أرشيف - غير مصنف
الابداع والعلمانية فى عهد عبد الناصر
فرانسوا باسيلي
فى عام 1962م قال عبد الناصر لزائر اجنبى ان ويلتون واينى ( مراسل مجلة التايم الامريكية فى الشرق الاوسط وقتها ) يفهمنى ” .. وقد قام الزائر بنقل الرسالة الى ويلتون واينى الذى اعتبرها اعظم شهادة يمكن ان يمنحها عبد الناصر لصحفى .. وكان مراسل التايم قد نشر دراسة فى عام 59م عنوانها : ” ناصر مصر : البحث عن الكرامة ” .. لقد وافق عبد الناصر اذن على تحليل واين له والذى توصل فيه ان القوة الذاتية المحركة لعبد الناصر هى بحثه الحثيث عن الكرامة … له ولوطنه ..
وعلى اثر وفاة عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970م ، ذهب ويلتون واين مرة آخرى الى القاهرة ليغطى الحدث الجلل لمجلة التايم ، وفى العدد الذى حمل صورة عبد الناصر وعنوانه ” العالم العربى بعد ناصر ” ( 12 اكتوبر 1970م ) كتب واين فى ايجاز شديد يلخص مايمثله عبد الناصر فى كلمة بعنوان ” من صبى القرية الى بطل المرحلة ” ويقول فى مقطع منها :
” لقد جسد ناصر البحث عن الكرامة على طول العالم الافريقى الآسيوى ، لقد صعد من الطبقة الشعبية ، من طمى وادى النيل ، وكان مصمما على ان يمنح قومه فرصة الشعور بالعزة والفخر بكونهم مصريين وليس كما كان يفعل علية القوم من البشاوات وقتها صورا ممسوخة تحاول تقليد الفرنسيين او اى اجانب آخرين ” .
ويكمل واين قائلا: ” يجب على ان اقول بلا خجل اننى قد اعجبت بناصر وملت اليه اكثر بكثير من اى شخصية عامة عرفتها فى حياتى الصحفية .. وبالرغم من أنه كان قد يبدو للبعض ديماجوجيا مثيرا للعامة فى خطبه ، إلا انه فى أحاديثه الخاصة كلن دائما نموذجا صافيا للإخلاص والتعقل ” هكذا رآه الصحفى الامريكى الشهير.
كان البحث عن الكرامة للانسان المصرى هو دافع عبد الناصر لتحقيق الجلاء ، ولبناء السد العالى الذى كان مشروعا اقتصاديا ونفسيا فى نفس الوقت .. يحمل من قوة الرمز والدلالة على القدرة والتصميم والإرادة المصرية المصممة على البناء بقدر مايحمل من فوائد زراعية وصناعية لشعب مصر ، وكان لهذا التصميم الحميم على طرد الاجنبى وتحرير البلاد من العبودية الخارجية والداخلية والعزم على البناء الاقتصادى .. كان لهذا فعل السحر فى اعين الملايين من المتابعين لتجربة مصر ، مانحة لهم القدوة التى اولدت فى انفسهم الثقة فى امكانية تحقيق الحلم ، فراحوا ينتفضون على مدى القارتين فى حركة استيقاظ بالغة الإثارة .
الثورة الإجتماعية
ولأن عبد الناصر كان يبحث عن الكرامة التى طال إهدارها ولم يكن مجرد ضابط يريد الوصول الى السلطة عن طريق إنقلاب مسلح ، نجده لم يهنأ ويسترح بوصوله الى مركز رئيس الجمهورية فى 54م .. وبتوقيع الانجليز على معاهدة الجلاء فى نفس العام .. وإنما نجده يبدأ على الفور فى اتخاذ خطوات تحدث فى مصر ثورة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفنية هائلة .. ويحدث هذا كله فى سرعة وتسلسل مذهل ليس له مثيل فى اية فتره آخرى فى تاريخ مصر والمنطقة منذ عصر محمد على . ويكفى كدلالة سريعة على ماأقول تذكر ان الانقلاب العسكرى قام يوم 23 يوليه 52م ، وان الجلاء تم بعد هذا بعامين فقط ، وان التخطيط لبناء السد العالى وطلب التمويل الدولى كان مواكبا لهذا الى قرار تأميم القناة بعد رفض التمويل الدولى عام 56م ، والعدوان الثلاثى فى نفس العام وانسحاب الدول المعتدية فى مطلع العام التالى 57م .. وتحقيق الوحدة مع سوريا فى 58م ، مرورا بتأسيس حركة دول عدم الانحياز ، ودول التضامن الاسيوى الافريقى فى نفس هذه السنوات القليلة .
