أرشيف - غير مصنف
هل نقل صلاة الجمعة من على شاشة التلفزيون يوازي الإيمان بالدين؟
نبيل أبو جعفر*
– أكثر من أربعين عاماً مضت على تَركي الأردن، لم أنقطع خلالها عن متابعة أخباره وتطوّراته منذ ما قبل الساتلايت والكومبيوتر، وأتابع قناته الفضائية التي آمل أن ترتقي – تقنياً – إلى ما وصلته أي فضائية خاصة من فضائيات أحد أتباع “طوال العمر”. وأتألم حين أراها لا تحترم مشاعر المشاهد ليلاً، حين تُطيل في تفاصيل حوار مع فنّان مغمور، فتضطّر بعد ذلك إلى اختصار مشاهد مهمّة من مسلسل ناجح يُسجّل جانباً من تاريخ المنطقة، ولو أنه يدور – على سبيل المثال – حول حياة الفنانة الراحلة أسمهان، كي تتلاءم نهاية حلقته مع موعد بدء نشرة الأخبار!
تركته وأنا على أبواب دخول الجامعة، وشاءت ظروف الحياة أن أتنقّل من بلد لآخر، حتى حطّت بي الأقدار منذ حوالي الثلاثين عاماً في باريس، فكتبت عنه ذات يوم من العام 1989 في عمودي الأسبوعي بصحيفة “المحرر”، التي وصل توزيعها في الأردن يومذاك حوالي المئة ألف نسخة، قلت فيها أنني قبل أن أترك بسنين، كان الواحد منّا إذا نزل الى سوق الخضار أو منطقة “السّيل” في عمّان، وغاصت قدماه في الوحل أثناء فصل الشتاء فصاح منرفزاً “يا ربّي حسَّن هذه الأحوال”، سرعان ما يُفاجأ – على الأغلب – بأحدهم يخرج له من تحت الأرض ليسحبه بتهمة أنه إذا كانت الأحوال لا تعجبه ، فإن هذا يعني أن النظام لا يُعجبه !
كان هذا في الماضي، أما الآن – كما قلت لحظة كتابة المقال قبل عشرين عاماً – فقد أصبح بإمكان الواحد تكرار هذه العبارة وما شابهها بملء فمه ، وأن يتكلّم ويكتب ويعارض، ولا يُعجبه العجب في الوزراء والمسؤولين، دون أن يناله سهم من “أحدهم”، أو تُوجَّه إليه أية تهمة في هذا السياق .
****
هذا لا يعني بالطبع أن كل الأُمور على ما يرام، فثمّة نواحي ما زالت تستدعي الإعتراض والتذمّر، غير أن جانباً لافتاً مما توقّف أمامه الكثيرون معترضين في الأيام الأخيرة وركّزوا عليه إبّان زيارة البابا لا يستدعي ذلك . وأعني الإعتراض على عدم نقل صلاة يوم الجمعة على شاشة التلفزيون – كالعادة – في الوقت الذي وصل فيه البابا إلى الأردن. وهنا بالذات أودّ التوقّف لتوضيح التالي:
رغم وجود تحفّظات عديدة لم يُصَرّح بها حول ما قاله البابا وما لم يقله . لكن على الإنسان أن يحتكم إلى المنطق والعقل إزاء هذا الموضوع ليكون منصفا ً، مهما كان معارضاً. وأول درجات سلّم الإنصاف أن نتبيّن ونقرّ بوجود فارق بين جوهر الدين والإيمان به وأداء شعائره، وبين مظاهر تعبّر عنه – رغم أهميتها -، لكنها لا ترتقي إلى مستوى يُمكنّنا أن نُحاسب فيه المقصّر مثلما يُحاسَبْ على الإخلال بالجوهر والإيمان. دون أن ننسى هنا أنه حتى قضية الإيمان ذاتها، ليس من شأن البشر أنفسهم المحاسبة عليها. فهناك ربّ عزّ وعلا، وهناك يوم حساب آتٍ لا ريب فيه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا أرى أي تناقض بين إيماني المطلق وواجب الإنسجام الديني والخلقي بين القول والفعل ، وعدم إرتياحي لشخص شيخ الأزهر أحمد سيد طنطاوي، لا من حيث أسلوب كلامه، ولا تصرّفاته و”تركيبته”. وأشعر كأنني آكل من لحمي عندما أسمعه يكرّر لازمة بعينها في كل خطبة وكل أسبوع، مع أن الدين واسع كالبحر واللغة أغنى من البشر، وآيات وأحكام الله عزّ وجل تُتيح أمامه مجالات واسعة لتعدّد صيغ الدعاء ومواضيع الدروس الدينية… الخ.
أنْطلِقْ في موقفي هذا من أن الطنطاوي له شخصّيتان: واحدة يترفّع بها على البسطاء، وأخرى “ينخفض” فيها كثيراً أمام كبار المسؤولين، فيُعطي الموقع الروحي بهذا التصرّف مرتبة الوظيفة “الميريّة”. فضلاً عن أنه يساير طرح السلطة حتى لو مسَّ جوهر ما يدعو له في خطبه، ويدّعي شيئاً بينما الحقيقة والوثائق وحتى الصُوَر والتسجيلات في بعض الحالات تؤكّد عكسه تماماً. ولا أدّل على ذلك من قضية مقابلته المشهورة لشمعون بيريس على هامش مؤتمر الأديان الذي عقد في نيويورك قُبيل شن حرب الإبادة الصهيونية ضد أهلنا في غزة.
