أرشيف - غير مصنف

كتاب العلوم

جميل عبود
– كنت في الصف الثالث الابتدائي، عندما بدأ عامٌ دراسيٌ جديد ، صحوتُ مبكرًا ، لأبدأ رحلتي الطويلة والمُتعبة إلى المدرسة، فقد كان لزاما ً عليّ أن أمشي طريقاً وعرًا، شديد الانحدار، يمتد من سفح جبل إلى أسفله، وأقطع واديًا، وأتسلق جبلاً آخرأكثر ارتفاعاً، وأشد وعورة من الأول، حتى أصل إلى المدرسة. ضرب الجرس، واصطف طابور الصباح، وأخذ كل طالب موقعه، في صفه الجديد.
حضر مدير المدرسة، وافتتح العام الدراسي، بكلمةٍ موجزةٍ، رحّب من خلالها بالمدرسين والطلاب، وطلب من كل طالبٍ، أن يقص شعره، ويقلم أظافره، ويُحضر معه الرسوم المدرسية المطلوبة في اليوم التالي، وأنهى كلامه قائلاً : “الحاضر يُعلم الغائب”، أي لا عُذر لأحد حتى ولو كان غائباً، وستكون العصا لمن عصى، قالها بلهجة، لا تخلو من التهديد والوعيد.
لم أهتم بما قاله المدير، لأن والدي كان يعمل في الخليج، وأكبرهمّ في ذلك الوقت، هو تدبير الرسوم المدرسية، وهي بحمد الله متوفرة، حيث كانت والدتي، قد أعطتني الرسوم المدرسية، لدفعها من أول يوم دراسي، واشترت لي ملابس مدرسية جديدة ،  وأشرفت بنفسها، على قص شعري، وأظافري، ونظافتي الشخصية .
أما والدي – رحمه الله – فكان يرى، أن تعليم الأبناء سيسلخهم عن أرضهم ومجتمعهم ، وسيؤدي في نهاية المطاف، إلى هجرة قد تطول عن الوطن، لكنه كان يُدرك بالمقابل، فوائد التعليم، ويرى فيه استثمارًا طويل الأمد، ويحتاج إلى نفَس طويل  .
كانت الأرض هاجسه الوحيد فقد كان يردد على مسامعنا  أن : “الأرض مقدسة لا تباع ولكنها تشترى” ، ولم يبع أرضًا في حياته قط إلاّ مرةً واحدةً ، عندما التحق بالثورة مُتطوعًا – وكان عليه تدبير سلاحه بنفسه – ولم يكن يملك ثمن بندقية في ذلك الوقت.
وصل حب الأرض والزراعة عند والدي حد الهوس ، حتى أنني ذات يوم أرسلت له رسالة أخبرته فيها أن ترتيبي كان الأول علي صفي – ظنًا مني أن هذا الخبر سيسعده – فأجابني على الفور : “لا يكفي أن تكون الأول على صفك من غير أن تزرع  الأرض تينا ً وزيتونا ً “.
فهمت أن والدي لا يهمه التعليم بقدر ما تهمه الزراعة، وعلى الفور أرسلت له رسالة أخرى أخبرته فيها: “أنني زرعت خمسين غرسة زيتون في أحسن قطعة أرض يُحبها”، وغاب عن بالي أن موسم الزراعة لم يأت بعد ، وبدون عناء اكتشف والدي أنني غير صادق معه فيما أقول، فأجابني قائلاً : أنا أعرف تماما أنك لم تزرع ولا غرسة ، لكن  يكفيني أنك قد فهمت غايتي ومطلبي، فإذا لم تزرع اليوم فستزرع غدًا.
