أرشيف - غير مصنف
( كسر لحظات التوقع.. قراءة في ديوان ” الحياة في عطلتها” )
وجدان عبدالعزيز
بدءاَ كنت أخطو بين ثيل الروح الملتف في ساحات كتبي المفتوحة وكلما انتحب جوعي وأقض مضجع أوجاعي ، ألجأ إلى غنج القراءة وهي تكون أكثر دلالا في أروقة الشعر ، هذا لأنه الأكثر تنوعا في ألوان التعبير عن إرهاصات الإنسان وحدائق الروح لا سيما باستخدام المفارقات اللغوية ، لإثارة الانتباه وتحفيز التفكير والتأمل كما هو استخدام الصورة المجازية التي تعني الإحساس المرئي ، وحين التمعن فيها نجد أنفسنا وسط أحساسات أخرى هي ذوقية وسمعية وصوتية وشميّة حتى ، مما يجعلني أقف عند ( دي لويس ) وهو من أنصار النقد الجديد حيث يقول : ( القصيدة ما هي إلا صورة شعرية مركبة من مجموعة من الصور الشعرية الأخرى ) . بمعنى القصيدة مجموعة صور في تشكيل يكاد أن يكتمل في إيصال إحساس الشاعر إلى العالم المحيط به ، أي أن الشاعر ينفعل فينقل انفعالاته إلى الآخرين بلغة تختلف عما تواضع عليه في الاستعمالات اللغوية بمعنى أنها تنفتح في الشعر على ما جاورها من الفنون الأخرى لتكون أكثر جمالية للمقارنة ، لست أدري وأنا أتحدث عن أحساسات الشاعر المنقولة لنا عبر وسيلة الاتصال / اللغة / متى أقع على نافذة الدخول في افتراض استرداد المعنى في ديوان ( الحياة في عطلتها ) * للشاعرة هنادي جليل المالكي ويبدو أنها استثمرت العنونة بإشارات باثة على متن نصوص المجموعة وهي كما نوهنا احساسات منفعلة تجاه أوجه الحياة لتكوين رؤيا وموقف وتأثيث أسس العلاقة بين الشاعر والمحيط وفق هذه الرؤية ، وخلاصة القول أن الشعر طريقة تواصلية في تحريك الحياة وبعثها من جديد في التفسير والاستقبال تقول الشاعرة :
( أنظر إليه
وأنا في قفص …
……………….
وهو قريب مني … )
ثم
( وهو يحرث حديقته
يسقيهـا
يزرعها
بقمح كالجمرات . )
هذه طريقة كسرت بها الشاعرة لحظات التوقع وقلبت الحالة من حالة متوقعة إلى حالة غايرت في الابتعاد عن مسار التوقع ، فالحرث والزرع حالة مستقرة فيها اطمئنان ؛ سرعان ما تقلقل هذا الاطمئنان بالجمرات ثم تقول :
( أنظر إليه
وهو قريب مني )
و
( أنظر إليه وهو بعيد عني
أطلق عصافيري إليه
إلى كفيه
أنظر إليه وأنتظر )
هكذا تصنع بوابة للعبور المفترض لأنها تعيش مساحات من الخوف والحصار في أمكنته الضيقة ومن مقدمة قول الشاعرة :
( نعيش في غرفة واحدة بلا نوافذ
ولا سطح
ولا حبل غسيل . )
كلام يومي بيد أنها تكسر هذه الرتابة بقولهـا :
( قمصانه أنشرها على أغصان روحي )
هذا هو الشعر من كلام يومي إلى استفزاز للحواس بكلام يربو إلى الجمال ويصعد بالدهشة إلى ذروة الاستقبال والتلقي ، ثم أنها ربطت بين سقوط دمعتها براحة الحبيب وهي تعشوشب أخلاص وخصب إلى سقوط الخنزير نهاية فترة مظلمة هي رمز لخنق الحريات بما فيها خنق قصائد الحب المسجونة في الأدراج ، إذن هي خلقت توترا بين الخيال والواقع وظلت تفترض لحبيبها الطيران بين الظهور والاختفاء وهو يديم الحياة بالتوحد معها في كل إرهاصاتها ، لإيقاف عجلة تعطيل الحياة ، بهذا الألق من التوحد والاستمرار رغم المعاناة والويلات تتوحد مع الموقف برؤية واحدة هي ( أنت ـــ أنا ) ثم الربط الصادق بين فعل الحياة كمسرح للتحرك وبين الأعماق أي بين المرئي واللامرئي تقول الشاعرة :
