مفاهيم: عالمية العهد والوعد لنوح وإبراهيم في التوراة (3)
مصطفى إنشاصي
هذا بحث كنت نشرت منه بعض الحلاقات سابقاً بدون إعادة صياغة وتوثيق، وقد أعدت صياغته وانتهيت منه قبل أسبوع ومازال يحتاج إلى إعادة قراءة وتعديل، وقد قدمته لبعض أساتذة الجامعة في تخصصات متعددة في العلوم الإنسانية أصدقاء لوضع ملاحظاتهم عليه، وسأنشر ما لم ينشر منه سابقاً، وبعض ما نشر بعد إعادة الصياغة والتوثيق أيضاً منتظراً إضافات أو تعديلات من القراء.
5ـ عالمية العهد لنوحu في التوراة
هناك حقيقة حاضرة غائبة في أذهاننا وخطابنا الديني والسياسي والفكري؛ عند حديثنا عن مخططات اليهود لهدم المسجد الأقصى، بزعم أنه قائم مكان هيكلهم المزعوم، الذي لا بد من إعادة بنائه وإعادة العرش إليه، كرمز لسيادة اليهود العالمية، وهي: أن القضية ليست قضية الهيكل في حد ذاته؛ ولكنها مسألة السيادة العالمية لليهود على العالم أجمع!! وهذه الحقيقة لها علاقة بمنهجية التوراة في تعاطيها مع تاريخ الجنس البشري وتاريخ فلسطين، من حيث أن الحياة البشرية وتاريخ الأجناس عندهم يبدأ من بعد الطوفان، واختيار إلههم يهوه سام بن نوح وذريته واختصاصهم بالبركة والسيادة العالمية من دون بقية أبناء سيدنا نوح وذرياتهم، واختيار إبراهيم عليه السلام من نسل سام بن نوح من دون بقية نسله ليمنحه الحق بالأرض من النيل إلى الفرات، واختيار إسحاق وذريته من ذرية إبراهيم دون أخاه إسماعيل وذريته، واختيار يعقوب (إسرائيل) وذريته “بني إسرائيل” من ذرية إسحاق دون أخاه عيسو وذريته، ليكونوا له الشعب المختار الموعود بالسيادة العالمية، واختيار فلسطين من دون كل بقاع الأرض لتكون مركزاً لتلك السيادة.
إذن هناك علاقة وثيقة بين وعد إله اليهود “يهوه” لمن تزعم التوراة المحرفة أنه (سام بن نوح) وذريته بالسيادة العالمية، وبين وعده لإبراهيم وبني إسرائيل من ذريته تحديداً بالأرض من النيل إلى الفرات.
يبدأ تاريخ البشرية في التوراة من بعد الطوفان الذي حدث نتيجة غضب الرب على بني الإنسان لارتكابهم الآثام والشرور، فأغرقهم ما عدا نوحu وزوجاته وبنيه ساماً وحاماً ويافث وزوجاتهم، وهم فقط الذين ركبوا معه في السفينة من قومه، و”هؤلاء كانوا أبناء نوح الثلاثة الذين تفرعت منهم شعوب الأرض كلها” (سِفر التكوين: 9/18).
وقد كانت البداية عهداً أقامه الله بينه وبين نوح وبنيه بعد الطوفان، يتوافق في كثير من مضامينه مع مضامين النبوءات العالمية للوعد الذي قطعه الله لجميع أنبياء بني إسرائيل، والتي وردت في التوراة نفسها، وذلك قبل أن يفطن كتبة التوراة لعالميته فيندمون عليه ويُسارعون إلى تصحيحه. فقد جاء في التوراة: “وبارك الله نوحاً وبنيه قائلاً لهم: أثمروا وتكاثروا وملئوا الأرض… وكلم الله نوحاً وبنيه معه قائلاً: وها أنا مُقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم… أُقيم ميثاق معكم لا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر ووضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض… فمتى كان القوس في السحاب أبصرها وأذكر ميثاقاً أبوياً بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض”. (يُراجع سِفر التكوين: الإصحاح9).
