أرشيف - غير مصنف
إيران: الاصلاحيّون في محطّة الانتظار
هراوات وقنابل مسيلة للدموع واعتقالات وعيارات نارية في الهواء، وإشعال نيران في الطرقات والمحالّ التجارية وبعض الدوائر الرسمية، وتحطيم زجاج السيارات والمصارف الحكومية، تعبيراً عن الغضب والاعتراض على نتائج الانتخابات، هكذا بدا المشهد الإيراني بعد الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في طهران. وفي الوقت الذي تم اعتقال المئات بينهم قيادات سياسية معروفة، شدّد المرشّح الاصلاحي مير حسين موسوي على ضرورة مواصلة التحرّك الشعبي في كل أنحاء إيران، وقدّم الى مجلس صيانة الدستور طلباً بإلغاء نتائج الانتخابات بسبب «المخالفات» التي تخلّلتها، معلناً عن استعداده لقيادة تظاهرات جديدة. لكن المسألة ليست بهذه البساطة، لأن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية قطع الشك باليقين، عندما وصف عملية الاقتراع بأنها «معجزة إلهية» لا نظير لها في تاريخ انتخابات إيران بعد انتصار الثورة، وقال إنها «عيد حقيقي»، وحذّر من احتمال قيام الأعداء بمحاولة مغرضة لسرقة حلاوة هذا الحدث من الشعب الإيراني. وفي غضون ذلك دخلت واشنطن على الخط بلسان نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن، الذي أبدى شكوكاً في إعادة انتخاب نجاد، على أساس أن النتائج قد «لا تكون واضحة!»، وشاركه في ذلك الاتحاد الأوروبي الذي أعرب عن مخاوفه من «مجموعة مخالفات!» قد تكون حصلت في الانتخابات…
ماذا تعني هذه التطوّرات؟
خمسة أجوبة تبدو ممكنة في اللحظة الإيرانية الراهنة:
< الجواب الأول هو أن للانتخابات الإيرانية خصوصيّتها في نظام يجمع بين الديمقراطية والتيوقراطية، وتبحث عن مكاسب على المستويين الداخلي والخارجي في مواجهة الضغوط والتحدّيات التي يواجهها.
ومن الواضح أن «أمن إيران القومي» هو الذي حكم حتى الآن ولا يزال اللعبة الانتخابية، وأن مشاركة الناس في التعبير عن آرائهم لا تلغي الخطط المطلوبة للمحافظة على مقوّمات النظام، وتزكية من يفترض تزكيته في ضوء مستلزمات الأمن القومي.
< الجواب الثاني هو أن تجربة انتخاب السيد محمد خاتمي لرئاسة إيران في العام ١٩٩٧ وانتخابه مجدّداً في العام ٢٠٠١، تمّت كلتاهما في ظروف داخلية وخارجية مختلفة. والجناح المحافظ داخل الثورة الإسلامية يعتبر نفسه اليوم مهدّداً، ومن غير المعقول أن يسلّم بانتقال السلطة الى الاصلاحيين في هذه المرحلة. ومعروف أن السلطة الحقيقية في إيران هي في يد أجهزة ودوائر غير منتخبة، تتجاوز كل الاعتبارات الدستورية وغير الدستورية، تبدأ بمصلحة تشخيص النظام ومؤسّسة ولاية الفقيه وقوّات الحرس الثوري وأنصار «حزب الله» وقوّات الباسيج (التعبئة)، وتنتهي داخل المؤسّسة العسكرية والقيادات الدينية المحافظة، وفي هذا كلّه تشكّل الانتخابات أحد الطقوس السياسية غير الحاسمة.
< الجواب الثالث هو أن المشاركة الشعبية الكثيفة في الاقتراع لا يمكن أن تغيّر في توجّهات النظام الأساسية، بدليل أن أكثر من سبعين صحيفة ومجلّة أغلقت في زمن تولّي محمد خاتمي مسؤوليات الرئاسة، في ظل الشعارات الديمقراطية وحوار الحضارات وبناء المجتمع المدني… وهي شعارات لا تزال مرفوعة ولو بوتائر أقلّ في زمن الرئيس الإيراني الحالي.
< الجواب الرابع هو أن التجربة الإيرانية دلّت حتى الآن على أن النظام قادر على أن يستوعب العمل السياسي العلني، كالاعتصامات المدنيّة أو الاحتجاجات والاضرابات، بقدر ما يستطيع أن يستوعب الانتخابات كأحد أشكال التعبير عن الرأي في صناديق الاقتراع، من دون أن يشكّل ذلك، حالة ملزمة على مستوى النتائج. ثم إن الرئيس الإيراني، وهو أعلى سلطة رسمية بعد الولي الفقيه، لا يملك القدرة على اتخاذ أي قرار سياسي ملزم خارج إرادة ولاية الفقيه.
