أرشيف - غير مصنف

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حـيًـا!!”مشهد لواقعٍ عربي”

حسين حرفوش
وضع ماسح الأحذية كرسيه الخشبي الصغير المعد للزبائن على الرصيف ، ثم أسرع إلى الرصيف المقابل ليلقي تحية الصباح على صاحبه الشيخ ..وليأخذ منه مسواكا يلوكه في فمه طوال يومه وخاصة بعد أن استمع لنصيحة الشيخ بترك الدخان ، وبعد أن أخذ مسواكا قال له: يا شيخ أود لو تبيع مع المسواك شيئا آخر بدل هذه الأوراق التي تحمل في طياتها زادا زهد فيه الكثيرون ،وأراها قد أتعبتك من حملها ،وأتعبتها من رجرجة جعبتك ،فابتسم له الشيخ ربت على كتفه ،ودعا له بالبركة كعادته.. استعد الشيخ بعد أن وضع فراشه الأبيض في زاوية الرصيف عند تقاطع الشارعين الكبيرين ، إنه ذات المكان الذي كان يجلس فيه أبوه ، بعد أن وضع سلة المسواك ،راح يخرج أوراقه ويرتبها أمامه، بطريقة محددة وبزوايا مختلفة كي تغري زبائنه،نظر ميمنة فإذا وجوه… بعضها أقرب إلى اليأس منها إلى الاكتئاب … وبعضها أقرب إلى الهم منها إلى الحزن … يا ألله !! ما أكثرهم !! وخاصة بعد موجة الغلاء الطاحنة هذه الأيام ..يارب سلم !! …ثم التفت ميسرة فإذا عابثون … معاكسون … ومشاكسون … مستهترون… أقرب إلى الحمق منهم إلى التهور … يجمع بينهم أنك تسمع في نهاية صوت ضحكاتهم أنينا مكتوما ينبيء عن خلل ما …يا ألله!! ما أكثرهم!! وزاد من أسفه أن معظمهم صبية و شباب على أعتاب الرجولة ، وتساءل من الذي أضاعهم وأوصلهم إلى ما هم فيه ؟! هل تاجر ( الشـر) ؟! أم تاجر (البشر)؟! أم كلاهما ؟!! ، ثم التفت أمامه .!! شدته الملامح الجامدة ..وخطوط الزمان وألوانه على الجباه والرؤوس ..ودمعة تلوح في أطراف عيون خفت بريقها ..ولون الوجوه المصفرة الضاربة للسواد ..والمنبئة عن علل الروح قبل علل الجسد ..وابتسامة اغتالتها على شفاههم أيدي السماسرة الجدد ..وأكثر ما شده كم الأوراق التي يحملونها بين أيديهم ومحافظهم ..ومعظمها أوراق مهترئة من كثرة حملها بين الأيدي ناهيك عن عرقها وغبار المكاتب التي تعرض عليها تلك الأوراق صباح مساء .. دهش من اختلاف أحجامها وألوانها وموضوعاتها .. فبعضها قروض بنكية .. وبعضها رجاءات للمسؤولين ..وبعضها شكاوى كيدية في بعض الأهل والجيران وزملاء العمل .. وبعضها شعارات حزبية تظهر وقت الحاجة ..ظاهرها التأييد والتمجيد وباطنها القرف والاشمئزاز .. وبعضها علاجات لطبيب صحة المركز..وأخرى وصفات لطبيب أعشاب ..يا ألله !! كم يحتاج هؤلاء وهؤلاء وأولئك إلي ما عندي .. عموما سأخلط الكثير من الصبر المر بماء التدين وأضع عليهم عطر التوكل والكثير من عسل اليقين ..ثم أصبهم في بعض قوالب الحكمة والأمثال .. وأعرضها عليهم.. وأغريهم بها.. لعل وعسى !! استعد ليحضر ما فكر فيه ..وفجأة سمع جلبة ..وصياحا من حوله …ولمح ماسح الأحذية ومفترشي الرصيف المقابل يلملمون حاجياتهم ويسرعون مختبئين في الأزقة الضيقة …حتى لا يراهم موظفو البلدية الذين ظهروا فجأة .. أما صاحبنا فبثوبه الأبيض وفراشه الأبيض وطول عهده بالمكان والزمان جعله يظن أنه صار معلما تراثيا يقصده السياح .. وهذا ما جعله مطمئنا نوعا ما .. ولكن فجأة …هجم عليه بعضهم يركلون بأقدامهم ما أمامه ..تناثرت حاجياته في عرض الشارع ..أسرع من بين أيديهم يجمع الأوراق المتطايرة من بين الأقدام ..أشفق عليه بعض صغار الحي ..فكثيرا ما كان يداعبهم إذا مروا عليه صباح مساء ، راحوا يجمعون ما تناثر من حاجياته فهتف بهم :اتركوا كل شيء.. واهتموا بتلك الأوراق التي عليها عطر الزمان.. ورائحة الأجداد.. وبوح الحكمة ..وإذا بيد تمسكه من قفاه بشدة .. انهض يا مجرم ..كم لوثت وشوهت عصرية مدينتنا ..!! نظر إليهم مستغربا …أنا !! أنتم مخطئون .. ما أنا إلا بائع مسواك… وجامع أمثال … وموزع حكمة !!..اسألوا هؤلاء الطيبين من المارة الذين أعرض عليهم بضاعتي بأقل الأثمان مصحوبة بالدعوات الطيبات .. فإن أخذ بعضهم شيئا ولم يدفع سامحته .. وإن وقف بعضهم وقرأ شيئا فرحت به ولم أطالبه بشيء ..اسألوهم ..فالتفت موظف البلدية ناظرا في وجوه من حوله..وفجأة تحول معظم المارة المتجمعين شهودا ضد الشيخ .. بل و تطاول بعضهم عليه بالشتم و الإهانة .. عندها راح يتمتم بكلمات بعضها رجاء لله.. وبعضها دعاء على الظالمين .. ..فدفعه موظف البلدية في ظهره بقسوة كاد يسقط منها أرضا .. 
 
وبينما هو يركب سيارة البلدية استعدادا للتوجه الى مركز الشرطة… لمح ماسح الأحذية يطل برأسه من زاوية ضيقة ..ويضع كرسيه الخشبي الصغير في مكانه على الرصيف ….ثم لمح رئيس مجموعة تطهير الأرصفة يضع حذاءه على الكرسي … وبينما راح ماسح الأحذية يجتهد في تنظيف حذاء رئيس مجموعة تطهير الأرصفة وتلميعه .. راح نائبه يكتب في محضر ضبطية الشيخ ما يمليه عليه رئيسه من الأدلة التي لاتسجن الشيخ فقط …بل ربما تؤدي لإعدامه..بسبب تلويثه وإضراره بالبيئة.. وتجمهر الناس ينظرون إليه في بلاهة وعدم اكتراث .. فقال وهو ينظر إلي كل واحد منهم .. (كم كنت مشفقا عليكم !! ولكن الآن .. تأكدت بأن ما أنتم فيه من هم وغم .. قليل عليكم .. وراح يتمتم بأبيات شعرية لم أتبين منها إلا ..
 
(( لقد أسمعت لو ناديْتَ حياً .. ولكن لاحياةَ لمن تُنادي .. ولو ناراً نفختَ بها أضاءت .. ولكن أنتَ تنْفُخُ في رَمَــادِ )) !!! )
 
 
 
حسين حرفوش كاتب وشاعر مصري
 
 

زر الذهاب إلى الأعلى