ذلك مضمون العهد الذي قطعه الله لنوح وبنيه وجميع المخلوقات الحية على وجه الأرض. وقد لخص (أندريه نهر) معني ذلك العهد الإلهي العالمي والوعد لإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، بأنه لكل الأمم بقوله: “إن النوحية (أي عهد الرب لنوح) هي التي تبين أن الأنبياء فسروا بعض أحداث التاريخ بلغة مشتركة بين إسرائيل وسائر الشعوب فلم تكن هناك هجرة واحدة (هي خروج بني إسرائيل من مصر) بل سلسلة من الهجرات حركها نفس الرب. فهو ـ لكي يتم نفس الوعد الذي أعطاه لنفس الأب (إبراهيم) ـ جلب الآراميين من أور والمؤابيين والعمونيين من وادي عربة، والأدوميين والأمالسيين والمديانيين من الصحراء، والفلسطينيين من كريت لكي يرمي بهم جميعاً على شواطئ (كنعان)، من الأرض الموعدة للجد، مؤمناً لكلٍ أرضه ضامناً لكلٍ حدوده، وهو حكم في المنازعات، وشاهد على كل ما يفعله الناس، وقاضٍ في مشكلاتهم. ولعلنا نتساءل إذا ما كانت المنطقة السورية ـ الفلسطينية تحت أعين الأنبياء، بحسبانها جزء من الأرض، يمكن أن تكون مرجعاً ونموذجاً للعالم كله، ذلك أن المشكلات الأخلاقية والدينية التي واجهتها الإنسانية كان ينبغي أن تُستشعر وتُعالج على مستوى الإنسانية بأكملها. فإذا هي تُستشعر وتُعالج من هذا المجال الصغير التي تكفي نظرة واحدة، مجرد نظرة لاستيعابه، وإن كانت ظروفه السياسية وموقعه المتوسط بين الإمبراطوريتين الكبريين مصر وبابل قد خولته تنوعاً متميزاً في البنية والأحداث.
وأيا كان الأمر. فنحن إذا طبقنا على هذه الشعوب لغة التاريخ أو بالأحرى لغة المصير التاريخي المشترك، مصير الهجرة ـ وقد طبق الأنبياء عليها أيضاً لغة العهد، بتبعاته الأخلاقية ـ فإن الشعوب مسئولة أمام الرب تماما كشعب إسرائيل فهم أيضاً أبناء الرب، وعبيد الرب”[1].
ولكن كتبة التوراة أدركوا الخطأ في عالمية العهد لنوح وبنيه فسارعوا لتصحيحه، وبدأ التصحيح بلعن (كنعان بن حام) ومباركة (سام بن نوح) وذريته من بعده، فاختلقوا قصة ذات مضامين وأبعاد سياسية ليحرموا بها الشعوب الأخرى وخاصة أهل فلسطين من حقهم في عالمية العهد، واختزاله فيمن زعموا أنه (سام بن نوح) من بين أبناء نوح الثلاثة. فكتبوا زاعمين: “واشتغل نوح* بالفلاحة وغرس كرماً، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد (حام) أبو (الكنعانيين) عُوى أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا خارجاً. فأخذ (سام) و(يافث) رداء ووضعاه على كتفيهما ومشيا إلى القهقري إلى داخل الخيمة، وسترا وعُوى أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عُريه، وعندما أفاق نوح من سكره وعلم ما فعل به ابنه الصغير. قال: ليكن (كنعان) ملعوناً، وليكن عبد العبيد يكون لأخوته. ثم قال: تبارك الله إله (سام). وليكن (كنعان) عبداً له. ليوسع الله لـ(يافث) فيسكن في خيام (سام) وليكن (كنعان) عبداً له)”. (سِفر التكوين 9/20ـ27).
