عوض في إجازه
بقلم :سهام البيايضة
وقف المشرف على العاملين أمام المدير المسئول عن المشروع الكبير, المقام في منطقة قريبة من العاصمة ,يقدم له ملفات الموظفين من اجل الاطلاع عليها ومعرفة من يستحق المكافأة, ومن تقاعس عن العمل خلال الفترة الزمنية السابقة والتي تتعدى الثلاثة أشهر,
متصفحا الملفات التي أمامه, توقف المدير أمام ملف عوض, مما استدعاه طلب المشرف من جديد.
دخل المشرف على المدير وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة, أدرك المدير من خلالها, أن المشرف قد توقع منه سؤاله, عن عوض.
المشرف لا يزال مبتسما:تريد أن تسألني عن عوض.. بدون شك!
المدير وهو يقلب الملف باحثا عن الاسم: نعم..تفضل لو سمحت.
عوض شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين ,لم ينهي المدرسة , لكنه يستطيع القراءة والكتابة,ومع بداية تأسيس المشروع قام المسئولين , بتوظيف مجموعة من العمال وتدريبهم على بعض الأعمال التي سيقومون بها أثناء العمل, من خلال عقود طويلة الأجل لا تسمح لهم بترك العمل إلا بكفالة مالية .وكان عوض من ضمنهم.
كثير من العمال ترك المشروع وآخرون بقوا, إلا أن عوض التزم بكل جديه لدرجة أن المشروع بالنسبة له, أصبح جزء من كيانه وحياته.
المدير:غريب هذا الرجل..منذ بداية المشروع, إجازة واحده فقط؟
-المشرف: هذا صحيح يا بيك..وفي تلك المرة, أحضرناه بواسطة الشرطة!
– المدير:بواسطة الشرطة؟؟ هذا غريب, يجلس كل هذه المدة بدون أجازه..وإذا حصل عليها, تحضروه بواسطة الشرطة؟؟..لابد أن وراءه قصة ما؟!
استدعى المشرف, عوض من اجل أن يقف أمام مديره المسئول.وقبل أن يدخل عوض إلى المكتب, خلع قفازات العمل واخذ يطرق ملابسه وحذائه وقميصه بالقفازات محاولا أن يزيل التراب الذي تراكم عليه, ثم قفز مرتين محاولا أن ينفض الغبار عن حذائه الثقيل الذي يلبسه صيف شتاء.
مسح جبينه بطرف قميصه ,محاولا أن يزيل حبات العرق التي انتشرت متغلغلة شعره المجعد الأسود , وتساقطت حباتها من بين الشعر الكثيف إلى ظهره عبر رقبته المكشوفة ,حتى انه أحس ببرودة مسارها فوق عاموده الفقري ليتلاشى حسه بها عندما تصل مؤخرته التي شد فوقها حزامه, الممسك ببنطاله الذي “كحت” لونه وتحول إلى لون بني يتخلله لون اخضر” كاكي” عفا عليه الزمن.
وقف عوض على حافة سجادة المكتب .متحرجا من الوقوف بحذائه الثقيل فوقها,.وترك آثار أقدامه المتسخة .
– تعال يا عوض..قرب جاي..قرب ..ولا يهمك ,.المدير مشجع له, وقد لاحظ ارتباكه وحرجه .
لا يزال العرق ينهمر من فوق رأسه وعلى وجهه, وقد التزم الصمت, وقبل أن تسقط حبات العرق في عيونه كان يمسحها بطرف قميصه.
المدير مستفسرا:شو قصتك يا عوض..ألا تشتاق لأسرتك وأقربائك ..أم ماذا؟
رد عاشتاق.ازداد ارتباكه:لا يا بيك..أنا اشتاق ..لكن…
رد المدير مقاطعا :لكن شو؟..ما في لكن..قررت أن أكافئك مقابل إخلاصك وتفانيك بالعمل أسبوع إجازة مدفوعة الأجر ..وفوقها علاوة هذا الشهر.” ثم نظر إلى المشرف قائلا:اصرف له من عند المحاسب خمسون دينارا مكافئه
تردد عوض بعض الشيء, غير متحمس لهذه المبادرة, لكن المدير لم يعطه أي مجال للاعتراض, عندما طلب منه الإسراع من اجل أن تقله سيارة المشتريات إلى اقرب مجمع للحافلات.فالجميع يعرف أن قريته “مسعده” بعيدة جدا وان عليه الإسراع ليصل إليها مع مغيب الشمس إذا حالفة الحظ ووجد وسيلة نقل, لتقله إلى قريته”مسعده” التي تبعد عن الطريق العام أكثر من سبعة كيلومترات.
