ورقة بخمسين دينار
بقلم: سهام البيايضة
توقفت سيارة” الجيمس ” ((GMC السوداء الضخمة,على إشارة المرور المؤدية إلى المدينة _دير غبار, تحمل لوحة كتب عليها باللغة الانجليزية ,”,ولاية كاليفورنيا ” ,تسير عبر شوارع عمان, تزاحم اللوحات المحلية, بالشكل والقيمة والتأثير ,تجلب انتباه المارة والسائقين, الذين لاحظوا لوحتها الأمريكية , يقودها رجل ظهرت عليه علامات النعمة , وقد جلست بجانبه سيدة, تظهر عليها ملامح أجنبيه ,وفي الخلف تربع كلب كبير من نوع ” الهاسكي” اخرج رأسه من نافذة السيارة خلف السائق , وقد أعجبه – على ما يبدو- , منظر السيارات والباعة المنتشرين بين السيارات ,وقد تطاير فروه الأسود الموشح بالأبيض ألامع , مع الهواء المتحرك حول السيارة .و ارتفعت أذناه, السوداويتان والمبطنتان من الداخل بالفرو الأبيض, فوق رأسه الضخم, مظهر ثقته واعتداده وشعوره بالراحة والأمان.وصاحبه يلقمه من الأمام, بسكوته المفضل ,على شكل عظمة صغيرة,يتلقفها مستمتعا بالرحلة, وبالرعاية التي يتلقاها بكل اهتمام من (أسرته).. مالكه .
اقتربت السيارة من الإشارة الضوئية ,وما أن توقفت حتى ركض بائع العلكة نحوها, يريد أن يبيع علكته ماركة “شعراوي” , للسائق الذي ,اعتمر”كاب” قبعة تحمل إشارة فريق نيويورك لكرة ” البيسبول”.ونظارة من نوع, ” ري بان”,سوداء قاتمة,كالتي يضعها جنود البحرية الأمريكية “المارينز”,الذين نشاهدهم على شاشات التلفاز, في بغداد وأفغانستان وعبر الأفلام الحربية”الاكشن” التي تبث على الشاشات العربية في كل مكان.
فتح السائق نافذة السيارة ,ونقد الصبي البائع- المتسول,ورقة واحدة فقط بقيمة خمسين دينار.
في البداية,لم ينتبه الصبي لقيمة الورقة , معتقداً أنها دينار فقط ,على ما يبدو, وما أن تحركت السيارة الضخمة, تريد أن تقطع إشارة المرور حتى تدارك الصبي, قيمة الورقة التي بيده, ليقفز فرحا مندهشا غير مصدق,صارخا بأعلى صوته :خمسين دينار ..خمسين دينار..,يا الله.. يا ناس يا عالم.. يا هوو…خمسين..خمسين..خمسين. ورقه كاملة ..كاملة..كاملة!!
فقد الصبي عقله بدون شك, حتى كاد أن يسقط مغشيا عليه من الفرحة ,ولولا انتباه السائقين,وأبواق السيارات التي انطلقت لتنبهه , لأصطدم بالسيارات ,ولكانت دهشته سبب حتفه,لكن, الله قدر ولطف !!.
قفز الصبي باتجاه الجزيرة التي تفصل الشارع إلى مسربين ,ومن بين السيارات المنطلقة, على الإشارة, قطع الشارع باتجاه الرصيف المقابل ,ومن عدة أماكن ظهر صبية , تجمعوا حوله يقفزون معه ,وينظرون إلى ما يلوح به وهو يركض قابضا على ورقة النقد ,يدور في دائرة يتسع محيطها ويصغر بحركات أقدامه التي أفقدته التوازن حتى بدا من بعيد, وكأنه هندي احمر يرقص رقصة سقوط المطر في صحراء “نيفادا”, غير مصدق بعد, لما بين يديه, وقد تناثرت حبات العلكة حوله على الأرض,دون أن يكترث لها, ولا حتى الصبيان الذين تحلقوا حوله,ليكون لهم شأن خاص بتلك الغنيمة الدسمة التي حصل عليها زميلهم في المهنة والكار.