ولا أحد يعلم ما علاقة الابن الذي لم يولد بعد بذنب أبيه؟!. لذلك يعلق الدكتور (جورجي كنعان) على تلك القصة المختلقة التي جاءت في سفر التكوين بأن اليهود: ومنذ عملوا في سفر تكوينهم على ربط نسبهم بالأب الأول عملوا في الوقت ذاته على حشو اتجاهاتهم السياسية والقومية في تاريخهم الديني، وضمنوه نزعاتهم العنصرية وميولهم العدوانية، نحو كافة الأمم والشعوب فنوح يلعن باسم “يهوه”، أب (الكنعانيين) ويبارك أب اليهود، وغالباً ما تمثلت اتجاهاتهم السياسية في إضفاء البركة على أب ووصم الآخر بلعنه. وكان تفسيرهم للبركة أو اللعنة أنها أبدية تلحق ذريته إلى آخر الدهر. ويتساءل: ترى لماذا صب اللعنة على (كنعان)، ونوح هو الذي سكر وتعرى، و(حام) هو الذي أبصر عورة أبيه؟ ما هو الذنب الذي ارتكبه الابن الذي لم يولد بعد؟ ولماذا صبت اللعنة عليه من بين أخوته الآخرين؟ ألأن (الكنعانيين) سبقوا اليهود في مضمار الحضارة، أم لأنهم أعطوا الأمم الروح والمحبة والحكمة وهم أصحاب الأرض؟ ألم يكن الله يعلم أن (حام) سيفعل فعلته تلك يكون الأجدر به أن يستثني (كنعان) من البركة أو (حام) ونسله، بدلاً من التراجع أو ينتظر حتى يفعل (حام) فعلته فباء ابنه المسكين (كنعان) باللعنة هو ونسله قبل أن يولد، ولكن هذا الكلام ليس كلام الرب بل كلام الكتبة الفريسيين الذين كانوا يدركون خطأهم متأخرين[2].
ويضيف أن رجال الدين النصراني يفسرون هذا الاختيار بوجود “قصد إلهي” ولو سألتهم: ما تفسيركم “للقصد الإلهي”؟ وما الدافع الذي يكمن وراء هذا العطاء السخي الدامي لأن فيه إبادة شعب وإعطاء أرضع لشعب آخر؟ لداروا في معمعات لا اثر فيها للمنطق المعقول، هي من نوع اللعب بالألفاظ… الله كبير… نحن حشرات لا نفهم، لا نعرف قصده…خلاص.. اختيار مكرس، وأراده الله. وهكذا تدور حتى تشعر بأعصابك وقد ضحت فريسة الخدر والعياء)[3].
أنه أمراً منطقياً أن يعجز علماء اللاهوت النصارى عن الإجابة لأنهم عميت أبصارهم، وغفلت قلوبهم، لذلك يرى جارودي أنه “من المستحيل بالنسبة إلى أي مسيحي أن يقدم مغزى لاهوتيا لدولة إسرائيل، فإن احترام الإيمان اليهودي لا يستتبع مطلقا الاندماج بين اليهودية والصهيونية و إضفاء صفة القداسة على الأهداف التاريخية للحركة الصهيونية”[4].
ولكن منهجية التوراة العرقية العنصرية والقبلية اختزلت بُعدهما العالمي في البُعد العرقي القبلي، وقصرتهما على بني إسرائيل فقط، واليهود بعد ذلك. ونسج كتبة التوراة علاقة وثيقة بين وعد إله اليهود “يهوه” لسام وذريته بالسيادة العالمية، وبين وعده لإبراهيم وبني إسرائيل من ذريته تحديداً بالأرض من النيل إلى الفرات. وإذا أردنا التحديد أكثر نقول: وجعل مركز تلك السيادة هو بيت المقدس، ورمزيتها هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء (الهيكل الثالث)، ووضع عرش ملك اليهود الذي هو من نسل داوود، ليكون رمزاً لتلك السيادة العالمية لليهود، حيث تحكم (إسرائيل) العالم آخر الزمان، وتحاسب جميع شعوب الأرض على ما اقترفته بحق (إسرائيل) وأموالها من آثام.
6ـ عالمية العهد والوعد في التوراة
بعد ما تقدم يتَبين لنا أن العهد الذي قطعه الرب لنوح ذو مضامين وأبعاد عالمية، وأنها ليست خاصة بعرق أو شعب دون الشعوب، ولكنها تتحدث عن أُمة عالمية، سمتها التوراة في مواضع أخرى “الأُمة البارة”. ومن صفاتها أنها تجعل جميع شعوب الأرض تتبارك في إبراهيم، وتجعل البيت “المسجد الأقصى” مكان عبادة لجميع الأُمم. كما أن التوراة والأناجيل المُحرفة لم تخلو من النبوءات بحقيقة هوية الورثة الشرعيين، ونبي آخر الزمان محمد r، فإنها أيضاً تضمنت كثير من النبوءات عن مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأنهما سيكونان مقر الخلافة الإسلامية العالمية آخر الزمان، وأن الأمة البارة التي سيكون لها السيادة العالمية وستقيم العدل والبر بين الناس، انطلاقاً من مقر خلافتها ـ المسجد الأقصى ـ هي أمة نبي الرحمة للعالمين، محمد r، وذلك تحقيقاً للنبوءات العالمية التي وردت في التوراة والأناجيل المُحرفة. وليست أُمة القبيلة والعرق، التي تنتظر مسيحها الدجال ليحكم العالم من خلال هيكلهم المزعوم على أساس الاستعلاء والاستكبار اليهودي على جميع البشر.