اى ان عبد الناصر حقق الوحدة العربية بعد أربع سنوات فقط من رئاسته لجمهورية مصر وتحريرها من الانجليز .. ولاشك ان هذا انجاز مذهل بأى وكافة المقاييس . و صاحب هذا كله عدد من الانجازات الجانبية على مستوى العالم العربى والعالم كله .. من دور مصر فى تأييد ثورة الجزائر الى صراعها واسقاطها لمحاولات الغرب جر المنطقة الى نفوذ فى شبكة من الاحلاف التى لم تفلح جميعها لان عبد الناصر هاجمها بضراوة ..
ولو ان عبد الناصر اكتفى بهذه التحولات والانجازات السياسية الهائلة على مستوى العالم لكان انجازه ودوره عظيما بلاشك ، ولكنه أضاف الى هذه الانجازات السياسية الخارجية الكبيرة صنعه لتحولات هائلة بالداخل ، حيث احدث ثورة اجتماعية لم يعرف الشعب المصرى لها مثيلا منذ الفين وخمسمائة عام .
ولم يكن تحديد ملكية الاراضى الزراعية بمائتى فدان وتوزيع مايزيد على الفلاحين المعدومين هو المحرك الاساسى لهذه التحولات الاجتماعية ، وقد وصف هذا بالاصلاح الزراعى والقضاء على الاقطاع ، ونزع الملكية عنوة هو امر غير قانونى وغير اخلاقى فى نفس الوقت ، وإذا كان تبرير ناصر والثورة ان هذه الملكية آلت الى البشاوات واصحاب الاراضى بطرق غير مشروعة وبتأثير النفوذ الملكى والاجنبى ، فقد كان من الاسلم اللجوء الى القضاء والتحقيقات المدنية للتأكد من مشروعية كل ملكية على أسس فردية ، فلاشك ان بعض أصحاب الأراضى كانوا من المصريين النشطاء العاملين فى المجالين الزراعى والتجارى .كما كان بعضهم ممن امتلك هذه الاقطاعيات زورا وعدوانا . ولم يكن من العدل المساواة بين الاثنين حتى لو كان صحيحا ان محمد على نزع ملكية الفلاحين ومنح اراضيهم للباشوات من الاتراك.
لكن الثورة الاجتماعية التى شهدتها مصر منذ بداية الثورة وحتى هزيمة 67م كانت لها ابعاد وجوانب اخرى متعددة … ولاشك ان مشروعات كهربة الريف وبناء المدارس وفتح الجامعات وانشاء المصانع وبناء المساكن الشعبية والطرق فى كافة انحاء مصر ، مع الاهتمام بالاعلام والصحف والمجلات والاذاعة وادخال التلفزيون .. لاشك ان هذه كلها ساعدت وكانت مكملة للتحولات الاجتماعية الهائلة التى بدأت تحدث فى مصر وقتها .. فلاشك ان نبرة المساواة والعزة والكرامة قد بدأت تأخذ مجراها فى عقول وقلوب الجميع تدريجياً.. ولم يعد الفلاح هو ذلك الانسان الذليل المهمل ” عبدالمأمور ” الذى يولد ويموت على ارض صاحب العزبة او الاقطاعية .. بل أصبح يرسل اولاده وبناته الى المدارس الحكومية التى فتحت ابوابها فى القرى والنجوع .. فرأينا جيلا جديدا من الاولاد والبنات المتعلمين .. وراح الكثيرون منهم ينزحون الى القاهرة والاسكندرية ثم اسيوط وبنها لدخول الجامعات .. وبدأت البنات ” الخدامات” اللائى كن يحضرن من القرى للعمل فى بيوت عائلات الطبقة العليا والوسطى بالقاهرة والاسكندرية يرفضن الحضور لهذا العمل الذى كان مهينا بالفعل وغير انسانى بالمرة ، إذ كان أقرب الى نظام العبودية حيث كانت الفتاة تؤخذ من بيت ابيها وامها واخوتها ربما وهى تحت العاشرة وتسكن مع عائلة “أسيادها” بالقاهرة .. تعمل لديهم من الفجر للمساء بلا تعليم ولامستقبل .. وتحولت “الخدامة” تدريجيا الى “شغالة” مع تحسن كبير فى المرتب واوقات العمل واسلوب المعاملة .. ان هذا مثال واحد ولكنه مثال دال فى حد ذاته على التحولات الاجتماعية الكبيرة والعميقة التى احدثتها الثورة ..