في هذه المقابلة فتح شيخ الأزهر عينيه – على غير عادته – وحدّق بهما في ملامح بيريس مبهوراً وهو يُسلّم عليه ويحتضن بكلتي يديه يده أمام الحاضرين، وإلى جانبه كما يبدو في الصورة “التاريخية” التي أُخذت لهما يظهر بعض الحاضرين.
… ومع ذلك، خرج الشيخ طنطاوي لينفي كل هذه التفاصيل الموثّقة قائلاً بالنص أنه “لا يعرف شكل بيريس”، وأن مصافحته له كانت “عابرة” . وحتى يُضفي على ما فعله “شرعية” تستند إلى “رموز عربية رسمية” استطرد قائلاً: “… كان ذلك بحضور خادم الحرمين وأمير الكويت وعشرات الرؤساء”.
ورغم أن وسائل الإعلام الإسرائيلية لم تتركه “يفلت بريشه” كما يقولون، بل ردّت عليه، وكان أبرز ما أوردته صحيفتا هآرتس ومعاريف في عدديهما الصادرين يوم 3/12/2008 أن “الطنطاوي هو الذي تقدّم للسلام على بيريس وبادر إلى مصافحته، وأن الإثنين وقفا لدقائق وتبادلا الحديث الوّدي”.
رغم ذلك، فإن شيخ الأزهر كان وما يزال يستمرىء رؤية الحاخامات المتعصبين تحت ذريعة “حوار الأديان”، مع أن ثمّة حاخامات آخرين لا يؤمنون أصلاً بوجود “إسرائيل”، لكنه لا يتعرّف عليهم، ولا يريد – حسبما هو واضح – سماع أخبارهم أو آرائهم ، تماما مثلما لا يريد الإعتراف بعلمه أن غزة محاصرة ، وهو ما قاله بشحمة لسانه عبر الهاتف مع مقدم برنامج ” البيت بيتك ” الذي تبثه الفضائية المصرية !
****
في ضوء ما سبق وغيره الكثير، لا أرى في رأيي المتعلق بشخص الطنطاوي – كإنسان – ما يمسّ الدين الحنيف بشيء، بل أراه حرصاً على مواصفات لا بدّ من توفّرها في رجل الدين القدوة – حسب المفترض -، خصوصا أن هذا الموقف لا يتعدّى حدود الرأي بشخصه كإنسان لا أكثر. أي باختصار: الشيخ الطنطاوي ليس الإسلام، وموقعه على الرأس والعين، لكن هذا شيء وطبيعة شخصيته وتصرفاته شيء آخر.
أما المآخذ التي تُسجّل عليه فلا أوّل لها ولا آخر. لعلّ أبرز ما يلفت الإنتباه فيها – كمثال صارخ – أنه بعد أن خصّص إحدى خطب يوم الجمعة إبان انتفاضة الأقصى الأولى، للحديث عن موضوع النجاسة والجنابة وكيفية التطهّر.. الخ ، تقدّم منه بعد انتهاء الصلاة رجل مسنّ وقال له : لماذا لا تتكلم عن فلسطين وما يجري فيها يا فضيلة الشيخ ؟
وبدلاً من أن يردّ عليه بسماحة رجل الدين وسعة صدره، رفع يده وصفعه على وجهه بقوّة أمام الحاضرين الذين أنهوا صلاتهم للتوّ معه!
****
ما أُريد قوله من وراء هذه الأمثلة التفريق بين مستوى الموقف الجوهري وحتمية الإلتزام به، ومستوى ما عداه من مظاهر وأشخاص. وهذا يعيدنا إلى الموضوع الأساس: زيارة البابا والإنتقادات التي وجّهت حولها وحول ما قاله أو ما لم يقله.
لا ريب أن إعلان البابا – رمز المسيحيين في العالم – عن زيارته للأردن و”الأراضي المقدسة في المنطقة” – كما قيل – والتي اعتبرها روحيّة فقط ، مع أن “الروح” قد تمازجت فيها بالمواقف الدنيوية الإنسانية والسياسية أيضاً، قد شكّل بالنسبة للأردن دعاية أكبر بآلاف المرّات من أي دعاية يمكن أن تُنشَر كإعلان في أهم صحف العالم وقنواته الفضائية.
أُضيف إليها وصول أعداد كبيرة من الصحافيين ورجال الإعلام والمهتمّين، أتوا من أصقاع الدنيا المختلفة لتغطية هذا الحدث الذي لا يحصل كل شهر أو سنة أو حتى عقدٍ في أغلب الأحيان. فهل يُعقَل – لدى غير المدرك قبل المدرك – أن تبثّها معظم فضائيات العالم إلاّ تلفزيون البلد الذي يوزره ، وأن يتميّز هذا البلد المضيف عن سائر الآخرين بالتعتيم عليها؟!