وقد فسر علماء اللاهوت النصارى الذين عارضوا تفسيرات اليهود بأنهم المقصودين وحدهم بهذا الوعد الإلهي لنوح وإبراهيم عليهما السلام، بأن هذا الوعد يشمل جميع ذرية إبراهيم ومنهم إسماعيل أبو العرب –نصارى ومسلمين-، وأن الوعد يختص بجماعة المؤمنين بإبراهيم ولا يختص بجماعة عرقية تنتمي لإبراهيم عرقياً. هذه الرؤيا اللاهوتية النصرانية تأتي منسجمة وموافقة لما جاء في القرآن الكريم من أن الورثة هي ورثة دين، والتركة هي أمانة رسالة عالمية، و الأمة الموعودة بهذه العالمية هي أمة الإسلام.
فقد وردت نفس تلك المضامين في القرآن الكريم والسنة النبوية، وإن أُمة الإسلام هي التي صححت التحريف والانحراف الذي أحدثه اليهود والنصارى على رسالة نوح وإبراهيم وجميع الأنبياء والرُسُل عليهم جميعاً الصلاة والسلام، واحتفظت بعالمية رسالة نبيها محمدr ولم تجعله نبياً للعرب دون غيرهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء:107}. ولم تحتكر الله لنفسها دون غيرها من الأُمم: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ {الشعراء:192}. ذلك ما يجعلها هي وحدها الأُمة المقصودة بنبوءات التوراة، خاصة وأن كثير من علماء اللاهوت النصارى يؤكدون أن النبوءات لا تعني عودة اليهود إلى فلسطين، ولكنها تعني مملكة روحية للجنس البشري كاف ولجماعة المؤمنين.
فقد جزم كثير من العلماء الموضوعيين والمحايدين وغير المتعصبين لليهود المختصين في الدراسات التوراتية؛ بأن جميع النبوءات التي وردت في أسفار التوراة قد تحققت بعودة اليهود بعد السبي البابلي: يقول الدكتور (فرانتش شايدل) معقباً على نبوءة سفر (أرميا) بعودة اليهود إلى فلسطين بقوله: “لقد تحققت النبوءة إذ عاد اليهود من الأسر البابلي”[5]. والثابت تاريخياً أن جميع اليهود الراغبين في العودة قد عادوا أيام حكم ملك الفرس أرتحششتا زمن الإمبراطورية الفارسية.
ويؤكد الأُستاذ (ألفرد جلوم) أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن، بعد أن يعرض لنصوص التوراة حول العهد: “أن هذه الوُعُود قد أُعطيت لإبراهيم ولذريته… وهكذا يصبح لنسل إسماعيل كل الحق لأنهم يعتبروا أنفسهم من نسل إبراهيم … وبالإضافة إلى أنه حين تم العهد ووُعِد إبراهيم بأرض (كنعان) كملكية أبدية بين الله وإبراهيم بالختان، كان إسماعيل جد القبائل العربية هو الذي “خُتِن” ولم يكن إسحاق قد ولد”[6]. وينتهي “جلوم” إلى القول: بأنه “من الواضح أن الوُعُود الإلهية إلى أولئك الأنبياء قد أُلغيت بسبب ردة الأُمة عن الدين، وعندما أجلى السبي الأشوري السكان عن السامرة والسبي البابلي الشعب عن يهودا، رأى الأنبياء في هذه المصائب تنفيذاً للعدل الإلهي في حق شعب عاصٍ جاحد. ولكنهم قالوا لشعبهم: أن بقية ستعود… وفعلاً عاد اليهود إلى يهودا وأعادوا بناء أسوار القدس، وأعادوا بناء (الهيكل)، وعلى ذلك فقد تحققت فعلاً نبوءات العودة، ولا يمكن لها أن تتحقق ثانية، ففي مجمل الكتابات المعترف بها دينياً، والمتعلقة بالعهد القديم، ليست ثمة أية نبوءة عن عودة ثانية من الرجوع من المنفى البابلي”[7].
