أرشيف - غير مصنف

باعة أطفال يبيعون با ستجداء.. ومستجدون لا تنقصهم الكبرياء في غزة

موسى أبو كرش
تجدهم في كل مكان ، وتلمحهم في كل ميدان.. على مفارق الطرق.. قرب شارات المرور،في الشوارع والأسواق والملاعب والحدائق ، على شواطئ البحر ، وأمام أبواب المدارس والعيادات .. وقد يفاجئونك وأنت في مكتبك في الطوابق العليا من البرج.. باعة صغار وكبار ، أطفال في عمر الزهور وشبان تكسر العصي على ظهورهم ، وشيوخ بلغ منهم الكبر عتيا ، منهم من يحمل أباريق الشاي وعشرات الكؤوس البلاستيكية، يطوفون بها حولك في الحدائق وشواطئ البحر ، ومنهم من يحمل بسطة من السجائر على راحة يده ، لا تزيد كل بضاعته عن كروزين أو ثلاث من السجائر.. ومنهم من يقف خلف صفيحة مليئة بكيزان الذرة المسلوقة، ومنهم من يدفع عربة يدوية يبيع عليها غزل البنات والترمس والفول السوداني والنابت والبزر.. ومنهم من يبيع المرطبات كالبوظة والبراد والبالونات ولعب الأطفال ، والقليل منهم يبيع البسكويت والعلكة . دفع بهم جميعاً سوء الحال والمآل إلى الشارع فشمروا عن سواعدهم ،وقاموا بواجبهم في توفير لقمة العيش لذويهم بعد أن فقد معيلوهم فرص عملهم ، يمر بعضهم أمامك ، فتلمح في مشيتهم وهيئتهم بقايا كبرياء بعد ضراء مستهم ،ويسألك بعضهم، ولاسيما، الصغار منهم بإلحاح يشبه الاستجداء أن تشتري بضاعتهم، لا يتحولون عنك ولا ينصرفون.. مهما بالغت في استخدام معسول الكلام لصرفهم، أو تجاوزت حدود اللياقة لطردهم.. يلتصقون بك كلصقة “الكوكس” الأمريكية، والويل لك إذا أعماك الغضب من كثرة الإلحاح واستخدمت يدك أوبذائة لسانك لزجرهم وطردهم، فعند ذلك يتحول المستجدي البائع الصغير إلى نمر شرس ، يبدأ بسبك وشتمك وقد يقذفك بالطوب وفي أحسن الأحوال يلم عليك خلق الله من كثرة ولولته وبكائه، وتصبح أنت في عيون الناس الشيطان المعتدي، ولا ينتهي بك المشهد العصيب إلا باستعطاف النمر الصغير واسترضائه بحفنة من الشواقل دون أن تأخذ شيئاً من بضاعته الكاسدة، ويمضي هو فرحا منتصرا بعد أن حقق مبتغاه ومراده.
سألت يوماً احدهم بعد أن كاد يطيش عقلي من كثرة إلحاحه: يا بني أنت تبيع أم تستجدي؟ فقال وقد علا وجهه بكاء مصطنع: ” أبوي بيضربني إذا مبعتش” فأجبته دون تفكير وأنا _كمان_ جيبي حتفضى قبل ما ألحق عليكو!
في غزة يعيش أكثر من مليون ونصف المليون إنسان ،ستون بالمئة منهم لا دخل لهم أو مصدر عيش يعيشون على ما تقدمه لهم وكالة الغوث وجمعيات الإغاثة الإنسانية والفصائلية، ما يجعل علاج هذه الظاهرة الآخذة بالانتشار أمراً بالغ الصعوبة .
