا يتركون اي مجال , يخرجون العاقل عن طوره”يحدث نفسه مفكرا سارحا في افق الصحراء الممتدة امامه .
– “سيدي..هل انت مرتاح في جلستك؟” ..بادره السائق بالحديث.
أجاب خلدون :”نعم نعم ..انا بخير..لا زلنا في أول الطريق..ولا بد أن أتعود على قطع هذه المسافات” .
السائق:”تسلم يدك سيدي ..أي إنسان في مكانك كان فعل فعلك,لوأنا ؟؟كان طخيتوا بين عيونة, لكن الحمدلله ,الله قدر ولطف, اعوذ بالله ,الشر شرارة!!”
إبتسم خلدون ,وكأن السائق كان يستمع لبنات افكاره!! مستغربا صراحته المظبوطة في العادة,
قال خلدون :”هل انتشر الخبر لهذا الحد؟؟”
السائق::”لا شيء يخفى على المرتب ..سيدي ,سيرتك على كل لسان ..سيدي”
خلدون :”ما رأيهم بالذي سمعوه؟
السائق :”قصتك سيدي انتشرت على كافة المستويات, وصفعتك, اقصد “البوكس” على وجه البيك ,لقد كنت ..سيدي, في قمة الذكاء عندما استدعيت مرتبك , ووضعت مسدسك على طاولة مكتبك ,ثم نزعت قميصك العسكري ,عرفت تتصرف..سيدي!!
خلدون :ما فعلته غير لائق ولا يجوز,وأتمنى لو ان الامور لم تصل لهذا الحد ,لكنه تعدى الحدود الرسمية والادبية ,عندما شتمني وشتم عائلتي واستهان بكل القيم , المسؤول يجب أن لا ينسى أنه يتعامل مع أولاد ناس!”
احمر وجه خلدون من الغضب عندما تذكر ذلك المسؤول النزق, وكيف اقتحم عليه المكتب, يريد منه أن , يفرج عن سائقه الموقوف في سجن المخفر.
بكل هدوء واحترام , أخبره أن السائقه, قد خالف قواعد القانون, وتطاول على الشرطي أثناء تأديته لوظيفته,متفاخراً, انه سائق البيك ,وأن عليه غرامة مقدارها عشرة دنانير, عليه أن يدفعها أالحبس إسبوع بدل الغرامة.
لم يعجب البيك المسؤول, قرار الضابط, واصراره على تنفيذ القانون,عندها ثار غضب البيك,صارخا به, يأمره بالافراج عن سائقة الأن ..وبدون اي مناقشة , مستنكرا موقف الضابط, الذي لم يأخذ أعتبار ,لمنصبه .ومكانته الاجتماعية .
“سيدي ..أرجو من سعادتك الهدوء ,فلا داعي للغضب..مخالفة السائق عشرة دنانير..تستطيع أن تدفعها وتأخذ سائقك معك.أو يحبس لمدة أسبوع ,انت إبن دولة وتفهم بالقانون !!
البيك:”تريد ان تطبق القانون علينا ..انت ناسي من انا؟؟”
الضابط:”طبعا سيدي أعرفك تماما ..لكن القانون قانون ..ونحن جميعنا تحت القانون”
استشاط البيك المسؤول غضباً ,شاتما أبوه وعشيرته ومكان ولادته.
عندها شعر خلدون أن المسؤول ,يشعر حقا, انه فوق القانون!!.فما كان منه الا ان استدعى مساعدة , أخرج مسدسه ,وضعه على طاولة المكتب أمام المساعد والحرس الذين اقتربوا من المكتب عندما سمعوا صوت البيك يملأ المخفر.
نزع قميصه العسكري ,وضعه بكل هدوء على كرسي المكتب, اقترب منه وباقصى قوة لديه لكمه بقبضته”بوكس” أسقطته على الارض مصدوما غيرمتوقع مثل هذا التصرف.
انقضى اكثر من نصف عام ,بين التحقيقات, والمحاكمات العسكرية والجاهات والصلحات العشائرية ,وبين الحق الخاص والعام , وتدخل كبار رجالات الدولة من مسؤولين وأبناء عشائر لحل المشكله .