النبوءات تعني جماعة المؤمنين
وعلى ذلك تكون النبوءات الواردة في أسفار التوراة ولم تتحقق بعد؛ خاصة بأُمة أُخرى غير اليهود، وذلك ما يراه كثير من علماء اللاهوت النصارى! يقول {الدكتور “وليام هـ. شتاينسبرج” أستاذ دراسات العهد الجديد –الإنجيل- والدراسات (السامية) في جامعة “ديوك” بولاية “نورث كاورلاينا” والكاهن في الكنيسة المشيخية: “ليس ثمة من أساس في العهد الجديد أو القديم يستند إليه أدعياء الصهاينة بأن إقامة دولة يهودية جديدة في فلسطين هو أمر مطلوب أو له ما يبرره في الكتاب المقدس أو نبوءاته، فالوعود الواردة في نبوءات الكتاب تنطبق على البشر كافة”. ويرى أن الإشارات الواردة في الكتاب المقدس تنطبق “حسبما وردت في العهد الجديد، على الكنيسة (المسيحية) المثالية، أو على جماعة من المؤمنين حقاً، ذلك بالمعنى الديني للإيمان”. ثم ينتهي إلى أن تلك الإشارات والعبارات في العهد القديم تشير إلى “مملكة روحية للجنس البشري كافة، لا إلى إسرائيل سياسية تحتل أراضي ومنازل مملوكة طبيعية من قبل شعب آخر”.
أما الدكتور أوفدر سلزر أستاذ العهد القديم سابقاً، وعميد معهد “ماك كورمك” اللاهوتي، والكاهن في الكنيسة المشيخية المتحدة، ينتهي من تفنيده للإدعاء اليهودي بأن إنشاء (دولة إسرائيل) جاء تحقيقاً لنبوءة الكتاب المقدس، إلى القول: بأن “المسيحي الذي يعتمد على الكتاب المقدس المسيحي، يستطيع أن يعتقد بأن كلمة (إسرائيل) لا تعني وحدة جغرافية أو عرقية أو سياسية، بل جماعة المؤمنين كافة}[8].
المسلمون هم جماعة المؤمنين
لذلك يمكننا التأكيد بكل ثقة أن “الأُمة البارة” التي بشر بها العهد القديم والجديد هي أُمة محمدr. هذه الأُمة هي التي حققت نبوءات التوراة في جعل مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى رمزاً لشمولية الوعد والعهد لجميع شعوب الأرض، ورمزاً للسلام والوحدة العالمية، من خلال جعلها بيت عبادة وصلاة لجميع تلك الشعوب: “بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب” (إشعيا:56/7). وإذا ما سألنا إشعيا: كيف سيكون بيت صلاة لكل الشعوب واليهود يؤمنون أنهم وحدهم هم “شعب الرب”، وهم وحدهم البشر، وغيرهم حيوانات خلقت في على هيئة الإنسان لتليق بخدمة إنسان “شعب الله المختار” للسيادة العالمية على جميع المخلوقات في هذا الكون؟ّ. يُجيبنا (إشعيا:49/6) نفسه: أن الرب يُرسل عبداً ليكون “نورا للأمم” وليس للشعب المختار “فقد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض”. كما يُجيبنا (أرميا:1/5): “جعلتك نبيا لكل الشعوب”! وهذا دلالة على عالمية الرسالة والعهد والوعد، التي قصُرت جِبلة اليهود على القيام بواجب تبليغها وتحقيقها واقعاً بين الشعوب جميعاً، ولكنها احتكرت إله العالم أجمع لنفسها من دون جميع شعوب الأرض، لذلك أنكر عليهم المسيح u ذلك: “أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضاً، بلى للأمم أيضاً” (رسالة أهل رومية:3/29).
وإن حَصر اليهود وُعُود الأنبياء الخاصة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في مسيح خاص بهم؛ يُعتبر تحريفاً ظاهراً وواضحاً ومتعارضاً مع وُعود الرب لإبراهيم في التوراة “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (التكوين:12/3). التي تأتِ منسجمة مع العهد الذي قطعه الله لنوح u بعد الطوفان، وكانت علامة عهده أن يضع قوسه في السحاب: “وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل الذوات الحية التي معكم إلى أجيال الدهر….”. (التكوين 9/ 8-17). وكما تأتِ منسجمة مع نبوءة (زكريا الإصحاح 2/11، 12) قول الرب: “ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني ها أنا ذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فتتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون لي شعباً فأسكن في وسطك”. ومن أجل هذا أرسل الرب (يونس) إلى “نينوي” لينذرهم بقوله: “وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا قم أذهب إلى نينوي المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي” (سفر يونان: 1/1). وفي سفر إشعيا يرسل الرب عبداً ليكون “نورا للأمم”. (الإصحاح 49/6) وليس للشعب المختار، وهذا دلالة على عالمية الرسالة “فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض”. كما نجد في (سفر أرميا: 1/5): أن الرب يخبر “جعلتك نبياً لكل الشعوب”. وليس لشعب واحد هو بني إسرائيل!.