أما أمّي فلها رأي آخر مختلف تماما ً ، فهي كانت دائما ً تردد على مسامعنا أن: “الزراعة في أحسن حالاتها لا تطعم خبزًا في هذه الأيام، أريدكم أن تغيروا هذا الواقع الذي نحن فيه ولن يتغير هذا الواقع إلاّ بالتعليم، ومن غيره ستبقى عقولكم محشوة بالخرافات، وطموحاتكم صغيرة ومحدودة، أريدكم أن تتعلموا وتتصلوا بالمتعلمين على رأي المثل القائل” رافق المسعد تسعد ” .
دخلتُ غرفة الصف وجلست على مقعد خشبي مزدوج لا على التعيين، فجأة قفز أمامي سؤال كبير عن كيفية التوفيق بين واقعية أبي وطموحات أمي؟ وبينما كنت أحاول الإجابة على هذا السؤال فوجئت بجاري – عندما تكلمت معه – بأنه ” أخرس ” وكانت هذه أول مرة في حياتي أرى فيها شخصا ً أخرسا ً. أخذ الخوف والشك  يتسلل إلى نفسي، وغمرني سيل من علامات الاستفهام المُلّحة التي أصبحتُ بحاجة إلى أجوبة سريعة عليها ، لكي أتمكن من التواصل معه .
فهل الأخرس يدرك ما يدور من حوله؟ وهل يفرح ويغضب كأي شخص عادي؟ كيف سيعبر عن شعوره؟ وكيف سأتواصل معه؟ وإلى أي مدى؟ لقد وجدت نفسي أمام تجربة جديدة ليس في ذهني أية معلومات سابقة عنها، وقلة هذه المعلومات ستولد لدي وهمًا يجعلني غير قادرعلى التعامل معها. سألت الله أن يلهمني الصبر والسلوان .
حضر سكرتير المدرسة في الحصة الثانية وبيده اليمنى حوالي عشرة كتب جديدة، وفي يده اليسرى حوالي عشرون كتابًا قديمًا باليًا، يُريد توزيعها عشوائيًا على طلاب الصف، عندها تمنيت أن يكون كتابي جديدًا ـ وما كل ما يتمنى المرء يدركه ـ وبدأ بتوزيع الكتب الجديدة أولاًفانتهت عند زميلي الأخرس، عندها تيقنت أن كتابي سيكون قديمًا، تنازلت وأقنعت نفسي وقلت: هناك كتاب قديم يبدو كالجديد أحياناً وهذا يعتمد على من استخدمه، وأخيرًا صحوت من حلمي الثاني على كتابٍ وُضع أمامي أقل ما يوصف به أنّه ليس بكتاب فهو بلا غلاف وصفحاته مُمزقة وليست كاملة وإذا وُجدت بعض الصفحات الكاملة فهي مطموسة بكتابات غير مفهومة، علاوة على أن حجمه مضاعف و كأنه قد خرج لتوه من بركة ماء .
أما الآن وبعد مرور هذه السنوات أتسائل، هل يُلام صاحب الكتاب أم  مدير المدرسة؟ فمهما تكن الإجابة فانا الضحية، وهل يجوز للضحية أن تدافع عن نفسها بجعل غيرها ضحية مثلها؟!
لم يعجبني كتابي – بعد هذا التوزيع السيء – وطمعت بكتاب زميلي مستكثرًا عليه كتابه الجديد الذي سوف لن يفتحه طوال العام، أمّا أنا فقد كنت من الأوائل في الصف وبحاجة إلى كتاب جديد  أدرس منه خلال العام، لهذا اعتقدت أنني أحق منه بالكتاب الجديد.
قررت أن أسرق كتاب زميلي الأخرس – ظنًا مني – أنه سوف لن يدرك أن كتابا ً من كتبه قد نقص، وما أن  انتهت هذه الحصة حتى بدأت حالة من الفوضى المؤقتة في الصف قبل أن تبدأ الحصة الثالثة، غافلته وسرقت منه كتاب العلوم، فتحت أزرار قميصي ثم أدخلت  الكتاب وأقفلت عليه دون أن يشعر أحد.
