بقلم محمد رياض
لا بد في البداية وكمقدمة ضرورية من تعريف المصطلحات المستخدمة في المقال كي لا يشطح خيال البعض بعيداًَ في فهم المراد من إسقاط هذه التسميات الحديثة نسبياَ على االوقائع التاريخية والتي تشكل موضوع الدراسة والتحليل في هذا البحث.
أولاَ: اليسار يرمز إلى ذلك التيار الشعبي التاريخي على إختلاف منطلقاته الفكرية والذي تبنى مشروعه التغيري بشكل اساسي وجوهري (غير شكلي) مصالح الطبقات المسحوقة والأقل حظاَ في المجتمع (المستضعفين).
ثانياَ: اليمين يرمز إلى ممثلي مصالح الطبقات الحاكمة والأكثر ثراءاَ ونفوذاَ في المجتمع تيار (المستكبرين).
وفي تاريخنا الكثير والكثير من الأمثلة على صراعات طبقية دارت رحاها بين تياري اليمين واليسار وفق المفهوم المحدد أعلاه، فالثورة المحمدية (الإسلام) في نصوصها التعبوية الأولى والتي رسمت الخطوط العامة لشكل نظام الحكم المزمع إنشاءه وشكل الدولة المزمع إقامتها، تبنت خطاباَ طبقياَ يسارياَ واضحاَ يدعوا للمساواة بين العبيد والسادة وبين النساء والرجال وإلى إعادة توزيع الثروة توزيعاَ عادلاَ يضمن رفع مستوى المعيشة للطبقات الأقل حظاَ في المجتمع.
ولهذا فإن معظم من وقفوا مع الدعوة الإسلامية في بداياتها كانوا من فئات العبيد والمستضعفين، وكذلك فإن معظم من عادوا الدعوة في بداياتها كانوا من سادة قريش وكبرائها بالإضافة إلى فئة كهنة الأصنام المتحالفة معهم، وهكذا تكونت جبهتي الصراع في تلك الفترة، العبيد والمستضعفين من جهة (يسار) وتحالف المتنفذين ورجال الدين في الجهة المقابلة (يمين).
وصحيح أن الكثيرين من ابناء الطبقة الوسطى وبعض الأغنياء قد إلتحقوا في ركب الثورة في مراحل لاحقة،إلا أن هؤلاء تبنوا وعن قناعة الخطاب الثوري التحرري للرسالة المحمدية، فقد رضي أهل المدينة ممن كانوا من ميسوري الحال بدرجة معقولة، وبعض أثريائهم أيضاَ، بالإنصياع لأمر قائد الدعوة عليه الصلاة والسلام بتقسيم كل ما كان بين أيديهم من أموال منقولة وعقارية بينهم وبين إخوانهم في الدعوة من المهاجرين الجدد المعدمين مالياَ.
وتعد مسألة تقسيم ثروة المدينة بين ملاكها الأصليين وأولئك الوافدون الجدد من المهاجرين أول تجربة تكافلية لإعادة توزيع الثروة القومية بين المواطنين بطريقة نظامية-قانونية في تاريخ الإنسانية جمعاء، على الرغم من محاولات بعض المؤرخين للتغطية عليها وتجاوزها لصالح التيار اليميني الإسلامي الذي ظهر لاحقاَ.
وبعد أن رسخ بنيان الدولة الجديدة وإستقرت ظهر نظام بيت المال الذي إستمر في الأخذ من الإغنياء(الزكاة والصدقات والخراج على الأراضي الزراعية) والتوزيع على الفقراء وكبار السن وغير القادرين على العمل حتى حدوث الإنقلاب الأموي اليميني لاحقاَ.
ثم جاء الإنشقاق الأموي وهو الأول من نوعه على الدولة الراشدة، حيث إصطف الفقراء والمخلصون لمبادئ الثورة المحمدية ومعظم القبائل العربية البدوية خلف الرئيس الشرعي للدولة على بن ابي طالب، بينما ناصرت طبقات الإقطاعين والتجار وطبقات الملاك الجدد في الشام والعراق معاوية بن أبي سفيان.
وفي الحقيقة لا يمكن تفسير ما حدث بين علي ومعاوية بغير فهم الأبعاد الطبقية للصراع الذي دارت رحاه حينها بين (المستضعفين-يسار) والذين يريدون الدفاع عن إمتيازاتهم المكتسبة في ظل النظام الإسلامي العادل وبين (المستكبرين-يمين) وهم رموز التيار الإقطاعي الرجعي الذين نجحوا فعلاَ بإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء والإنقلاب على مبادئ الثورة المحمدية.
ولا يجب أن يفهم من كلامي هذا أن حكم الأمويين لم يكن إسلامياَ البتة، ولكن ما أعنيه أن حكمهم لم يكن حكماَ إسلامياَ مثالياَ ولم يكن معبراَ وبصدق عن طموحات ومبادئ الثورة المحمدية وكان بالتاكيد إنقلاباَ على مبدأ الشورى-الإنتخابية لصالح النظام الملكي الوراثي .
وقد إستغل العباسيون هذه الثغرة في نظام حكم بني أمية أفضل إستغلال، فأسسوا ثورتهم المضادة على ثلاثة مبادئ 1. إخراج الناس من حكم بني أمية الوراثي وإرجاعهم إلى عدل الدولة الراشدة الشورية من جديد 2.المساواة بين الاجناس المختلفة المكونة للدولة في حقوق وواجبات المواطنة 3 . إرجاع الأراضي المسلوبة إلى إصحابها (القضاء على الإقطاع). وهكذا يتبين أن الدعوة العباسية في بداياتها كانت ثورة-يسارية بإمتياز لتبنيها مصالح المستضعفين والفقراء ودعوتها للقضاء على الإقطاع والملكية.