كما جاء في التوراة ما يدل على شمولية وعالمية الوعد لإبراهيم عليه السلام، وأن القدس ستصبح بيت صلاة وعبادة لكل الشعوب حتى المختلفة مع يهود في الإيمان “لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب”. (سفر إشعيا: الإصحاح 56/7). كما نجد في نفس السفر رؤية أكثر وضوحاً وتبشيراً بالمستقبل، وأكثر انفتاحاً وتخلصاً من شعور العنصرية والانغلاق، حيث تبشر بخروج أمة من القدس محبة للسلام وللأمم الأخرى، لا ترفع سيفا ولا تتعلم الحرب: “وتسير شعوب كثيرة وتقول هلم نصعد جبل الرب إلى بيت يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم تعلن كلمة الرب. فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد”.(2/3،4). إن هذه النبوءة لا يمكن أن يكون المقصود بها اليهود، الذين لم ينصفوا يوماً شعباً من شعوب المنطقة، أو أغمدوا لهم سيفاً، أو كفوا عن الحرب، وهم أينما حلوا ولدوا الثورات والفتن، وأجروا المذابح، وخلفوا وراءهم الدمار، إلى درجة يصدق فيها عليهم قول الرب لهم: “إن كثرتم الصلاة لا أسمع لكم، أيديكم ملآنة دما”. (سفر إشعيا: الإصحاح 1/15). وهذا دليل على قسوة قلوبهم، وأنهم ليسوا هم الأمة المقصودة.
ويعلق رجاء جارودي على نص سفر إشعيا عن الأمة التي تجعل القدس منارة روحية لكل الأمم، بقوله: “تلكم هي رؤيا إشعيا للمستقبل وهي أيضا رؤيا الأنبياء، وهي تجعل من أورشليم ، لا عاصمة شعب، بل منارة روحية لأمة دينية تمتد على تخوم العالم”[9].
كما أنه هناك رؤيا أخرى جاءت في (سفر أرميا) قصر الفكر الديني لليهودي تفسيرها على أنهم هم المقصودين بها، في الوقت الذي لا تنطبق شروطها أيضاً إلا على المسلمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الرؤيا تقول: ط”يقول الرب أنهم لا يقولون بعد تابوت عهد الرب ولا يخطر على بال ولا يذكرونه ولا يتعهدونه ولا يصنع بعد. في ذلك الزمان يسمون أورشليم كرسي الرب ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم”. (أرميا: الإصحاح 3/16 ، 17).
وإن كان هناك أمة في التاريخ تنطبق عليها نبوءات التوراة حقيقة فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي الأمة الوحيدة التي يشهد لها التاريخ وكثير من مؤرخي الغرب الصليبي نفسه أنها هي الأمة الوحيدة التي حافظت على مقدسات غيرها، ولم تنتهك لها حرمة، ولم تمنع أحدا من أتباعها من الصلاة فيها، أو زيارتها، وكفلت لأتباعها حرية العبادة، وجعلت من القدس بيت عبادة وصلاة لكل أتباع الرسالات السماوية جميعهم. فالمسلمون قد جعلوا من القدس طوال تاريخ حكمهم لها مركزاً روحيا لكل الأمم على اختلاف أجناسها وأعراقها, ومعتقداتها، ولم يحتكروا المدينة لأنفسهم رغم اعتقادهم الراسخ بأنهم هم وحدهم ورثة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. ولم يتم ذلك الاتصال بين الأُمم الكثيرة إلا في ظل حكم الإسلام لبيت المقدس، فالتاريخ لم يحفظ لنا أن أُمة من الأمم التي حكمت بيت المقدس حافظت على وصايا التوراة والأناجيل في جعلها بيتاً للعبادة لجميع الأُمم والشعوب كما حافظت عليها أُمة الإسلام، التي احترمت جميع عقائد أتباع الرسالات السماوية ولم تمنعهم من أداء شعائرهم وعباداتهم في بيت المقدس، بل ووفرت لهم كل أسباب الأمن والأمان، وفي الوقت نفسه حفظ لنا التاريخ فظائع عظام ووحشية وبربرية كثيرة ارتكبها اليهود والنصارى ضد سكان فلسطين وغيرها، عندما حكموا بيت المقدس لفترة وجيزة من التاريخ أيام تمردهم في عهد اليونان والرومان.
