أرشيف - غير مصنف

نظرية الالتفات البصري” من النص الي الخطاب”

أحمد الصغير
ما زالت قريحة النقاد تأتي بالجديد، تتمثل هذه الجدة في الفكر النقدية التي يستخرجها الناقد من النص الأدبي شعرا / نثرا ، ومن ثم فإن كتاب الالتفات البصري من النص الي الخطاب للناقد المصري الدكتور عبد الناصر هلال يعد من الدراسات المهمة التي صدرت مؤخرا عن دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع (مصر) ، متناولة بعضا من شعراء الحداثة العربية والمصرية ، ولهذا فقد انكب هلال علي دراسة المنجز الشعري الراهن من خلال قصيدة النثر العربية عند الشعراء( أدونيس، رفعت سلام ،علاء عبد الهادي ، ومحمد عفيفي مطر ، محمد بنيس، ومحمود درويش ، وليد منير ، وسام الدويك ……..وغيرهم.
وجاءت هذه الدراسة في ثلاثة أقسام رئيسة ومقدمة طرح من خلالها الدكتور هلال نظرية الالتفات في النقد الأدبي القديم والحديث ،وقد أشار إلي أن الشاعر العربي أقام زمنا طويلا في بيت ضيق محدد الأركان ، مساحة نصية صارمة ، اتسمت بالقداسة جعلته يبوح بكل ما لديه في شيء من الاكتناز التعبيري القائم علي التجزئة ، وحدة البيت وعندما تحول البيت إلي سجن للذات حاول الشاعر الجديد الانفلات من محدوديته ، وبدأ يبحث عن إطار مناسب لجسده الذي تطاول بفعل حركة الواقع الجديد ، فسكن القصيدة بوصفها وحدة بنائية كلية تمنحه نشوة الوجود ومتعة الحرية ، فيطمئن لها ويستريح عليها من عناء التعب ، بل يتطهر في مائها من درن الواقع وغبار الحياة السام ، ويحتمي في أرجائها من لوعة الانكسار وهزيمة المواجهة  ، محاولا التصدي وقراءة العالم في لحظة مكتملة الخيوط ، تخطي المفهوم القديم الذي يكسر الذائقة المطمئنة ، الذائقة الاعتيادية من خلال  النموذج الذي مارس الشاعر القديم تجربته علي هديه بوصفه مقياسا أو أصلا للممارسة الشعرية ، لقد تجاوز الشاعر الجديد المفهوم الحضاري وانحاز للكشف والاستشراف ،ومن ثم فقد تغيرت الرؤي والإجراءات النقدية في ظل تحول القراءة من نحو الجملة إلي نحو النص ، ولكل خطاب أدواته القرائية نظرا لانفتاحه علي جماليات جديدة منها ما يتعلق بالنوع ومنها ما يتعلق بالأنواع الأخري بوصفه كتابة ،ومن ثم فقد برزت فكرة التحول من القصيدة إلي الكتابة .وحاول  هلال أن يختبر أدوات قرائية من التراث البلاغي ،كما حاول أن يوسع مفهومها حتي تتناسب مع تغيرات التكوين البنائي للخطاب الشعري الحداثي ،موقنا بأن المصطلحات القديمة صالحة لاستيعاب معايير ومفاهيم نقدية جديدة في مقابل التسميات الحديثة .ومن ثم فقد اختار هلال مصطلح الالتفات البلاغي الذي كان قائما علي التحولات والتبدلات والانصراف عن صيغة إلي أخري أوعن سياق إلي آخر في إطار بنائي محدد في الجملة؛ لكن المؤلف حاول توسيع هذا المفهوم ـ كما ذكرنا ـ في ظل التحولات النقدية الحديثة التي تواكب تحولات البني اللغوية والجمالية التي يطرحها الشاعر الجديد في مجمل نصه ،ومن ثم فقد اتكأت الدراسة علي التكوين النصي وتداخله وتحولاته وحركته الدائبة ،فتبنت مفهوم الالتفات النصي القائم علي حركة البنية النصية المتعددة من خلال آليات عدة تحقق هذا الالتفات النصي . ولاشك أن الدراسة قد طرحت أيضا مفهوم الالتفات البصري الذي يتحقق عبر حركة المرئي الذي تخلقه اللغة وآليات تعبيرية أخري وكيفية تشكلها وإخراجها علي الصفحة /شعرية المكان ،وينتقل المبدع /الشاعر من شكل لآخر مختلف في بنيته البصرية ،مما يجعل من النص نصا مفتوحا ،متحركا ،متعدد القراءة .