( متى تنزل على سطحي
متى تهبط في أعماقي
لأعلق قلبي على ذراعك
أنا لن أنام ولن أكون
حتى تكون وتنام . )
رسمت سلسلة من الأسئلة كانت بمثابة معادلة نتيجتها النهائية الظاهرة هي الكينونة في ( عالم واحد ) بكل مفردات الحياة ثم النتيجة الخفية الأخرى هي ( أنا وأنت نكتظ بعالم خفي ) لتصل إلى القول ( أغطيك بزرقة السماء فيرفرف الصمت ) فحتى الصمت تحرك ليعاضد الشاعرة في رسم لوحة التوحد والتطابق لتوحيد الرؤيا والموقف باتجاه قولها :
( لنحطم ألم العالم )
( أدخل في عينيك
لأصل إليّ . )
( أُدخل من عيوني
أغتسل في روحي
طهر قلبك بناري
وإذا مت عش في أعماقي )
وهذا نفي مطلق لتعطيل الحياة في العنونة ، فهنادي المالكي تعمد لقلب الأمور والبحث عن مفردات المنطق الذي تبرر فيه افتراضاتها تقول :
( تتحول العين إلى صور
والنظرة إلى خيال
وكيف لو راقبت تحولات الشجرة
إلى قيثارات ؟ )
وهكذا النتيجة تكون ( أنا الشجرة ) ونهر الغراف يتحول إلى غابة في قلب المدينة ليكون رمزا لطهارة العلاقة ، ثم ركزت على الثنائية في طرحها لخلق إيقاع أكثر مع الحياة لعلها تصل في بوحها الشعري إلى القول :
( الذي يتحول في كل ليلة
إلى صياد
على كتفه قوسا واحدا
للموت والحياة )
ثم تقول :
( حدثني كيف يتحكم بالعالم ؟
من أمام نافذته
مادام معه في السرير
امرأة وقوس )
جاعلة من السرير رمزا لشرعية العلاقة النقية المثمرة ثم أن هناك رابط آخر مثل لها حالة تجلي وذوبان بقولهـا :
( نحن الاثنين نعطي
واحدنا للآخر
جذور قلوبنا متشابكة
في جرف نهر بعيد
نحن الاثنين في كتاب واحد )
حتى الوصول إلى الكتاب الواحد في التنسيق والترتيب ، ليكون مرآة للصدق ، ثم أنها حاولت جادة في طريق التوحد والاندماج ، أن لا توجد عطلة أو تعطيل في حركة الأشياء المتصاعدة إستنادا لقولها :
( فراشة حياة ترفرف في عطلتها
رأيتك وسمعتك ولمستك
فصرت حامل المصباح لي
أطوف حولك
كنت نفسي )
فهذا النص يؤكد حركة متصاعدة لا يوجد هنا سكون أي لا يوجد تعطيل للحركة ( الرفرفة ، الرؤية ، اللمس ، حمل المصباح والطوفان حول الحبيب … ) .
بعد ذلك تقول :
( يقذف بذرته في ليلة الأربعاء
تطوف في فضاء حفرتي
وقد سقاها بماء قدرته المذهلة )
وهنا ربط بين البذرة والسقي بطريقة ذكية تجر المتلقي إلى لذة الكلمة الأدبية ، وهذا الربط يبيّن إدامة النسل وإدامة الفكرة والموقف والرؤيـة من الحياة تقول :
( وفكرة تشكل أخرى
روحي فكرتي عنه )
فهي فلسفة الشاعرة الخاصة من الحياة ، من الجمال في لذة الحرث والبذرة ونمو وتصاعد وتائر الحياة … حتى أنها في تصاعد حالة التوتر والانفعال لعيشها الحياة بحساسية صادقة و لا تعطل حساسيتها الاجتماعية والموضوعية رغم أنها تعيش حالات اللاوعي في أحيان كثيرة ولاسيما مع أمور أكثر التصاقا بذاتها هي ، لذا تقول :
( منحوه الإرادة
والسيوف والخيول
والنياشين والديناميت
منحوه العطش للدم
والجوع للحم البشــر
………………….
