الكلب الأبيض
بقلم: جميل عبود
كنت صغيراً في السن عندما أجبرتني الظروف على السير في منطقة سهلية بين مدينتين ليلاً في فلسطين، وبمحاذاة هذا الطريق منزل جميل يحرسه كلب أبيض لو وقفتُ بجانبه لكان هو الأطول في ذلك الوقت، يقيدونه في النهار ويطلقون سراحه في الليل.
شعر الكلب بوجودي من على بُعد، بدأ ينبح ليذكرني بوجوده ويُنبّه صاحبه أيضاً أن هناك شيئاً ما يجب أن يستعد له، وفعلاً بدأ صاحبه يراقب الموقف، وكلما اقتربت منه علا نباحه، وزادت مراقبة صاحبه له ولي أكثر، إلى أن أصبحت محاذياً للبيت تماماً فانقض علي، ورماني أرضاً، دون أن يعضني، حاولت أن أدافع عن نفسي فلم أفلح في صد هذه الهجمة الليلية لعدم توفر أي من أدوات الدفاع عن النفس كالعصا أو الحجر. لكن صاحبه أعفاني من هذا كله وتقدم نحوي بلمح البصر وحملني وأدخلني إلى منزله، وأصر أن يسقيني الماء من” طاسة الرجفة” وذلك لطرد الخوف الذي استقر في داخلي. شكرت الرجل على حسن ضيافته وواصلت المسير.
رويت ما حصل معي عندما وصلت البيت، وقبل أن أنهي القصة وبمجرد سماعها كلمة ” كلب” أسرعت أمي وأخرجت “طاسة الرجفة” – والتي نادراً ما تخرج من مخبئها– وملأتها بالماء، وقالت لي: اشرب، فقلت لها أن صاحب الكلب أسقاني، فأصرت أن أشرب أمامها لتتأكد بنفسها فشربت، وبسرعة انتشر الخبر فتجمع الناس من حولي يتكلمون في الموضوع ويهنؤون بسلامتي من هذا الحادث: “الحمد لله على سلامته يا أم محمد، إن الله يحبك ويحبه، تخيلي لو عضّه ذاك الكلب اللعين وصار ينبح مثله ماذا ستفعلين؟” عبارة ترددت على مسامعي بعدد الناس المتواجدين، وقال رجل آخر: “عندما عضني الكلب قبل سنتين أعطوني حوالي عشرين إبرة واسترحت في البيت شهرين، تخيلوا لو عضه ذلك الكلب وأقعده في البيت شهرين فسيفصلونه من المدرسة بالتأكيد”، فصاحت أمي: “مستحيل أن يترك المدرسة، أرجوكم أن يبقى الموضوع بيننا ولا تعلم المدرسة بذلك”.
كان الموضوع عندي بسيطاً، فقد دفعني كلب وحملني صاحبه، إلا أن الناس قد ضخموا ذلك الموضوع وافترضوا أشياء لم تحدث، وبنوا على هذه الأشياء نتائج واتخذوا عني قرارات أهمها أن أهاجم الكلب قبل أن يهاجمني في المرات القادمة، وعاشوا وأعاشوني في الأوهام التي صنعوها، وخلقوا عندي عقدة الخوف من الكلاب وإلى الأبد.
بعد هذه الحادثة أصبت بـ “فوبيا الكلاب”، فأصبحت لا أدخل بيتاً فيه كلب إلا إذا أخذت كافة الضمانات من صاحبه، ورأيته بأم عيني يمسكه أو يربطه، أما إذا رأيت كلباً في الشارع فيقف شعر رأسي ويجف حلقي وتتوقف قدماي، وأتذكر كلام الناس في المرة الأولى وأحسب لهذا الموقف ألف حساب.
تكرر هذا المشهد مرة ثانية بعد أربعين سنة وهذه المرة في عمان، عندما كنت أسير وحيداً في طريق يخلو من المارة ممارساً رياضة المشي، فاجأني كلب أبيض يبعد عن طريقي عدة أمتار فقط، نظرت إليه فوجدته متحفزاً كأسد، عيونه تقدح شرراً، تخيلته وهو يقفز فوقي ويأخذ جزءاً من لحمي.
تذكرت الموقف القديم المحفور في الذاكرة، وأردت أن أختبر صحة ما قاله الناس لي في المرة الأولى: “إذا لم تكن كلباً أكلتك الكلاب”، فهو واحد من عديد ما نحفظ وعن ظهر قلب دون تمحيص أو تدقيق في صحته من الأمثال الشعبية المتوارثة.