< والجواب الخامس، وقد يكون هو بيت القصيد، هو أن الصراع بين الجمهورية الإسلامية ومؤسّساتها الحاكمة والقوى الغربية صراع مفتوح، رغم كل ما يتردّد عن احتمالات نجاح التجربة الحوارية التي بدأت إرهاصاتها تظهر في بعض التقارير الغربية. ومن هنا، فإن النظام الإيراني الذي يعيش مشادّة داخلية بين المنتمين الى المدرسة الواحدة محكوم بالدفاع عن نفسه ضد الأخطار الخارجية، وتحصين توجّهاته الأمنيّة والعسكرية في هذه المرحلة، لأن زمن الانفتاح على التغيير لم يحن بعد. وليس سرّاً أن الولايات المتحدة وحلفاءها يتحرّكون لخنق النظام الإيراني، كما الاقتصاد الإيراني، ويفتحون جبهات ضغط هائلة في كل الاتجاهات، في ما يتصل بالملف النووي والسياسات التسليحية بصورة خاصّة، واجتماعات الحوار التي تعقد تندرج في إطار هذه الضغوط. في التعامل مع هذه الوقائع، تهدّد إيران بمواصلة العمل في برنامجها النووي، وتعتبر أن برنامج الأبحاث النووية الذي تقوده حق مشروع من حقوقها كدولة ذات سيادة، الأمر الذي تنظر إليه الولايات المتحدة (وإسرائيل) نظرة عدائية، وتعتبره مؤشّراً الى رغبة إيرانية في امتلاك القنبلة النووية. وفي مثل هذه الظروف، لا يمكن للنظام الإيراني أن يسلّم بالتخلّي عن تشدّده في الدفاع عن مكاسبه، أو ما يعتبره مكاسب حقّقها على المستويين الداخلي والخارجي.
وبمعزل عن هذه الاعتبارات يمكن القول، إن الانتخابات الرئاسية في إيران طوال العقود الثلاثة الماضية، أثبتت أن الشعب الإيراني عادة ما يعيد انتخاب الرئيس الذي انتخبه قبل أربع سنوات، وهذا ما حصل طوال عمر الثورة، والانتخابات الأخيرة لم تشذّ عن هذه القاعدة، وقراءة حظوظ المرشّحين يفترض أن تستند أولاً الى هذا المعيار. أما مراهنة الاصلاحيين على الأصوات الصامتة من أجل كسب المعركة، فدونها عقبات من النوع الكبير، لعل أهمّها أن الاصلاحات المطلوبة على الصعيد الداخلي يفترض أن تنتظر «الوقت الملائم»، علماً بأن موعد التغيير لم يحن بعد. وفوز المحافظين، مرة أخرى، يفترض ألا يفاجئ أحداً، وكذلك مباركة الولي الفقيه لهذا الفوز، ولو أن رياح التغيير بدأت تهبّ على العالم. والتفاؤل الذي أبداه الاصلاحيون قبل إعلان النتائج، يبدو في محلّه بعد فوز التيار الأكثري في لبنان، وفوز التيار الليبيرالي في الكويت ووصول أربع نساء الى مجلس الأمّة، لكن ما حصل في إيران يعني أن المعادلات الداخلية الإيرانية مختلفة، وأن التحدّيات الخارجية الضاغطة لا تسمح ـ حتى الآن ـ بالانفتاح على حالة تغييرية واضحة في الداخل. وأبرز هذه التحدّيات يتمثّل في أن اليمين المتطرّف هو الذي يحكم إسرائيل في هذه المرحلة، والنبرة الإيرانية الهادئة قد توحي بأن الجمهورية الإسلامية في موقف ضعف، في اللحظة التي يلوّح فيها الإسرائيليون كل يوم بتوجيه ضربة عسكرية الى المنشآت النووية الإيرانية.
وباختصار، يمكن القول إن شعور الإيرانيين بتنامي قوّتهم العسكرية، يمنعهم من إبداء مرونة أكبر نحو التطبيع مع الولايات المتحدة، ومن المستبعد أن يبدّلوا مواقعهم بسهولة تجاه واشنطن، طالما أنهم يشعرون بوطأة التهديدات الإسرائيلية، وهكذا فإنه يفترض بالاصلاحيين أن ينتظروا أن تترجم واشنطن أقوالها الى أفعال… وآنذاك يصبح لكل حادث حديث >
«المشاهد السياسي» ـ لندن