أرشيف - غير مصنف
هل أخطأتُ أم أخطأ قاضي عبد المؤمن خليفة
محمد تامالت – لندن
وعدت ممثلي وزارة العدل الجزائرية القاضيان محمد عمارة المدير العام للشؤون القانونية والقضائية ومختار لخضاري مدير الشؤون الجزائية وإجراءات العفو، بإعلان الهزيمة إذا أصدر القاضي البريطاني تيموتي ووركمان حكمه بتسليم عبد المؤمن رفيق خليفة رجل الأعمال الجزائري الهارب. ورغم أنني لم أعد بنشر هذا الإعلان علنا ورغم أنه كان يمكنني أن أفضي بذلك إليهما في السر إما هاتفيا أو عن طريق البريد الإليكتروني فإنني قررت أن يكون هذا الإعلان عن الهزيمة علنيا أمام القراء أصدقاء كانوا أم خصوما أم محايدين.
لكن إعلان الهزيمة هذا ليس في حقيقة الأمر إعلانا لهزيمتي أنا لعدة أسباب أشرحها في هذا المقال، بل إنه إعلان عن هزيمة القضاء والحكومة البريطانيين التي تتوازى مع هزيمة أية إرادة لإصلاح العدالة ووضع حقوق الإنسان في الجزائر.
ولست أدافع عن خطأ ارتكبته في التقدير ولست كذلك أرمي بالكرة في مرمى بريطانيا والجزائر مكابرة مني وتعنتا، فأنا متأكد أن لرفيق خليفة نصيبه من المسؤولية في الكارثة التي حلت وإن كان لا يجوز لي ما دام الغموض يلقي بستاره الحالك على الملف وما دامت المعلومات الصحيحة الوافية حول القضية شحيحة، لا يجوز لي أن أقدر نسبة مسؤوليته في القضية مثلما لا يجوز أن أثبتها بشكل مطلق أو أنفيها بنفس الشكل. وأظن خليفة فهم هذا جيدا حين سألني خلال زيارتي له في سجنه قبل أسبوعين عن رأيي في براءته فصمت صمتا لم يكن صمت الرضا وإنما كان صمت التخفيف عنه سجينا.
وأحسب أن كل الأطراف التي كان باب المحكمة ينغلق عليها خلال السنة والنصف التي استغرقها النظر في مسألة تسليم المعني إلى الحكومة الجزائرية كانت تدرك موقفي ذلك، فأنا لم أدافع عن سارق لأقوات الشعب إذا ثبتت السرقة عليه كما لا أجرؤ على الدعوة إلى أخذه بالرأفة بل سيعلو صوتي لتقديمه للعدالة إذا كانت التهم ثابتة عليه بالفعل، لكن رأيي هذا لا يتعارض مع شروط أدافع عنها تماما مثلما أدافع عن عقاب من يستحق العقاب.
فلا يجوز أن تستخرج اعترافات أحد تحت التعذيب المادي والنفسي، ولا يجوز منعه هو ومحاموه من استخدام القرائن والأدلة والمعلومات التي تساعده على إثبات براءته، كما لا تجوز محاكمته وحده دون شركائه الذين قد يكون دورهم في الجريمة أكبر من دوره، أما الأدهى والأمر الذي لا يجوز تبريره فهو أن يخضع القاضي المخول بالحكم في قضيته لسلطة موظف إداري أو ضابط مخابرات أو مسؤول سياسي. وحتى القانون الذي يجب أن يُحكم عليه وفقه في بلد كالجزائر يجب ألا يتعارض مع مبادئ الإسلام الثابتة ولا مع العرف البديهي المجمع عليه من الجزائريين كما يجب أن يصدر عن هيئة منتخبة حقيقة لا معينة بالتزوير.
هذه الشروط ليست شروطا تعجيزية بل إنها أركان العدل التي ينبغي أن تنبني عليها دولة مثل الدولة الجزائرية التي لم يحررها أحد غير شعبها ولم يؤسس لشرعيتها أفضل من شهدائها.