فوق الرصيف جلس الصبية يستمعون إلى زميلهم بحرص وإصغاء, ومع سرد أحداث القصة, يتقلب تعبيرهم بين الدهشة والاستغراب , بعدها دار حوار انتهى بالصراخ ,وقد ظهرت حدة تعبيرهم أكثر, وازدادت شراسة ,ثم نهض الصبي من بينهم , متجاهل حبات العلكة التي تناثرت حوله , واضعا قدمه فوق علبة العلكة مسويا إياها بالأرض, وهو يحاول الابتعاد عن الصبية, الذين ظهرت عليهم بوادر عدم الرضا ,من موقفه تجاههم.
أضخمهم, شد قميص الصبي , من الخلف وسحبه باتجاهه, يحاول منعه من الذهاب ,ممزقاً القميص البالي الملوث بدخان السيارات ,حتى بانت أكتافه, وتحول بفعل شد اصابعه الى شرائط وخرقه باليه تحيط بجسده النحيل.
احكم الصبي قبضته على ورقة الخمسين دينارا ,وهو يحاول الانعتاق من قبضة زميله الذي امسك بذراعه, يريد أن يفتح قبضة يده, فوق ورقة النقد ,لكن الصبي كان يتلوى ويقاوم ,يرفع يده في الهواء مبعدا إياها ,وقد تجمع الصبية حوله ,يريدون تلك الورقة اللعينة,ثم طرحوه أرضا, مجتمعين عليه ,حتى اختفى جسده النحيل تحت أجسادهم,
كانت يده المحكمة الإغلاق على ورقة النقد, تظهر بين المقاومة ومحاولة التفلت, يبعدها إلى الخلف والى الأمام, وأحيانا , كانت أقدامه تظهر وهو يحاول دفعهم بعيد ا عنه.
جلس الصبي الضخم فوق صدر الصبي التعس, وقبل يحصل على ورقة النقد, سمعوا صوتا مألوفا يصرخ من بعيد:يا أولاد..الكل..ب!!..تاركين شغلكوا.. وتلعبوا..بفرجيكم يا أولاد…الكل…ب!!
رغم الوضع المأساوي الذي كان عليه الصبي إلا انه تذكر الكلب الذي كان يطل برأسه من النافذة خلف سائق “الجيمس” السوداء, متمتما بتعب:يا ريتنا أولاد كلب ..كان حالنا أفضل من هالحال!!
اقترب الرجل القصير القامة .بكرشه المتدلي وبصلعته التي حاول تغطيتها, بخصلات شعر طويلة سحبها من جهة اليمين لتغطي منطقة الصلع فوق رأسه,وقد اخذ يضربهم بقوة وبدون رحمة أو تفريق, ذات اليمين وذات الشمال ,مستخدما أرجله “شلاليت”غير عابئ بمقدار الأذى أو الألم الذي يصيب الأولاد منه.
ترك الصبية زميلهم الملقى على الأرض , متفرقين,تاركين لابو “كرشة” تولي أمره , مبتعدين, وقد اختفوا بين السيارات وعلى الشوارع ,بالصورة التي ظهروا بها .
وقف الصبي أمام أبو” كرشه” يحاول تفادي صفعاته , برفع ذراعيه محتميا بهما ,لكن بدون فائدة ,فقد ظهرت على صفحة وجهه المتسخ, اثر الأصابع التي التصقت بوجهه, تاركه لون احمر فوق سمار بشرته, وهو يناول ” أبو “كرشة” الورقة الملعونة,ثم اخذ يبحث عن علبة العلكة ,يصلح انبعاج كرتونها, الذي داسه بقدمه ,و يجمع حبات العلكة المتناثرة وهو يحاول مسح دموعه المتساقطة بكم قميصه الممزق. وأبو “كرشة” يراقبه.
على الرصيف .انتظر الصبي توقف إشارة المرور ليعود من جديد بين السيارات يحمل علبة العلكة,ومن أمامه, على الإشارة ,تجاوزته سيارة مرسيدس سوداء.عرف سائقها, من خصلات شعره الطويلة التي سحبها من جهة اليمين لتغطي منطقة الصلع فوق رأسه.