غير أن العباسيين سرعان ما تنكروا لمنطلقات دعوتهم الفكرية وأقاموا نظاماَ سياسياَ يشبه إلى حد كبير ذلك الذي ساد طوال العهد الأموي بإستثناء مسألة واحدة أوفوا بعهدهم للجماهير فيها وهي قضية المساواة في المواطنة بين الأجناس المنضوية تحت لواء الدولة.
وهكذا إستمر الصراع في تاريخنا الحديث بين (اليمين) الممثل لمصالح المتنفذين واصحاب المال والإعمال ورجال الدين المتحالفين معهم والمبررين الرسميين لإنحرافهم، وبين (اليسار) ممثلاَ بالمستضعفين من االفقراء والمحرومين والفئات المهمشة في المجتمع ورجال الدين الصادقين.
حركات التحرر الحديثة:
بعيد تفكيك الدولة العثمانية وظهور الإستعمار الأوروبي الحديث في بلادنا نشأت حركات حداثية تبنت مناهج تحررية قومية وأخرى تبنت خطابات دينية مختلفة، إلا أنه من الملاحظ أن معظم هذه الحركات (بإستثناء الأحزاب الشيوعية) لم تلتفت إلى تطوير خطاب منهجي يتبنى مصالح المستضعفين في المجتمع وهي المجموعة التي كانت ولاتزال تشكل الغالبية العظمى من المواطنين في مجتمعاتنا العربية.
وصحيح أن بعض هذه الحركات في مراحل تاريخية معينة قد رفع بعض الشعارات المؤازرة للطبقات المسحوقة مثل (حرية، وحدة، إشتراكية) وصحيح ان بعض تجارب الحكم لبعض هذه الحركات قد إحتوت على إنجازات لصالح الطبقات الفقيرة (مشاريع التأميم، مجانية التعليم، الخ) إلا ان هذه الشعارات والإنجازات على أهميتها لم ترق لمستوى المنهج الجوهري التغييري الأساسي في العقائد الحزبية عند هؤلاء.
فالمستضعفون في الأرض بقوا مستضعفين فيها وإن تحسن مقدار ما يحصلون عليه من وجبات غذائية وأن أتيحت فرص التعليم المجاني لإبنائهم، حيث ظل معظمهم بمعزل عن المشاركة الفعلية في عملية صنع القرار السياسي الوطني وكذلك حرموا من الحصول على نصيب عادل من الثروة القومية للأمة بما يناسب عددهم وحجمهم كمجموعة منتجة فيها.
وكل ما حصل أن الشعوب المسكينة إستبدلت المستكبرين القدامى بمستكبرين جدد قدموا ليتربعوا على كرسي الحكم إلى الأبد، حتى وإن جاءوا من فئات شعبية محرومة، إلا أنهم كونوا وبمجرد وصولهم إلى السلطة فئة جديدة مستبدة ثرية لا تخضع لقواعد التغير السلمي ولا تمثل المصالح الطبقية لمستضعفي أمتهم في شيء.
فنحن في عصرنا الحالي بأمس الحاجة إلى تيار جديد يتبنى تمثيل المصالح الطبقية للفئات المسحوقة في مجتمعنا (المستضعفون)، تيار لايهدف فقط إلى توفير الغذاء والدواء والتعليم لهؤلاء وحسب، وإنما يتركز مشروعه في 1. إشراكهم إشراكاَ فعلياَ في عملية صنع القرار السياسي الوطني على الصعيدين الداخلي والخارجي بما يناسب ثقلهم كأكبر فئات المجتمع حجماَ وأكثرها إنتاجاَ، وذلك عبر خلق قنوات قانونية تتيح المساءلة الشعبية المباشرة للحكام والمسؤلين كما كان الحال في دولة الراشدين، وكذلك عبر تحقيق تداول فعلي للسلطة مع إتاحة فرص وموازنات متساوية لجميع القوى والفعاليات الشعبية الراغبة في المنافسة ديمقراطياَ على الوصول إلى كرسي الحكم.
2. عبر تنفيذ إعادة توزيع عادل للثروة القومية بما يضمن لكل مواطن يقل دخله السنوي عن متوسط الدخل العام في الدولة الحصول على حصة نسبية مباشرة من الزيادات السنوية في دخولات الفئات الأكثر ثراءاَ، بدل النظام المعمول به حالياَ والذي يجير هذه الأموال على شكل ضرائب مختلفة إلى حزينة الدولة ومن ثم إلى جيوب طبقة المستكبرين الفاسدة.
3. عبر تأميم قطاعات الإنتاج الرئيسية كقطاع الأغذية الرئيسية (القمح مثلاَ) وقطاع المياه وقطاع الكهرباء والبترول والطاقة بمختلف أشكالها، بما يضمن عدم تمكن فئات صغيرة محدودة في المجتمع من إحكام سيطرتها على مقدرات البلاد الحيوية وبالتالي السيطرة على القرار السياسي والمصير الوطني كما هو الحاصل في معظم البلاد العربية حالياَ.
قال تعالى (ونريد أن نمن على الذين إستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
والله من وراء القصد.