ولقد نظر إلي العقيد محمد خليلي مندوب المخابرات الجزائرية السابق في لندن الذي كان يعمل تحت غطاء مستشار دبلوماسي نظرات مخلوطة بين الدهشة والانزعاج حين كنت أذكره قبل سنة خارج قاعة المحكمة بحالات التعذيب الصارخة التي لم تنجح زنازين إدارة الاستعلام والأمن في إخفائها، وبحالات تلفيق الأدلة التي كان بعضها ينتهي بفضائح تشجع القضاة أو تجبرهم (فالقضاة مثلهم مثل غيرهم في الجزائر فيهم الصالح وفيهم الخبيث) تشجعهم أو تجبرهم على الحكم ببراءة متهمين وفقوا في اختيار محامين أكفاء ونزهاء. حالات كثيرة كحالة ذلك الشاب الذي اتهمته النيابة، كما نقلت الصحافة الجزائرية مما سُمح لها أن تنقل، اتهمته باستخدام سيارته لنقل متفجرات إلى معاقل الإرهابيين فأثبت محاميه أنه لا يملك سيارة ولا رخصة سياقة. ولم تكن نظرات مندوب المخابرات الحالي إلي خلال أحاديثنا المجانبة لمحاكمة الخليفة تختلف عن نظرات سابقه خليلي تلك.
وربما أكون فشلت في إفهام أصحاب القرار الحقيقيين في الجزائر بأن معركتي ليست ضدهم ولكنها ضد أسباب ومسببات تنخر جسد الأمة الجزائرية بما يترتب عنها من ظلم وفقر واستبداد، لكنني متأكد بأن كثيرا من الضباط والقضاة والوزراء وغيرهم من المساهمين في بناء المشهد السياسي الجزائري يحترمون موقفي ذلك الذي أظل أدفع ثمنه اليوم ولا أبالي محتسبا أجر ذلك عند الله.
وبدل أن يلجأ النظام الجزائري إلى كسر تلك القاعدة الكسيحة التي يعتمدها دائما وهي أنه لا إصلاح إلا بحاجة مباشرة له وفي آخر لحظة وأنه ما انعدم ضغط من الخارج فلا ضرورة لتغيير في الداخل، فإن هذا النظام فضل بدل ذلك دفن رأسه في الرمال. ولقد كنت أشعر بالخجل حين أسمع محامي الطرف الراغب في تسليم الخليفة وهو الذي كان يمثل الموقف الجزائري وإن كانت الحكومة البريطانية هي التي وكلته وتكفلت بأتعابه كما أُخبرت، أسمعه يعترف بأن التعذيب لا يزال يمارس في الجزائر حقا ولكن فقط ضد المتهمين في قضايا الإرهاب الذي ليس الخليفة واحدا منهم. بل إن الحكومة الجزائرية تعهدت رسميا في مجمل الضمانات التي قدمتها بأن إدارة الاستعلام والأمن (جهاز المخابرات) لن تتعامل مطلقا مع ملف الخليفة ولن تحقق معه، وأية استهانة بالسيادة أكبر من تلك الاستهانة.
لقد اتهم رفيق خليفة خلال المحاكمة الصحافيين الجزائريين بأنهم فاسدون خاضعون لسلطة العسكر والمال وإن كان استثنى منهم قلة حين التقيته في حبسه، ولم يكن اعتراضي على ما قاله لأن ما قاله لم يكن صحيحا بل لأنه قام بالتعميم، وحين أسوق هذا الاتهام فإنني أفعل لألفت النظر إلى الوضع الأعوج الذي أوصل توفيق وبوتفليقة البلاد إليه فعطلا من الكفاءات ما عطلا فجعلاها كفاءات خائفة أو طامعة أو يائـسة أو عاجزة. ثم ها هو محامي الشيطان فاروق قسنطيني ووزير ترويض القضاة والمحامين الطيب بلعيز يرحبان بقرار القضاء البريطاني معتبرين إياه دليلا على نجاح إصلاح العدالة دون أن يجرآ على نشر الضمانات المذلة الناحرة للسيادة التي قدمتها الجزائر مقابل ذلك التسليم.
إنني لم أخطأ في تقديري لوضع حقوق الإنسان واستقلالية القضاء في الجزائر وإنما أخطأ القاضي الذي حكم بتسليم الخليفة لأنه سمح لنفسه عن عمد أو عن سوء تقدير بالوقوع ضحية لعدة أمور.