ذات مساء وجدتني أقذف نفسي في المقعد الأمامي لسيارة هربا من احد هؤلاء البائعين الصغار بعد أن” فقع مراري” كما يقولون. وقرب إشارة المرور غير بعيد عن المكان الذي كنت فيه فاجأني من نافذة السيارة بائع صغير يطلب مني شراء ما لديه من قطع الشوكولاتة، ولم أتخلص منه إلا بعد أن فتحت إشارة المرور، وذات أصيل انتبهت على صراخ امرأة في حي الرمال تزجر أحد هؤلاء بعد أن التصق بها لمسافة تزيد عن مائتي متر: ” يا بني طققتني طققتني.. ما بدي.. ما بدي..” ولم يخلصها منه الا أحد الشبان المارة. محمد 15 عاماً بائع شاي في حديقة الجندي المجهول اعتدنا ان نأخذ منه شاينا وقهوتنا عند زيارتنا الحديقة، قال : أنه اضطر إلى ترك الدراسة ليقوم برعاية البيت من خلال الشواقل القليلة التي يوفرها من خلال بيع الشاي والقهوة في الحديقة. وأضاف معاتباً عندما رآنا نشتري من فتى آخر: أنه أولى منه بالبيع مؤكدا أنه يقوم بتوفير احتياجات اخوانه الثمانية إضافة إلى أمه وأبيه المريض وقال أنه دفع خمسين شيقلا لشرطة البلدية مقابل استرداد جرة الغاز الخاص به مع تعهد بعدم إعداد الشاي في الحديقة، وأشارإلى أن أكثر من سبعة عشر بائعاً ينافسونه على هذه المهنة داخل الحديقة وأنه يتفاجأ يومياً ببائعين جدد كباراً أو صغاراً في الحديقة.. ومما يلفت أن هناك تحايلاً واضحاً على العيش من بعض هؤلاء الباعة فمنهم من يبيعك شيئاً لا تعرفه مغلف بعناية داخل علبة، وعليك أن تختار حظك من إحدى هذه العلب التي لا يزيد محتواها عن الشيقل الذي دفعته.
ورغم أن العديد من الباعة قد يزعجونك من خلال ترددهم عليك و النداء على بضاعتهم، كأن يردد أحدهم أمامك : شاي شاي وهو يرى كأس الشاي تلمع في راحتك ، إلا أن القليل منهم يقف في مكانه كحرس قديم ،مشبكا راحتيه خلف ظهره ، دون أن ينطق بكلمة مثل “بائع البراد” الأربعيني ذي الشارب الكث الذي يقف متأهباً خلف عمود الكهرباء.. فإذا ما جاءه طفل انحنى وصبّ له كأس البراد ،ثم يعود إلى مكانه.. ولن تعدم إذا تعودت الذهاب إلى مكان بعينه، أو شارع بعينه، أن يسلم عليك أحد المارة وكأنه يعرفك تمام المعرفة، ثم يتنحى بك جانباً طالباً منك بأدبٍ جم دفع ثمن فاتورة دواء ،يخرجها بخجل من جيب قميصه أو سرواله مؤكداً لك أن هذا الدواء سوف يشفي زوجته وأن كل ما معه في البيت لا يكفي لشراء ثمن حقنة واحدة من الدواء.. غير أن ما يؤلم حقاً أن تجد طفلاً بريئاً مثل هذا الطفل الذي قابلنا لمرتين متتاليتين أمام برج الشوا وحصري طالباً منّا بصوتٍ خفيض وعين دامعة ثمن علبة بابمبرز لأخيه ،وعندما قدمنا له بعض النقود رفض رفضاً تاماً استلامها ،مؤكدأ أنه يريد علبة بابمبرز فقط.. وأكد لي صديق يعمل في مهنة الصرافة أنه فوجئ في الآونة الأخيرة بنساء جميلات مهندمات يبدو عليهن مظهر الغنى يقصدنه في المحل، وعندما يتأهب لصرف ما لديهن من نقود يفاجئنه بطلب المساعدة …ولعل ما أوجعني وأدهشني في آن هو تلك المرأة الجميلة التي انتصبت أمامنا فجأة في المكتب ذات صباح وطلبت منا بلهجة آمرة لا تردد فيها أن نوفر لها ثمن الطعام لأبنائها، فانصعنا جميعا لطلبها دون تردد ،فما لديها من كبرياء أقنعنا حد اليقين بصدق معاناتها.. وبعد أن غادرت المكتب على عجل سادنا صمت عميق غويط.!     

زر الذهاب إلى الأعلى