بعد تفكير سريع قررت أن لا أتركه يهاجمني كما هاجمني سابقاً، لذا اقتربت منه أكثر، وفاجأته قبل أن يفاجئني فرميته بحجر ونَهَرتُه، جُنّ جنون الكلب وهجم علي فهربت منه بصعوبة، وبسرعة عدت إلى آدميتي وأدنت نفسي لأنني كنت البادئ في العدوان.
في اليوم التالي نسيت الحادثة تماماً ولم أتذكرها إلا بعد أن فوجئت به يقف في مكانه السابق، ولكنه هذه المرة يقف وقفة المنتصر، فأنا الذي بالأمس صنعت منه بطلاً عندما انهزمت أمامه، ترى كم عدد الأبطال الذين صنعتم بأيديكم وبهذه الطريقة؟
قلت في نفسي: “لن أحكم على أحد، حتى لو كان كلباً، حكماً لقنني إياه الناس، سأبقى على آدميتي ولن أعتدي عليه”.
عندما اقتربت منه تعرف علي بسهولة واكتشف أنني مهزوم الأمس، نظر إليّ نظرة تشفٍ كأني به يقول أننا بالأمس لم نكن أعداء ولكنك نفذت ما لقنك إياه الناس ورميت عليّ حجراً فجعلتني عدواً وانهزمت أمامي فجعلتني بطلاً وقد أعجبتني حياة الأبطال فلن أعود إلى حياة الكلاب ثانية لهذا أنصحك أن لا تحاول إخراجي من قائمة الأعداء.
بعد أن تأكد من فهمي لهذه النظرة المتشفية هاجمني وحاول النيل مني غير أنني هربت منه بصعوبة هذه المرة.
مررت من نفس المكان مرة أخرى وإذا بولدٍ صغيرٍ لا يتجاوز السادسة من عمره يرميه أرضاً واضعاً رجله على رقبته وينادي على أصحابه هلموا ها هو الكلب الأبيض تحت قدمي والكلب مستسلم مغلوب على أمره.
نظرت إلى الكلب وهو تحت قدم الطفل وقلت له: “كلب عليّ وهرٌ عند غيري”، إنك تشبه الكثير من الرجال في مكاتبهم وأماكن عملهم يظهرون أمام الناس كلاباً تعوي وهم في بيوتهم خراف لا يحركون ساكناً.
نظر إلي وكأني به يقول: “هذا الولد الذي تراه يمتلك الإرادة والتصميم والصبر ولم يتمكن الوهم من عقله بعد ولم يُشبع بالأمثال الشعبية الوهمية ولهذا تمكن مني.
أما أنت فهزمتك أول مرة فلم تعترف بذلك لأنك لا تريد إعادة النظر في المفاهيم التي أوصلتك للهزيمة، ولأنك جزءٌ منها توهمت النصر الكاذب وسميتها “نكبة” والنكبة كما تعلم هي من عند الله لتقول بعدها “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” وتكون بذلك قد غسلت يديك من عار الهزيمة.
وعندما هزمتك في المرة الثانية اكتفيت بإبدال حرف السين بالباء لتحولها من “نكبة” إلى “نكسة” لتعفي نفسك من المسؤولية وتحملها لغيرك .
أما في المرة الثالثة فقد سلبت الولد الصغير انتصاره ونسبته إلى نفسك وقمت بتغيير حرف السين في نكسة إلى تاء وسميتها “نكتة” ترويها على مسامع الناس لتغطي هزيمتك بانتصار الولد كما تفعلون هذه الأيام حين تغطون هزائمكم بانتصارات أجدادكم”.
بعد هذه الحادثة الجديدة وربطها بالقديمة وجدت الناس قد ضخّموا الأولى وأنا ضخّمت للناس الثانية؛ فالكلب يملك حاسة شم قوية يستطيع تخزين رائحة العدو عدة أيام وهو أيضاً مطيع لكل من عنده صبر وإرادة ولا يحتاج إلى مدربٍ متمرس.
لقد ثبت أنني كنت أعيش في دائرة مغلقة من الوهم وكنت قد وضعت الناس فيها، والناس كانت ولا تزال تضعني في دائرة الوهم نفسها، وهذا الوهم وقلة المعلومات لدينا ولّدت عندي وعندهم أشياء كثيرة قد تحدث وقد لا تحدث، ونعتبرها ستحدث وننشغل في نتائجها وأبعادها، وعلى ضوء ذلك نحب ونكره ونعادي ونصالح ونحدد اتجاهات وأهداف ونتخذ قراراتٍ ومواقف.
جميل عبود
أيار 2009