أنفاق غزة والبطة العرجاء

د . واصف منصور
حدثني أحد الأصدقاء المختصين في الهندسة الصناعية وخاصة الصناعات العسكرية أنهم ومنذ أوائل سبعينا ت القرن الماضي كانوا يتوفرون على أجهزة تستطيع معرفة أن كان في القطع الفولاذية التي يستخدمونها أية فراغات مجهريه ( أي دقيقة وصغيرة جدا إلى الحد الذي لا تكتشفه الأجهزة العادية) , ذلك أن مثل هذه الفراغات مع طول الاستعمال وارتفاع درجات الحرارة قد تكبر وتتسع مما يؤدي إلى انفجارها وقتل مستخدميها وتدمير ما حولها .
            تذكرت هذه المعلومة وأنا أقرأ خبرا مضحكا يوم 12 يوليو(تموز)الحالي يقول بأن السلطات المصرية ( فرضت خلال الأيام الماضية مزيدا من الإجراءات ضد أنفاق التهريب , وأن قوات مصرية مدعومة بالكلاب المدربة ومعدات حديثة أجرت عمليات مسح وتمشيط واسعة في مناطق متفرقة على الجانب المصري من الحدود وعثرت على عدد من الأنفاق التي تربط قطاع غزة بالأراضي المصرية , ودمرتها).
            وقلت لنفسي انه إذا كان العلم الحديث ومنذ أربعين سنة استطاع أن يكتشف الفراغات المجهرية في قطع الفولاذ الصماء، فان الحديث عن عدم اكتشاف أكثر من ألف نفق يصل طول بعضها أكثر من كيلومتر وقطر تجويفها يصل أحيانا أكثر من مترين , حديث من هذا القبيل يدعو للسخرية ، ويدخل في باب استغباء الناس واستغلال عدم تعمق الناس العاديين في الأمور العلمية.
            فهذا العدد الهائل من الأنفاق في منطقة لا يصل طولها ثمانية كيلومترات, يمكن لأجهزة سبر الأغوار التقليدية اكتشافها أن لم نقل أن مراقبة عينية مجردة قادرة على اكتشافها. وقناعتي أن الإسرائيليين بما يتوفرون عليه من أجهزة رصد في طائراتها الحربية والعمودية يعرفون مواقعها تماما , إضافة إلى أن الطائرات الأمريكية التي تجوب سماء المنطقة باستمرار بما فيها طائرات الأواكس قادرة على تحديد مواقع هذه الأنفاق وتزويد الإسرائيليين والمصريين بما لديها من معلومات , مع قناعتي أيضا بان الأخوة المصريين يعرفون عبر أجهزتهم وخبرائهم وعملائهم يعرفون مواقع الأنفاق بكل دقة .
            فلماذا يتم الحديث عن الأنفاق وكأنها ألغازا أو أسرارا يصعب الوصول إلى معرفتها؟ ولماذا يغمض المصريون والإسرائيليون عيونهم عن هذه الأنفاق مع ادعائهم بأنهم لا يعرفون مواقعها؟ من المؤكد أن هناك أسبابا خاصة لدى المصريين وأسبابا أخرى لدى الإسرائيليين تجعلهم يتصرفون بهذا الشكل.
بالنسبة للجانب الإسرائيلي ، أثبتت العمليات العدوانية التي شنوها على قطاع غزة أنهم لا يريدون القضاء على حركة حماس وإنما إضعافها فقط ,أي جعلها في الوضعية التي يطلق عليها تهكما (البطة العرجاء), فإسرائيل ضربت بعضا من هذه الأنفاق وتركت الباقي . وهي لم تقتل أو تستهدف ( خلال هجومها الاخير ) سوى شخصيتين قياديتين من حماس (سعيد صيام و نزار الريان)وتركت الباقين وهي تعلم أماكن اختفائهم وخاصة داخل الأنفاق والمساجد. فإسرائيل هي المستفيد الأكبر مما تفعله حركة حماس , حيث تعطيها سياسات حماس الخاطئة مصداقية لما تقوله بأنه ليس هناك طرف فلسطيني يمكنه المشاركة في العملية السلمية , وأنه ليس هناك مسوغ لإقامة دولة للفلسطينيين ما داموا يقتلون بعضهم البعض , وتعطيهم مزيدا من الوقت لاستكمال بناء الجدار والمستوطنات , وتصغير قضية فلسطين لتصبح قضية شعب مشرد مسكين بدلا من كونه شعب مناضل له حقوق وطنية معترف بها دوليا .