لقد شاءت الصدفة أن تأتي هذه الزيارة ولزوم تغطيتها يوم الجمعة ، وفي وقت أصبح فيه من المتعذّر نقل شعائر الصلاة وتغطية مشاهد الزيارة في آن واحد (ربّما هناك من قال أو سيقول أن البابا وقّتها قصدا بهذا اليوم وهذه الساعة!). وهذا يفرض علينا طرح السؤال التالي لننهي هذه “الإشكالية” بموضوعية دون تعصّب ولا “تفريط”: هل الدّين – أي دين سماوي من الديانات الثلاث – أهم من البابا أم أن البابا هو الأهم؟
الجواب على ذلك أكثر من واضح، فالدين أهم من أي كائن كان، لكن، هل كان نقل الصلاة وجوباً يُماثل الإيمان بالدين، أم أن الصلاة ذاتها والالتزام بها هما الممارسة العملية لشعائر الدين؟ لا يختلف إثنان على أنه رغم أهمية نقل الصلاة في هذا اليوم الفضيل، إلاّ أن ذلك ليس هو الدين. فثمة فارق كبير بين جوهر الدين وممارسة شعائره، كفرض موجب علينا – وبين نقل هذه الممارسة بالصوت والصورة.
لماذا لا نفترض هنا أن القناة التلفزيونية قد تعطّلت، أو انقطعت الكهرباء، وهو افتراض يمكن حدوثه لأي سبب فني أو طارىء، فيحول دون نقل ما يتوجّب نقله كالمعتاد، ولنعتبر زيارة البابا سبباً “فنّياً” حال دون النقل، لا دون تأدية فريضة الصلاة بطبيعة الحال.
****
أعتقد أن ثمّة من كبَّر هذه “القضية”، بينما كان الأجدر أن يتمّ التركيز بموضوعية على جوانب أخرى، سواء من حيث الإنصاف بالنسبة لبعض أهم ما قيل على لسان البابا، أو النقد لبعضه الآخر. ومن المؤسف هنا أن غيرنا قد سبقنا لذلك، ومن يعود لما قاله “اليهودي يوري أفنيري” يُذهل بالأسلوب والاستشهادات التاريخية التي ردّ بها على ما قاله البابا حين استشهد بكلام الإمبراطور عن النبي محمد وعن نشر الدين الإسلامي بالسيف، مفنّداً الظروف التي قيل فيها هذا الكلام، ومبيّناً أن الإمبراطور الروماني – كما يذكّر أفنيري – كان يُلقي بالمسيحيين طعاما للأُسودْ، وكيف كانت علاقته برئيس الكنيسة التي إنقسمت إلى قسمين شرقية وغربية، حيث أصبح رئيس الأخيرة يُلقّب بالبابا ، وكان يُصّر على أن يكون الإمبراطور أعلى مكانة منه. وأعطى أمثلة كيف أن المسلمين حكموا اليونان ولم يحاول أحد منهم أسلمة أهلها بالقوة، وبالعكس فقد تبّوأ المسيحيون اليونانيون مواقع عليا في تركيا العثمانية، وكيف أنه في أيام اسبانيا المسلمة عن إيمان – كما قال – كان اليهود سفراء ووزراء وشعراء وعلماء. ثم ختم بالقول، “لقد كان عصراً ذهبياً بحق، فكيف كان هذا ليكون لو كان محمد أمر بنشر الإسلام بالسيف؟”.
هذا جزء مقتطف من مقال مهم لكاتب حريص على الكيان الصهيوني أكثر من حرصه علينا دون أدنى شك ، وقد تضمّن وقائع أخرى أهم من الوارد أعلاه، بأسلوب منطقي وشواهد وأمثلة تاريخية محدّدة، كان الأجدر بنا نحن أن نركّز عليها ، ونحن نلفت الإنتباه إلى ما كان من المتوقع سماعه على لسان البابا ولكنه لم يقله… وإلى ما قاله دون طموحنا أو رأينا فيه مراعاة للكيان الصهيوني . وقد كان من المهم جداً لفت نظر العالم كيف كان البابا مرتاحاً ومبتسماً وهو في زيارته للأردن وللأرض الفلسطينية، وأثناء مقابلته لأبناء شعبنا هنا وهناك، وكيف كان منزعجاً – دون أن يتكلم – من كثرة ما واجهه من قبل “شعب الله المختار”. وفي ذلك أكبر شهادة لنا، مهما بلغت الإختلافات والتباينات في الطرح والأسلوب المنشود.
كان الأجدر أن يجري التركيز على هذه الجوانب في انتقادنا المحقّ وإنصافنا المحقّ أيضاً، دون تعصّب ولا تفريط كما سلف القول.
… وبانتظار زيارة أخرى مشابهة نتمنّى أن يقف اللهاث الرسمي العربي وراء استجداء السلام المرفوض من الآخر… لعل الزائر الجديد ينظر إلينا باحترام يليق أكثر بهذه الأمة ونضالاتها، وهنا تكمن مهمتنا نحن لا مهمة غيرنا.
* كاتب وصحافي عربي يقيم في باريس