عندما بدأت الحصة الثالثة دخل الأستاذ وبحركة عفوية أخرجت كتبي ووضعتها على المقعد لكي أختار منها الكتاب المناسب، وما كان من صاحبي إلا أن فعل مثلما فعلت، وبلمح البصر قارن بين كتبه وكتبي فاكتشف عدم وجود كتاب العلوم من بين كتبه.
رفع الأخرس يده مستأذنًا، وبدأ يُصدر أصواتا وإشارات غير مفهومة، اقترب منه الأستاذ أكثر فأكثر ليفهم ما يقول. أعاد الأخرس أصواته وإشاراته مرة ثانية، ولم يفهم الأستاذ منه شيئا، فما كان منه إلا أن غضب  وانقض على كتبي وأخرج  كتاب العلوم ودفع به في وجه الأستاذ ففهم أخيراً أنه فقد  كتابا ً من كتبه، قطع الأستاذ الحصة وقال لنا : زميلكم فقد كتاب العلوم . على كل طالب أن يتفقد كتبه جيدا ومن يجده يسلمه إلى صاحبه وانتهت المشكلة .
حدث هذا المشهد خلال خمس دقائق لكنها بالنسبة لي تساوي دهرا ً، لا أحد يعلم ما حدث غيري ، فقد جال في خاطري أن أريح وأستريح وأعترف أمام الجميع بما حدث وتنتهي هذه المهزلة، ولكن هل سيغفر لي أستاذي وزملائي؟ وإذا غفروا ما هي الصفة التي سأحملها للأبد ؟
تفقد الطلاب كتبهم ولم يظهر الكتاب، فقال الأستاذ : كل طالب يضع أغراضه فوق سطح مقعده، وبدأ في تفتيش الطلاب واحدًا واحدًا، عندما وصلني قفز عني ولم يفتشني لأنني – برأيه – على خلق واجتهاد عظيمين، ولا يمكن أن أقوم بهذا العمل،  واستمر في التفتيش ولم يعثر على الكتاب – ونسي المثل القائل : من مأمنه يؤتى الحذر- وانتهى الموضوع .
دق جرس الفرصة وكنت أنتظره على أحر من الجمر، أسرعت متجها إلى أحد كروم العنب البعيدة عن المدرسة وحفرت حفرة ووضعت الكتاب فيها، وغطيته بالتراب وميزت المكان جيدا وعدت إلى المدرسة بسرعة قبل أن يراني أحد.
وإذ بمجموعة من الطلاب ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لم يجدوا مكانًا يلعبون فيه إلا ذلك الكرم، ثم  تلتهم مجموعة أخرى كانت  تطاردهم، والتقى الجمعان فوق  الكتاب المدفون، تمكن أحدهم من آخر ورماه أرضًا، تجمعوا فوق بعضهم البعض وتجمع الجميع فوق الكتاب، وانتهت المداعبة بينهم بظهور الكتاب. عندها أوقفوا اللعب  وسأل أحدهم: من أين أتى هذا الكتاب؟ وسأل آخر: كيف وصل إلى هنا؟ وبينما هم يتساءلون خطفه أسرعهم جريًا – وكان من أصدقائي – وسلّمه إلى الأستاذ المناوب، وظل يبحث عني حتى وجدني ليخبرني بما حدث معه وزملائه، جاملته في سماع القصة ولسان حالي يقول: إذا قدر الله لك شيئا فلن يكون لأحد غيرك.
ضرب الجرس بعد نهاية الفرصة واصطف الطلاب قبل الدخول للحصة الرابعة وإذا بالأستاذ المناوب يرفع الكتاب عاليًا ويقول: من أضاع كتابا فليحضر ليأخذه، رأى الأخرس الكتاب فهرول إلى الأستاذ مسرعا ً وأخذ كتابه وهمهم بكلمات لم أفهمها حتى الآن.

جميل عبود
آذار2009

زر الذهاب إلى الأعلى