ويشير هلال إلي أن الحركة البصرية التي تتحقق عبر تجاور نصوص بصرية متحولة ،وامتزاجها تخلق أبعادا دلالية متعددة،فإن التفاتا بصريا يتحقق سواء علي مستوي النص أم علي مستوي الخطاب  ،وهذا اشتغال يعتمد البعد البصري عن وعي وسبق إصرار، وهو الذي يقدم  بموجبه النص ومكوناته اللغوية في فضاء صوري عن طريق التصرف الخاص للشعراء بلغتهم اندماج بنيات سيميوطيقية غير لغوية في الخطاب والالتفات في اتجاهيه :اللغوي والبصري يؤدي إلي التأمل وكسر النمط والرتابة ، ويحقق الإدهاش ، ولايعني الانصراف فقط من ـ إلي، وإنما يؤدي إلي الإزدواج والتماهي في آن بين المنصرف عنه والمنصرف إليه ومن ثم فإن الالتفات اللغوي أو البصري هو نتاج الإبداع الجديد الذي يعتمد علي الحركة والتشعب والامتداد والازدحام  ،والقدرة علي التآلف بين المتناقضات ،ومن ثم فقد لجأ المؤلف الدكتور هلال إلي التقسيم الثلاثي للدراسة ، فقد جاء القسم الأول بعنوان :الالتفات النصي (من المفهوم إلي التاسيس )وتضمن محورين أساسيين
الأول :الدراسة النظرية وقد درس الالتفات البلاغي وتطوره ، والالتفات النصي بين المفهوم والتأسيس ،وتضمن ثلاثة مباحث :الشفاهية والكتابية ،ومن البيت إلي القصيدة إلي النص /الكتابة ،النص والقاريء /القاريء والنص
اما المحور الثاني : فقد جاء في صورة تطبيقية لمجموعة من نصوص شعراء الحداثة العربية وطرح من خلاله الالتفات عبر التناص ،والتكرار والإيقاع الموسيقي وعبر اللغات الأجنبية واللهجة العامية والالتفات المشهدي عبر الارتداد
أما عن القسم الثاني : فقد جاء بعنوان الالتفات البصري وشعرية النص ، وقد تضمن مجموعة من المحاور الفرعية منها الالتفات البصري عبر السواد والبياض وعبر سمك الخط وعبر النص والصورة والشكل التقليدي والشكل الحر والمجازي والشكل السردي .
وجاء القسم الثالث  : بعنوان الالتفات البصري وشعرية الخطاب ، وتبني فيه المؤلف دراسة ثلاثة أعمال شعرية من شعراء الحداثة ، يمثل كل منها اتجاها ما  الأول الكتاب لأدونيس ، وإشراقات رفعت سلام  ،وسيرة الما ء لعلاء عبد الهادي ، وقد جسدت هذه الأعمال الثلاثة فاعلية الاتفات البصري بوضوح  ،وأكدت علي ان شعرية التشكيل البصري لها قدرة كبيرة علي تجسيد خبرات الشاعر الحداثي ورؤاه . في الوقت الذي نؤكد فيه علي أن مصطلحاتنا التراثية قابلة للتطوير، واحتواء مفاهيم جديدة في الوقت نفسه . ويشير المؤلف إلي أن الالتفات النصي هو الأعم والأشمل والالتفات البصري هو الأخص ـ كما يظن ـ أي ان الاتفات البصري هو فرع من الالتفات النصي ، وهذا أثر يقين المطمئن استنادا إلي تصنيف شجري للالتفات ، ولكن عندما انتهي المؤلف من الدراسة ، وجد نفسه أكثر ميلا إلي حسبان الالتفات البصري نوعا مختلفا عن الالتفات النصي ، سواء بمعناه المتداول في رؤي الآخرين المهتمين بالحقل النقدي ، وقد قام الالتفات البصري علي ما يسمي بالميتالغة وهذا جعل المؤلف أكثر اطمئنانا إلي الفصل بين ما يسمي بالالتفات النصي ،وما يسميه الالتفات البصري بناء علي الوسيط الذي يعد هنا مبدأ للتصنيف القائم علي الملفوظ اللغوي في الالتفات النصي ، اما وسيط الالتفات البصري  ،فيقوم علي علاقات التشكيل البصري التي تؤسس الميتالغة علي اللغة . وعليه فإن هذه الدراسة (الالتفات البصري من النص إلي الخطاب) من الدراسات المهمة العميقة التي تعد من الدراسات الرائدة في الحقل النقدي الحداثي ،وتبدي ذلك من خلال تحليل النصوص الذي جاء دقيقا ومنطقيا ،فقد تأني الدكتور هلال في تاويلاته وتنظيراته ، فهنيئا له علي دراسته وهنيئا لنا نحن العرب لأننا نحتاج في هذه الآونة إلي مثل هؤلاء النقاد الذين يضيئون لنا الطريق .
أحمد الصغيرـ القاهرة

زر الذهاب إلى الأعلى