الثورة الفنية الابداعية
لقد أججت الثورة روح أكبر وأجمل حركة ثقافية فنية إبداعية عرفتها مصر منذ ان خمد لهيب الحضارة المصرية القديمة منذ اكثر من ثلاثة الاف عام … بالطبع يمكنك ان تقول انه قبل الثورة كان يوجد طه حسين والحكيم والعقاد وعبد الوهاب وام كلثوم .. نعم ولكن هؤلاء أنفسهم إستمروا فى الابداع مع الثورة ، وبعضهم أبدع أعظم أعماله فى عصر الثورة ، كما فعل عبد الوهاب وأم كلثوم .. ولكن الثورة أطلقت روحا ابداعية عظيمة فى مصر كيفا وكما معا .. فظهر عدد كبير من المبدعين فى كافة المجالات .. فى الموسيقى والاغنية التى استمر يبدع فيها السنباطى ولكن ظهر ليثرى ويشغف الاذن العربية موسيقيون جدد مثل كمال الطويل والموجى ومنير مراد وبليغ حمدى وسيد مكاوى.. وراح يغنى لهم عبد الحليم حافظ اغنيات عاطفية ساعدت على الاسراع فى إيقاع التحول الاجتماعى والتحرر فى تقاليد العلاقات بين الجنسين ، فلم يعد مقبولا بعد الحليم وأغنياته الجريئة عن الحب ان تتزوج الفتاة المصرية بدون موافقتها واعجابها ورضاها بالعريس
كما قد لاأبلغ عندما اقول ان فنانا مثل صلاح جاهين كان يشكل بمفرده حركة ابداعية فنية متكاملة شاملة ، من كلمات فى اناشيده الوطنية كانت هى المعبر الاصدق عن مشاعر الشعب المصرى الى اشعار بالعامية تضارع فى فلسفتها وعمقها الفكرى والجمالى اعظم الاشعار بالعربية الفصحى ، الى رسومه الكاريكاتورية اليومية فى الاهرام التى كانت تغنى كل منها عن مقالة سياسية او اجتماعية كاملة . الى اوبريتاته الشعبية التى كانت على كل لسان مثل ” الليلة الكبيرة” .
أما الحركه الثقافية والادبية فقد كانت فى ازهى عصورها ، فالرواية على يد نجيب محفوظ تفتح فضائات متجددة من ” اولاد حارتنا” الى ” اللص والكلاب” الى ” ميرامار” .. والمسرح يتألق بعدد كبير من أجمل مبدعيه، من الحكيم ويوسف ادريس الى سعد الدين وهبه ونعمان عاشور والفريد فرج وغيرهم .. والشعر الجديد يقدم لنا روائع مثل “أحلام الفارس القديم” .. ولويس عوض وغالى شكرى ورجاء النقاش يقودون معارك نقدية وادبية حامية ومثيرة .. ومجلة شابة فنية مثل ” صباح الخير” تساهم فى فتح عقول وقلوب جيل كامل من الشباب المتوثب المتطلع للحياة .. والسينما المصرية فى اوج تألقها تحول روايات نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس الى افلام ناجحة فنيا وجماهيريا .. وتظهر فرقة رضا وبعدها الفرقة القومية للفنون الشعبية ليصبح الرقص فنا راقيا محترما مرة أخرى فى مصر منذ اندثاره مع الفراعنة ..