قالوا له :
في حربك الأولى
تنتصر في قتل ربع البلاد
في حربك الثانية
تنتصر في قتل الربع الثاني
في حربك الثالثة
سنقتل لك الربع الثالث )
وهذا خروج من الذات إلى الأنا الموضوعية ، فهي إنسان عاش ويلات الحروب ودمارها المفسد أي معاناة الحالات الاستثنائية الجارية في محيطها الأوسع / البلاد / ورغم أنها في أحضان البلد والحبيب إلا أنها تعيش الغربة التي تجلت في :
( الأسماء الغريبة على اللسان
كحراس غرباء
على مصاطب الحدائق )
حتى :
( الحب في بلادنا معجزة )
لكثرة ما لطخ وجه الحياة من دماء وخوف وقتل ومحاولات تعطيل حركة الحياة . بعد ذلك يتعالى صراخها الموضوعي وسط لهجات ممجوجة لم يألفها العراقي سابقا لأنه مسكون بالحب والجمال لذا تقول :
( الأكاذيب والخداع
أسنان الأشباح
القتال على الكراسي
اللهجات الطائفية
الجثث المجهولة
الهوية . الذبح
السيّاف . الأقنعة
القتل . التفخيخ )
وهكذا انفعلت الشاعرة بوعي لأنها قارنت مع وضعيين كي تثبت أن الحياة رغم هذا لا تتعطل … حتى مع تكتكات الساعة التاسعة ليلا في بغداد ومحاولة تعطيل الحياة فيها إلا أن هناك أشياء استثنائية في شوارعها وسمائها كانت بمثابة ألحان حزن وحسرة تجتاح ذات الشاعرة ثم تعكف على أعادة الحياة بالتناص مع قصة سفينة نوح تقول :
( أثنين / أثنين متعانقين
للسفينة في وطن الطوفان )
وتستمر في البحث عن المخرج لأن :
( مرمرك مصقول
ويداك مبسوطتان
ورأسك منذور لحياتي
لاؤك نعم معي
اذ تنطقها …
أعرف القصد . )
لأن :
( في طرقات بغداد
إذا كنت تراقب رؤوس البيوت
تصطدم بعينيك سبع عيون زرقاء )
وكأنها تشير إلى الحسد الذي أصاب مدينة العشق واللقاءات ، لترسم لوحة الألوان في سماء وطرقات بغداد ثم تقول ( ينهمر من قلبك المطر ) لتتألق الشاعرة هنادي في الإمساك بالحبيب لأنه معادل موضوعي للحب والحياة ، فالحب كالمطر يغسل القلوب ويغسل البلاد من دنس الكره والعداوات لتهمس :
( أمريكـا
صدمتي بك عميقة
عاداتك قديمة
تصنعين القاتل
وتأتين لقتله )
وهو عتاب للعالم الحر وحرقة بيأس وإحباط موجه لأمريكا باعتبارها الرقم واحد في دعوة الحرية وتحرر الإنسان ، لذا ظلت أسئلة الشاعرة هي بمثابة صدمة عميقة الغور تكشف حالة قلب الصورة ، لكن اللازمة التي تثبت لنا أن الشاعرة عطلت العنونة وراحت تتمسك بالحبيب معادلتها الموضوعية في تمسكها بالبلاد ، فهل وصلنا بالافتراض إلى استرداد المعنى المتوالد عبر صور مجازية في الديوان وقد لا نصل إلى اكتمال المعنى سوى تبريرات أوجدتها عدة قراءات تثبت بلا أدنى شك أنها تحتاج لقراءة وقراءة .
* ) نشرت معظم قصائد الديوان(الحياة في عطلتها) للشاعرة هنادي جليل المالكي في الصحف العراقية وعلى الشبكة العالمية .