من جهة أخرى ترى إسرائيل أن الإبقاء على هذه الأنفاق يساعد على بقاء واستمرار الحياة بالنسبة لأبناء قطاع غزة ، ذلك أن أبناء القطاع إذا وصلوا إلى حد الجوع أو الموت جوعا، فلن يبقى لديهم ما يخسرونه فسينفجرون ويفجرون الأرض تحت أقدام الإسرائيليين .
*          أما بالنسبة للأخوة في جمهورية مصر العربية ، فإنهم وأمام الهجمة الشعواء التي يتعرضون لها داخليا وعربيا وإقليميا ودوليا من أجل فتح المعابر بين مصر وقطاع غزة , فإنهم يتحدثون للوفود والمبعوثين_ بعيدا عن وسائل الإعلام _ بأنهم يدخلون إلى قطاع غزة كل احتياجاته عبر الأنفاق, سرا.
أضف إلى ذلك أن هناك منفعة مادية هامة جدا تجنيها مصر من استمرار فتح الأنفاق , حيث ذكرت عشرات التقارير أن أسواق مدينتي رفح والعريش المصريتين وهما مدينتان صغيرتا ن تعج بسلع مصرية الصنع بمئات ملايين الدولارات مهيأة للدخول إلى قطاع غزة عبر الأنفاق . وهناك منفعة مادية أخرى تتمثل في ما ذكرته بعض التقارير المنشورة في العديد من وسائل الإعلام من أن بوابات الأنفاق من الجهة المصرية يقف عليها من يأخذ إتاوته أو ضريبته , في حين يقف على البوابات الأخرى من الجهة الفلسطينية شيخ حمساوي يأخذ إتاوته أو ضريبته .
هذا دون إنكار الجانب الإنساني والقومي والديني لدى المسئولين المصريين من مختلف المراتب , الذي يجعلهم يعتبرون أن السماح بفتح واستعمال هذه الأنفاق أو غض الطرف عنها , واجب إنساني وقومي وديني.
إن الوضعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أقل ما يمكن أن توصف به أنها ( لا إنسانية). والمسئول الأساس عن هذه الوضعية هو الكيان الصهيوني. ولكن هذا لا يجعلنا ننسى مسؤولية قيادة حماس في قطاع غزة_ التي إضافة إلى ما ذكرناه آنفا _ تعطي مزيدا من المبررات للكيان الصهيوني لاستمرار حصاره لقطاع غزة وتجويعه.. هذه القيادة التي تسببت في استشهاد وجرح أكثر من ثمانية آلاف مواطن فلسطيني وتدمير كامل البنية التحتية لقطاع غزة وهدم أكثر من عشرين ألف منزل في العدوان الأخير , بحجة أنها لم تكن تقبل باستمرار الهدنة التي التزمت بها طواعية ستة أشهر . و ها هي الآن تطارد كل من لا يطبق الهدنة التي أعلنتها حماس من جانب واحد ودون مقابل.
من حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أن يبتكر مليون وسيلة ووسيلة لكسر الحصار الإسرائيلي. . و لكن ليس من حق المسيطرين على الأرض التي تحتوي على الأنفاق أن تتاجر بجوع الشعب الفلسطيني.
 
 
 
د . واصف منصور
الرباط في 14 يوليو (تموز) 2009           
Exit mobile version