وقف عوض تحت الشمس الحارقة ينتظر حافلات الجنوب, وقد خلع ملابس العمل وبدلها بملابس الظهور أمام الناس والزيارات الخاصة.لم يكن هناك اختلاف كبير,فلا يزال اللون الأخضر” الكاكي” هو السائد إلا انه بدل قميص العمل ,بقميص قطني احمر اللون ,التصق بجسده النحيل ,وقد ظهرت ذراعاه كأعواد قصيب ناشف ظهرت عبر اكمام القميص وكأنها معلقة بكتفيه,
وضع عوض يده في جيب بنطاله العميق ليصل إلى المبلغ الكبير الذي استلمه قبل دقائق.يقلب أفكاره, ماذا يفعل بكل هذه النقود.فهذه هي المرة الأولى التي يضع في جيبه مثل هذا المبلغ .وقد اعتاد على إرسال كل راتبه وعلى مدار سنوات العمل إلى والده هناك في “مسعده”والبقاء في المشروع .يتناول طعامه في مطعم الشركة وينام في الأماكن المخصصة لمبيت العمال.فهو يعلم ما سيلاقيه إذا وصل إلى” مسعدة “هذه الليلة.
توجه عوض إلى بائع الحلويات القريب .وطلب منه أن يضع له ثلاثة صحون ورقية من” الهريسة” الجاهزة,واحد لامه وأخواته والثاني لزوجة أبيه وأولادها والثالث يضعه عند جدته في حالة ,جاءه أصدقاءه للسلام عليه بعد هذا الغياب الطويل. ثم توجه إلى الفرن ليشتري أربع أكياس من الخبز, متوقعا وصوله بعد المغيب.وخلو البيت من الخبز بعد هذا الوقت .وقد اكتسح إخوانه خبز البيت عن آخره قبل توجههم للنوم كعادتهم.
اخذ عوض مقعده في الحافلة المتوجهة إلى الجنوب وقد وضع حمولته تحت المقعد, ثم اعتدل في جلسته.وقد توسطت الشمس كبد السماء ظهرا, وما أن انطلقت الحافلة حتى غاب عوض في سبات عميق, غير آبه لصوت المسجل الذي انطلقت أغانيه وموسيقاه برتابة وصخب, وانتشرت رائحة المدخنين والدخان عبر أجواء الحافلة.
شعر عوض بألم في رقبته عندما سقط رأسه فوق صدره, مع ضغط السائق على كابح الحافلة مخففا السرعة على الطريق الطويل.ومن عالم الأحلام أفاق, ليجد نفسه لا يزال على مقعده, وقد ذبل وجهه, وشعر بلعابه وقد سال إلى أسفل ذقنه. متفقدا الهريسة والخبز,ومن جيب بنطاله العميق اخرج علبة محارم صغيره ,فتحها واخرج منها محرمة ورقيه صغيره ,مسح بها وجهه وفمه ثم أرجعها إلى جيب بنطاله.لاستخدامها مرات أخر.
أخذت معالم المكان تنجلي لعوض عندما نقر بيده على شباك الحافلة يريد النزول على الطريق العام.وقف سائق الحافلة على جانب الطريق وقد بدأت الشمس تتجه إلى المغيب, حمل عوض أغراضه, شاكرا السائق ومودعا الحافلة.
الخبز في يد والهريسة بالأخرى, توجه عوض عبر الطريق الفرعي إلى قريته “مسعده”محاولا أن يكسب الوقت بالوصول باكرا في حالة عدم مرور وسيلة نقل لتقله إلى البيت.
مضى أكثر من ربع ساعة وهو يسير متوازنا على الطريق الفرعي .ومن خلف المنعطف الذي تجاوزه سمع صوت “تراكتور”زراعي ,من بعيد ,عندها توقف إلى جانب الشارع منتظرا أن يقف له .فلا داعي لان يترك حمولته ويؤشر له ,سيعرف السائق حاجته للركوب ,في هذه المنطقة الشبه مقطوعة.
توقف “التراكتور” بجانب عوض.ومن خلف صوت هدير المحرك,سمع السائق يقول له: عوض ؟..وش جابك يا شين.!!.اطلع.. اطلع.
اخذ عوض مكانه قرب السائق فوق عجل التراكتور الكبير.وقد تشبث بالخبز والهريسة, وقبل أن تسقط الشمس في المغيب, وصل عوض باب بيتهم الذي لم يغلق في يوم من الأيام.
