غزة تمسّد شعرها بانتظار ثمار آب
موسى أبو كرش
سأل الولد المولع بالحاسوب والده السابح في المدى مغتاظاً :أبي متى ستعود الكهرباء ؟ أجاب عاقد الحاجبين بمكر لا يخلو من دهاء : عندما يعود جلعاد شاليط إلى حضن أمه . ولكن ما علاقة شاليط بالكهرباء يا أبي ؟ أجاب الوالد ببرود مكتسب : مثل علاقة أمك بالذرّة . من المطبخ جاءته الصفعة حادة مباغتة :” إنته يا راجل لا منك ولا كفاية شرك .. هذا بدل متودينا على البحر وتشممنا الهوى في الجندي المجهول ..والله قربنا نفرط “.
الجندي المجهول كسروا بارودته، وحطموا رأسه يا مره وجرجروه للساحة بعد أن بقروا بطنه ! .
في خانيونس سألت رجلاً مهندماُ يبدو في سيماه الوقار عن مكان كنت أقصده فأجاب الرجل باسطاً ذراعيه للريح : ” أنا في هالبلد يا عم ما عدت أفهم شيئاً ، ولا أريد أن أعرف شيئاً …” .
قلت مقتبساً : من قال لا أعرف فقد أفتى . : إستعنت بحدسي وببصيرة ” ابن برد” فاهتديت الى مقصدي .. ولكني لم أهتد حتى الأن إلى الأسباب الحقيقية لعدم نجاح “الخوار” الوطني ، الذي مضى عليه أكثر من أربعة أشهر ، دون أن يفلح في تذويب” الجلطة “الدموية وعودة الحياة ” للحمة الوطنية ” ، كما أنني مثل ذاك الخانيونسي المهذب، لم أعد أفهم أو أقتنع بالأسباب والمبررات التي تسوقها داخلية المقالة، لإزالة الأكشاك والبسطات من الشوارع دون أن توفر فرص عمل لأصحابها .. بيد أني لا أكتمكم فرحتي عندما رأيت أخر الأكشاك – الكشك المواجه لباب السرايا الشمالي، أثرا بعد عين بعد ان ظننت كثيراً من الظن أن في الأمر “إنّ” وسمعت بعين أذني “إيش معنى” في إشارة أن صاحب الكشك حمساوي .
في غزة يشتد حر تموز، وترتفع الرطوبة وتطغى اللزوجة ، وتعجز حفنات المياه القليلة عن إزالة ما علق بالإجساد من عرق وما يزيد الطين بلة إنقطاع الكهرباء التي استنفذ مسؤولوها – إنتاجا وتوزيعا – كافة الحجج والذرائع لتبرير الانقطاع، فلا يجد الناس ملجأ يفرون إليه سوى البحر والمنتزهات القليلة في المدينة، ولا سيما منتزه الجندي المجهول .
ذات انقطاع ليلي. وجدتني أصحو فزعاً من نومي المتقطع ،على صوت ابني الصغير يطالبني بالصعود إلى السطح لأن هناك صوت تنفس عميق متواصل أفزعهم، ومن شدة خوفه أكد لي أن في السطح أسداً .. قلت: ومن أين يأتي الأسد والبلد مشيكة من الوريد إلى الوريد، ونحن على أية حال في غزة، ولسنا في “جوهانز بيرغ”, طاوعت الولد وصعدت إلى السطح. وسرعان ما أدركت أن مصدر الشهيق والزفير هو عشرات هوائيات الخزانات شبه الفارغة على سطح منزلنا, وأسطح بيوت الجيران. الحاج حسين قال معلقا عندما رأى الازدحام الشديد هذا العام على البحر والجند المجهول: ” الناس معذورة يا عمي هيّ هاي العلب الي فوق بعضها البعض بتصلح للسكن..والله دار ما فيها حوش ما بتنخش، سقى الله تلك الأيام التي كنا ابتنتمدد فيها تحت العريشة ونزعرق من ريق الفخار, والله ما كنا بنعرف العرق وبنتحمم من الاسبوع للاسبوع ” من المقعد الخلفي للسيارة قاطعه شاب عشريني:” والله ياحاج بندوّش أكثر من مرة في اليوم وريحتنا طالعة ,إذا جاءت الكهرباء انقطع الماء، وإذا جاء الماء انقطعت الكهرباء, ومش ملحقين نشتري ميّ ..والله حيرونا.. الحاجة إم محمد التي رافقتنا من دير البلح قالت: وهي تلتفت الى كروم العنب في الشيخ عجلين “والله قربنا ننضج قبل العنب والتين” .