وقع القاضي أولا ضحية لعدم تكافئ الأسلحة الدفاعية بين المتهم وبين المدعي، فكان محامو الحكومتين (المنتدبون من شركة ماتريكس للمحاماة التي تعمل بها شيري بلير زوجة رئيس الوزراء السابق) أكثر حرية في الحصول على المعلومات وكانت السفارتان الجزائرية في لندن والبريطانية في الجزائر عونا جيدا لهم في ذلك، أما محامو الخليفة (من شركة ويلسون للمحاماة) فأبدوا عجزا واضحا في فهم الشأن الجزائري واعتمدوا على معطيات بعضها يعود لعشرين سنة ومعلومات مغلوطة كتلك التي مفادها أن الرئيس بوتفليقة محكوم عليه بسنتين في قضيته المعروفة في مجلس المحاسبة؛ كما أن محاميي الخليفة رضخوا على جهلهم ذاك بالشأن الجزائري وقلة إمكانياتهم لتعنته ورفضه تحمل جزء من المسؤولية الجنائية، فبنوا دفاعهم على براءته المطلقة بدل التركيز على دور شركائه من محيط الرئيس والعسكر وعلى حال القضاء وحقوق الإنسان في الجزائر، وسايروه في أخطاء رهيبة منها قوله أن بوتفليقة كان يحاربه لأنه اعتقد أن الجيش كان سيدعمه في رئاسيات 2004 رغم أن سنه لم يكن ليبلغ الأربعين في تلك السنة كما يشترط الدستور لمن يترشح لتلك الانتخابات.
وقع القاضي كذلك ضحية ابتزاز من محاميي الحكومتين نتيجة لماضيه المعروف في رفض تسليم رجال أعمال روس لبلدهم، فكان عقد المحاميين لمقارنة بين وضع القضاء وحقوق الإنسان في روسيا والجزائر من ذم لذلك ومدح لهذا إشارة منهم له بأن حكمه من شأنه أن يثبت صورة نمطية لا تعطي المتقاضين حقوقا متساوية.
كما أنه وقع ضحية لغموض مصير الخليفة في حال الحكم برفض تسليمه للجزائر، فإذا رفض استئناف رفيق لقرار تسليمه لفرنسا الذي صدر قبل سنة فإنها ستساوم الجزائريين عليه، وفي حال الحكم له في القضيتين فإنه سيغادر السجن ما دام غير محكوم عليه في بريطانيا. وهنا تداخلت السياسة مع العدالة حتى في بلد يدعي استقلالية القضاء مثل بريطانيا.
ووقع القاضي ضحية أيضا لسوء تقديره لأوضاع القضاء وحقوق الإنسان في الجزائر فاعترف بذلك اعترافا ضمنيا حين رمى الكرة إلى مرمى وزارات الداخلية والخارجية والعدل البريطانية أو لإحداها مخولا إياها حق التعامل مع ملف التسليم ومحملا إياها مسؤوليته.
ساعة قضيتها مع رفيق عبد المؤمن خليفة جعلتني أقتنع بعدة أشياء، جعلتني أقتنع بأن كفاءة الرجل ومعلوماته وقدرته على التحليل لم تكن تؤهله لإدارة إمبراطورية مالية كتلك التي كان يديرها، وأن من كان يديرها من خلف الستار قد يكون بعض أخواله أو شركائه أو حتى الجنرالات الذين كان يعلنون عن علاقتهم به علنا، ولقد قال لي خليفة إن بوتفليقة اتصل به ليبدي انزعاجه من كثرة اتصاله برئيس هيئة أركان الجيش الجزائري آنذاك الفريق محمد العماري الذي ينتمي إلى نفس الولاية التي تنحدر منها عائلة خليفة (ولاية بسكرة بالجنوب).
خرجت من زيارتي تلك بواحدة من قناعتين لا ثالث لهما، إما أن رفيق أضاع أمواله فعلا فبددها أو تركها في الجزائر قبل هروبه (قال لي إنه ترك مليارين ونصف مليار دولار) وإما أنه صلب الإرادة بارع في التمثيل يضع أمواله في مكان ما كما قال لي العقيد خليلي ليسترجعها لاحقا.
بالرغم من أنني شعرت بأن خليفة لم يكن صادقا أو دقيقا في بعض ما قاله لي فإنني شجعته على فضح من أوقعوه في ذلك المستنقع للإعلام قبل المحققين البريطانيين لأن صناع القرار الحقيقيين في الجزائر لن يرحموه متى عاد إليها ، فعلت ذلك لأنني أؤمن بأن الجزائر لن تخرج من محنتها إلا بمحاسبة هؤلاء الذين جعلوا منها مطية لأطماعهم حتى ولو انتهى أمرهم بالعفو عنهم عفوا مشروطا بإبعادهم عن دوائر النفوذ وتجريدهم مما سرقوا، وأظن الخليفة فعلا شاهد زور مستفيد في مأساة كان فيها سكرانا ليلا ونهارا.
للخليفة حق الاستئناف في المحاكم البريطانية وهو سيستخدم هذا الحق وحتى لو رفضت كل طعونه في بريطانيا فإن محكمة حقوق الإنسان في ستراسبورغ قد ترى المسألة من منظور آخر وذلك أفضل ليستيقظ توفيق وبوتفليقة وبلعيز من نومهم المرضي.