كما أن النصارى أيضا ليسوا هم تلك الأمة المقصودة بهذه النبوءة، والتاريخ يحفظ للإنسانية فضائع عظام ارتكبها النصارى عندما حكموا بيت المقدس قبل الإسلام لا يقل ضراوة عن فظاعة ووحشية اليهود، وأشد منه ما ارتكبه النصارى ضد المسلمين ومقدساتهم عندما احتلوا بيت المقدس أيام الحروب الصليبية الأولى ضد المسلمين ومقدساتهم، وحتى ضد أبناء دينهم مِمَنْ يخالفوهم في المذهب، وضد اليهود ومقدساتهم. وها هو الواقع المعاصر للموالاة بين اليهود والنصارى هذا العصر يشهد على حقيقة أفعالهم في بيت المقدس والأرض المباركة؛ بل وفي الأرض كلها. بعد أن مكنوا اليهود من فلسطين وبيت المقدس، ولا زالوا يوفرون لهم الحماية بالرغم من اعتداءاتهم المتكررة لا على مقدسات المسلمين فقط بل وعلى مقدسات النصارى أنفسهم!! وفي الوقت نفسه تتعالى أصوات نصرانية تطالب حكومات العالم النصراني ألا يسمح بإعادة القدس إلى المسلمين، ونجد بابا الفاتيكان عام 1965م يبرئ اليهود من دم المسيح الذي بحسب اعتقادهم أن اليهود هم قتلته، ويقيم سفارة وعلاقات دبلوماسية له مع كيانهم المغتصب لموطن المسيح!! والبابا الحالي بنديكيت السادس عشر لا يكل ولا يمل من الحديث عن التاريخ المشترك الذي يجمع اليهود والنصارى.
ومع ذلك نجد اليهود جادين في العمل من أجل تحقيق تلك الخرافات والأساطير رغم باطلها، ونحن المسلمون غافلون عما يحاك لنا من مؤامرات ودسائس تقوم بها الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني. وكما بدأ تاريخ البشرية في التوراة بالطوفان، وحصر الوعد الإلهي بالسيادة العالمية في ذرية (سام بن نوح)، فإنه انتهى إلى حصر الوعد بالسيادة على الأرض من النيل إلى الفرات، ببني إسرائيل واختيارهم “شعب الله المختار” من دون كل ذرية سام بن نوح، وإذا أردنا التحديد أكثر نقول: وجعل مركز تلك السيادة هو بيت المقدس، ورمزيتها هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل، ووضع عرش ملك اليهود الذي هو من نسل داوود، ليكون رمزاً لتلك السيادة العالمية لليهود، حيث تحكم (إسرائيل) العالم آخر الزمان، وتحاسب جميع شعوب الأرض على ما اقترفته بحق (إسرائيل) وأموالها من آثام.
[1] رجاء جارودي، مرجع سابق، ص 152.
* إننا ننزه أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام عما اتهمهم به كتبة التوراة إلا أننا مضرين لسرد القصة كما جاءت في التوراة.
[2] جورجي كنعان “دكتور”، وثيقة الصهيونية في العهد القديم، الطبعة الأولى، ص 27.
[3] المرجع السابق، ص30.
[4] رجاء جارودي: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، مرجع سابق، ص245.
[5] عبد الرحمن غنيم، المرتكزات النفسية للفكرة الصهيونية، منشورات الطلائع، دمشق، الطبعة الأولى، 1973، ص25.
[6] إبراهيم العابد، دليل القضية الفلسطينية أسئلة وأجوبة، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، شباط (فبراير) 1969، (بلا رقم طبعة)، ص10.
[7] إسماعيل الكيلاني: الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي. المكتب الإسلامي-بيروت. الطبعة الثانية. 1415هـ-1994م، ص115.
[9] المرجع السابق، ص254.