توجه عوض إلى صحن دارهم المكشوف إلى السماء, مناديا بأعلى صوته:يا ناس يا هووا..وينكم؟؟,لم يجبه احد. ومن احد أبواب الغرف التي تحيط بصحن الدار,ظهرت عجوز على عكازها وقد اتكأت بيدها الأخرى على حافة الباب تنادي بصوت ضعيف:مين؟ ..مين بنادي؟
رد عوض بأعلى صوته:هلا يا جده..هاظ أنا… عوض!!
الجدة بصوتها المتعب:عوض .؟ ويشش إلي جابك يا عوض؟.. خير إن شاالله!
عوض مطمئنا جدته:لا تخافي يا جده, أنا في أجازه.. جييت اشو فكوا!
الجدة : شو بدك بهالشوفه يا بني؟ لويشش ما بقيت في بلادك هذيك؟؟..مآكل, شارب, نايم !!
عوض :اشتقتلكوا يا جده ..ويين أبوي, وأمي وإخواني, وزوجة أبوي..وينهم؟.. في عرس في القرية؟
ردت الجدة وقد انخفض صوتها من التعب وبدا مرتجفا:أبوك يا ولدي.. عند دار أبو العبد بنصب ,عند بنته بدوا يتجوزها.وأمك عند جارتنا تطق حنك ,وإخوانك في الحارات ,وزوجة أبوك عند أهلها ..زعلانه ,من أبوك ,لبش بدوا يتجوز وحده ثالثه!!
اقترب عوض من جدته ووضع أمامها حمولته ,ثم توجه إلى سور البيت مناديا بأعلى صوته:يااماه..ياااماه ه ه!
رد صوت من خلف السور: مييين؟ عوض؟ وش إلي جابك يا بنيي؟.
لحظات وقد ظهرت أمه من باب البيت تركض في اتجاهه تريد أن تعانقه وتمطره بقبلاتها, متسائلة عن سبب قدومه وهي تقول:خير إن شاء الله ..خير إن شاء الله!
جلس عوض فوق تنكه فارغة وجدها قرب سور البيت ,ينتظر لم شمل العائلة, أفراد وزرافات تجمع الإخوة والأخوات في صحن البيت ,مستغربين من إجازته.
عبر الباب المتهالك .ظهر أبوه وقد ظهر اقل عمرا,وأكثر حيوية ,مرتديا ملابس العيد ,ومعتمرا منديله الأبيض, الذي بهت بيضاه من كثرة الغسيل,وقد أمال عقاله إلى الجانب , مرددا كالباقين:وش جابك يا عوض..طردوك من الشغل؟؟
اقترب الأب من عوض ليحتضنه ويسلم عليه, عندها لاحظ عوض أن التغيير في لون الشارب والشعر المصبوغ باللون الأسود.قال عوض مطمئنا والده:اطمئن ..أنا في إجازة.
انتهت الإجازة وعوض جالس على ألتنكه الفارغة أمام عتبة البيت ,يحاول جمع أفراد الأسرة على وجبة طعام ,وأحيانا يفك صراعات الضرائر على الزوج والأبناء,جوعهم أكثر من شبعهم,هناك أخوة له, لم يتعود عليهم ولا يحفظ, حتى أسماءهم.
تفقد عوض جيب بنطاله العميق ,لم يجد ولا تعريفة, جلس فوق ألتنكه, وقد اسند ظهره إلى عتبة الباب ,ومن بين البيوت ظهرت سيارة شرطه ,وقفت بجانب البيت ,ترجل الشرطي من المقعد الأمامي وقد توجه إلى عوض,يسأله عن بيت العامل عوض ,رد عوض بهدوء:أنا عوض!قال الشرطي:تفضل معنا أنت مطلوب..عليك كفالة يجب أن تلتزم بها.
تجمع الجيران حول سيارة الشرطة ومن باب بيت الجيران ظهرت أم عوض, تصرخ خائفة على ولدها,وقد تجمع إخوته الصغار والكبار حوله, يصرخون ويولولون,وقد وقف والده بجانب زوجته الجديدة.ومن باب الغرفة ظهرت جدته ,تنادي عليه بصوتها المرتجف الضعيف: ويشش إلي جابك يا عوض ..من هذيك البلاد؟؟..مأكل, شارب نايم!!
ركب عوض في سيارة الشرطة ,ومن الزجاج الخلفي نظر إلى جموع القرية التي اجتمعت لتشاهد منظره ,وهو داخل سيارة الشرطة . ولا تزال نظرات الاستهجان تلاحقه,مستغربه قدومه في إجازه, وهو مغادر “مسعده”
لا احد يعلم , متى إجازته القادمة!