طاعون في ليبيا: مرض فساد وتفسخ وإنهيار
احتاج العراق الى 160 ألف جندي أميركي ونحو 150 ألف مرتزق أجنبي، وما يقدر بـ 20 ألف عنصر من عناصر الحرس الثوري الإيراني، و30 ألف مليشياوي تابع للأحزاب الطائفية الحاكمة، لكي يعود مرض منقرض مثل الكوليرا ليظهر فيه.
ليبيا لم تكن لتحتاج هذا كله. كان يكفي حفنة منتفعين من لصوص الثورات لكي يصيبوا بلدهم بمرض قادم من القرون الوسطى.
الطاعون ليس مرضا عاديا. انه بالدرجة الأولى مرض تفسخ يصيب البنية التحتية، او يدل على انها غير موجودة أصلا، حيث تتداعى أبسط وأول مقومات البقاء البشري: النظافة.
والطاعون مرض يعني انه لا توجد رقابة، ولا رعاية صحية لخلق الله المواطنين، ولا اهتمام من جانب المسؤولين بأوضاع الخدمات، ولا مؤسسات حكومية تؤدي أعمالها بانتظام وتتحمل مسؤولياتها تجاه هذه الأعمال، ولا مستشفيات تمتلك الخبرات الضرورية لتشخيص ومعالجة المرض، ولا فرق وقاية تراقب المخاطر وتعمل على مكافحتها في الوقت المناسب.
والطاعون مرض يدل على فساد البيئة التي يظهر فيها. فالخدمات وأعمال الرقابة والرعاية الصحية والإجتماعية والمؤسسات الحكومية تختفي، واقعيا، ليحل محلها خليط عشوائي من المظاهر المخادعة والهياكل المهترئة بينما يكون التعفن قد لحق ليغزو كل شيء.
أمراض القرون الوسطى لا تظهر إلا عندما تكون البيئة العامة قد بلغت من التفسخ والإنهيار حتى أصبحت بيئة قرون وسطى.
قبل 700 عام كان هذا المرض يغزو اماكن متفرقة من أوروبا.
ظاهريا فقط تؤرخ ليبيا لنفسها عيشا في عالم اليوم. ولكنها تنحدر في الواقع، بفضل التفسخ والإنحطاط العام، في بنيتها التحتية وفي نظامها الحكومي وفي إدارتها، لتعيش في عالم القرون الوسطى.
الدلائل التي تكشف هذا التفسخ أكثر من كثيرة. ويمكن للمرء أن يلحظها في مؤسسات الحكومة التي تتداعى أبنيتها، كما يمكن أن يلحظها في المباني العامة وفي كل مظهر من مظاهر الحياة.
إنعدام الإكتراث هو الصفة الغالبة. و… إنعدام الشعور بالمسؤولية أيضا. فالمنتفعون من النظام ينقلون الأموال الى الخارج، بحجة أنها “استثمارات” ويستكثرون أن يستثمروها في بلدهم.
عشرات المليارات تذهب لتشتري فنادق ومنشآت ومباني في الخارج، ولتنقذ شركات أجنبية من الإفلاس، ولتشتري أسهما في إقتصادات تعاني من الإنهيار، بينما يعاني الليبيون من الحرمان في أبسط مقومات حياتهم. وهم يرون بلادهم تتحول تدريجيا الى خراب، ويتفسخ فيها كل مظهر من مظاهر الرعاية والمسؤولية.
التعليم ينهار، والخدمات الصحية تنهار، والحكومة مجرد “خيال مآته”، والبنية التحتية برمتها خردة. والعقليات التي تقف وراءها هي نفسها خردة أيضا.
الطاعون الحقيقي هو ليس البكتيريا التي تنشر الموت، والتي يمكن مكافحتها بمضادات حيوية صارت متاحة الآن. الطاعون الحقيقي هو طاعون الفساد الذي ينخر عظام بلد يجني، مع كل مطلع شمس، اكثر من 70 مليون دولار. ولا أحد يعرف أين تذهب هذه الأموال، ومن هم المسؤولون عن عشرات المليارات التي تم “استثمارها” في الخارج، وما هي الضمانات لتسيير هذه الأموال لحساب الشعب الليبي، وليس لحساب الشركات والمؤسسات التي تقوم بإدارتها؟
الطاعون الحقيقي هو طاعون المستوى الأشد من التخلف الإداري والسياسي بل واللامسؤولية الأخلاقية التي تسمح بجعل بلد يفترض أن يكون غنيا ومزدهرا ومتقدما، ليصبح بلد مرض من أمراض قرون الظلام.
الطاعون الحقيقي في ليبيا داءٌ ليس له دواء.