التوجه الرسمي كان يحاول إنهاء القضية حتى لا تتطور الأمور إلى أكثر من هذا الحد, فلقد اكتفت القيادة بنقله بعيداً عن مركز عمله وعن اشخاص – فوق القانون – واعتبار مما حدث ,خاصة من حجبت عنهم سلطاتهم وعنجهيتهم ,حقيقة أن امتيازاتهم وسلطاتهم القانونية ,لا تحميهم أحيانا من ثورة “رزالة ” مواطن بسيط تقلل من هيبتهم بين الناس .
ركز الرأي الرسمي, أن على المسؤول التصرف بمسؤولية ,وانه كان من الممكن أن يتدارك غضبه بقليل من التعامل الانساني بعيدا عن الاهانة والشتم .فلا يوجد هناك نصوص قانونية تسمح بذلك.وعندما تحصل عادةً’ تكون في ضروف استثنائية, وتحل إستثنائياً!!
ثلاثة اشهر مضت,وهو جالس خلف مكتبه يراقب الحدود, ,ويرسل الدوريات لتحد من نفوذ المتنقلين عبر الحدود بصورة غير قانونية.
مسافات واسعة من الصحراء اعتادوا مسالكها,تتشعب فيها الوديان والمنافذ.وتتعدد اساليب العبور بوسائلهم المتطورة يوم بعد يوم,واحيانا بوسائل بدائية لا تخطر على بال احد.
مساعده عبر الهاتف :”سيدي الضابط…يوجد اشخاص مهمين ينتظرونك في المكتب “
نظر خلدون إلى ساعته ,انها الثانية بعد منتصف الليل,بسرعة ارتدى ملابسه الرسمية متوجها الى مكتبه .
نظر خلدون الى الاشخاص الجالسين على مقاعد الانتظار, وقف احدهم وناوله كتاب بمغلف أصفر مختوم ,مكتوب عليه سري للغاية!
فتح خلدون الرسالة الموقعة’التي تأمره بتسهيل مهمة السائقين الاربعة وفوراً!!
سأل خلدون السائق المسؤول: ما هي حمولتكم؟
اجاب السائق :خضراوات وفواكه من تركيا .. سيدي!!
خرج ”الضابط خلدون” مع الاشخاص الاربعة, ليتفقد حمولة اربع شاحنات محملة بصناديق الخضروات تعبر بدون تفتيش ..
وقف خلدون على باب مكتبه ينظر الى الشاحنات وهي تغادر الحدود ,عندها ظهرت اضواء سيارة الدورية وقد دخلت نقطة الحدود متوجه لباب مكتبه المطل على ساحة التفتيش .
توقفت السيارة, محدثة عاصفة تحت عجلاتها من الاتربة ورمال, حجبت الرؤية مع عتمة الليل. ,ترجل الشرطيان من المقاعد الامامية ,ثم توجه أحدهم, ليفتح باب السيارة الخلفي ,سحب من المقعد الخلفي احد ابناء المنطقة ,جروه واجلسوه امام الضابط , وقد تمزقت ملابسه فوق جسده وبانت بطنه واكتافه, من كثرة الشد والسحب والجر, وقد سقط عقالة على الارض , وكاد شماغة ان يسقط عن كتفيه.
الشرطي :”سيدي هذا الرجل وجدنا بحوزته هذه الرزمة..تفضل.. سيدي!!
اخذ خلدون قطعة بنية اللون ملفوفة بكيس بلاستيكي ,نظر اليها في يده ,يرفعها ويخفضها مقدرا وزنها بنصف كيلو.
نظر الى الرجل المخفور,وقد ظهر الهلع والخوف على محياه, وضاع لون شعره تحت التراب الذي تراكم فوق رأسه.
سألة الضابط خلدون :”شواسمك؟
الرجل :جدعان بن ربيعان
نظر الضابط خلدون لما بين يديه مبتعدا في تفكيره عبر الذاكرة ,ثم اعاد النظر من جديد الى الرجل القابع أمامه .
المواقف والاحداث تتغير وتتلون,لكن المنطق السائد, لا يزال واحد .
اقترب خلدون من الرجل التعس نظر في وجهه قائلاً:” قِم …قِم , دوّر هَلك!!”