يصب في منتزه الجند المجهول عادة من ليس لهم حول ولا طول بالذهاب إلى البحر, وتحمّل تكاليف الرحلة وأنضاء الطريق، ومن يحبذون الجلوس في الهواء الطلق بعيدا عن رسوم منتزه البلدية القربب ومواعيده, وهم عادة من ابناء الأسرة الفقيرة وأسر العمال الذين فقدوا عملهم وانتظموا في قوائم الباحثين عن الكوبونة والمساعدات التي تقدمها جمعيات الإغاثة التي ” أصبحت أكثر من الهم على القلب” كما تقول الحاجة حمدة التي ترعى نصف دستة من الأطفال اليتامى مع عصر كل يوم يبدأ الزحف أسر ممتدة بكاملها تزحف مشيا على الأقدام او تستقل ما تيسر من سبل المواصلات تضم الحماة وكناتها وبناتها وسيل من الأطفال والصبايا يتقدمهم رب البيت يحملون ما تجود به مطابخهم الفقيرة من ساندويتشات وعصائر وذرة وترامس شاي ,أما من فتح الله عليهم من “طريف وتالد” فهؤلاء يعرفون طريقهم إلى صالات الفنادق الفخمة والكازينوهات والاستراحات المنتشرة على امتداد ساحل الشيخ عجلين. وإذا قدر لك أن ترى المشهد فستجد نفسك أمام سلسلة من اللوحات الفانتازية .. أناس يهرعون من مخيم الشاطئ الغربي وأحياء النصر والشيخ رضوان والرمال والدرج والشجاعية لا تلمح في عيونهم رغبة الاصطياف وأنما الإصرار على الحياة رغم الصعوبات الجمة التي تعترض شبل حياتهم في الحصار ,شارع عمر المختار مكتظ حتى التخمة, بالسيارات وضجيجها وعوادمها والأرصفة تفيض على الجانبين المارة ومولدات الكهرباء وعوادمها وضجيجها.. فاحرص إذا مشيت في الشارع ألا تنكفئ على وجهك إذا ما عرقل سيرك سلك من أسلاك المولدات الممتدة على الأرض باتجاه المحلات.. ستشعر حتما بالاختناق والضجر ولكن ما حيلتك إذا كانت الكهرباء مقطوعة عن بيتك!! مارة لا يشترون شيئا من محلات حديثة تغري معروضات واجهاتها من الملابس وأجهزة الكهرباء بالشراء ..وإذا تجرأت وسالت احد أصحابها عن حركة البيع والشراء فسيقول لك بالفم الملآن: ” عليّ الطلاق ما استفتحنا “مع ان النهار خلص ..لا بيع يذكر خارج محلات البوظة والفلافل في الشارع ,على مدخل حديقة الجندي ثمة زحام، وفي داخله حركة دآئبة لاتنقطع، لباعة الذرة والترمس والفول السوداني وشعر البنات والبراد والشاي والقهوة والبسكويت والعطر أيضاً.. باعة صغار وكبار يشعرونك بالإحراج ،وهم يلحون عليك بما يشبه الاستجداء شراء بضاعتهم ,أسر تبحث عن مقاعد حجرية، وأخرى تفترش العشب الأخضر،وثالثة آثرت الجلوس على الأسوار، وثمة من احتلوا جوانب الأرصفة والممرات الداخلية للحديقة, وإذا حالفك الحظ وجلست على مقعد حجري أو فزت بمقعد بلاستيكي من مقاعد الحديقة القليلة فعليك أن تكون متسامحا وإلا فسوف تشعر بالإحراج، من عيون النساء والأطفال التي ترنو إليك ،وتتطلب منك دون إفصاح إخلاء المكان للعائلة وبناتها, فهذه فرصتهم الوحيدة للاستجمام ورب الأسرة مش “دايما باله رايق “حتى يجود عليهم برحلة أخرى” وثمة عيون للعسس ترقب المشهد الكلي وترعى النظام وتطارد الشبان المنفلتين الذين يعكرون صفو المصطافين.. هذا ليس يوم لشم النسيم الذي يعرفه الأشقاء المصريون فلن تشم رائحة الفسيخ النفاثة هاهنا ،كما أن طبيعة الزحام الشديد وضيق المكان سوف ينبآنك بأنك لست في القناطر الخيرية رغم رؤيتك بأم عينيك الحناطير التي تدور حول الحديقة.. وإذا آثرت المكوث طويلا فسوف تندهش من كثرة الأفواه التي تلوك الطعام وتزدرد العصائر، وتطحن الفول السوداني ،وتخمش الذرة ،وتقزقز البزر،وسوف تزداد عجبا من الفرحة التي تعلو وجوه الاطفال الذين يتقافزون من مكان إلى آخر ثم يعودون إلى ذويهم بمطالب لا تنتهي.. ولكنك ستصاب بالصدمة مثلي إذا مرت مواكب العرسان القليلة مسبوقة بإيقاعات زفة فدعوس والشبان الصغار يرقصون عليها وأنت تلمح فرحة ممزوجة بالألم في عيون نساء الحديقة المرئرئة للموكب حسرة على بناتهن اللواتي أدركن سن الزواج دون أن يتقدم لخطبتهن أحد. غير أنك لم تحرم من ابتسامة وأنت تسمع صوت إحداهن تقول لإبنتها بما يشبه الولولة : “قومي شوفي أخوكي وين راح ولي .. يا حبيب قلبي يا مه ؟” .المشهد الوحيد الذي ستفتقده في الحديقة هو مشهد “العرس والجذران” التي كانت تجري دون انقطاع في جنبات الحديقة وتهرب إلى بطون الأشجار.. ولعل مرد هذا الاختفاء الفجائي للجرذان لا يعود الى جهود البلدية في المكافحة ، وإنما لفزع الجرذان من حجم القصف التي تعرضت له المدينة خلال شهر كانون واتخاذها من البيوت المدمرة ملاذاً آمناً لها .
من مقعدي القريب اخذت ارقب دفق المياه الصاعدة إلى الاعلى بهدوء مرة وعنفوان مرة من فوهات النافورة، والاطفال يتحلقون حولها، فرحين مندهشين وامهاتهم وأخواتهم وآبائهم يوثقون صورهم بكاميرات بهواتفهم النقالة .. قلت ما أشبه حال النافورة بحالنا هذه الايام فنحن نغضب ونسكن ونثور على حصارنا وهي تهدأ وتثور دون ان يقوى ماؤها على مغادرة سور بركتها الدائرية.