ان الظاهرة الابداعية التى بدأت فى الخمسينات وبلغت اوجها فى الستينات ، هى ظاهرة تستحق دراسة منفصلة .. لكن من المهم هنا أن نقول أن هذه الصحوة كانت مرتبطة بالثورة وبعبد الناصر ، وماكانت لتحدث لولا الثورة الاجتماعية التى كانت تواكبها وتغذيها ، ولولا ان عبد الناصر نفسه كان شغوفا بالثقافة والأدب والفكر والفن .. ولاشك ان هذه الاهتمام اللافت بالثقافة بشكل عام من قائد الثورة نفسه هو امر فريد لاتجده الا نادرا فى الزعماء الكبار ، وخاصة الثوار منهم .. ولانجد له مثيلاً فى البلاد العربية او فى مصر فى العهد الحديث … وتدخل فى هذا الاطار ايضاً تلك العلاقة الفريدة المميزة بين عبد الناصر وكاتب صحفى مفكر فى ثقل محمد حسنين هيكل.
ان دور عبد الناصر فى خلق المناخ الملائم لظهورهذه الحركة الابداعية الثقافية هو دور لاشك فيه ، وليس مصادفة ان حدثت فى عهده النهضة الثقافية الفنية الكبرى .. ولكنها نتيجة تفاعل مع شخصية البطل القومى ومع دراما الحلم التى يمثلها هذا البطل والتى توقظ فى من له موهبة الرغبة فى التوهج والتحليق .
وللذين يقولون ان هذه التطورات الاجتماعية والثقافية كان مقدرا لها ان تحدث كأمر من طبيعة الاشياء حتى لو لم تقم الثورة وحتى تحت الحكم الملكى .. لهؤلاء اقول ان هذا حكم متعسف يرفض الاعتراف بالشمس رغم سطوعها فى وضح النهار .. فالتطور الاجتماعى او الفنى ليس امرا مفروغا منه ينتظر ان يحدث طبيعيا مع الزمن .. ولنا ان ننظر الى ما اصاب الثقافة المصرية والفن المصرى فى الثلاثين عاما الآخيرة .. فيكاد يجمع كتاب مصر ومثقفوها على ان الفن والثقافة والاعلام فى مصر حاليا فى أسوأ حالاتهم.. الثورة وحدها اذن هى صاحبة الفضل فى اطلاق تلك الحركة الفنية والثقافية العريضة والعميقة وليس الصدفة التاريخية ولاالتطور الطبيعى..
العلمانية
ومن مآثر الوضع الاجتماعى المتحرر والمتقدم الذى صنعته الثورة ان مصر على مدى عهد الثورة كله لم تتلفح فى وشاح الدين ولارفع احد الدين كشعار سياسى ولاكان للجماعات السياسية المتأسلمة صوت او نفوذ . ليس معنى هذا ان عبد الناصر لم يكن مسلما خالصا يمارس صحيح الدين .. بالعكس .. ان حياة عبد الناصر وتصرفاته الشخصية هى اقرب الى صحيح الدين فى ابتعادها عن اللهث وراء الاموال والمظاهر المادية من ملبس وشراب ومسكن وفخامة وابتذال من تصرفات اخرين قد يتشدقون بالدين ولايعيشونه .. وقد كتب فضيلة الشيخ الباقورى شيخ الازهر وقتها انه كان مع عبد الناصر فى مؤتمر باندونج بأندونيسيا فى شهر رمضان ، وانه حين اشار على عبد الناصر بان السفر والجهد المبذول فى المؤتمر يسمح لهم بالافطار وان هذا مقبول شرعا رفض عبد الناصر ان يفطر واصر على الصيام رغم المجهود الهائل الذى كان يقوم به فى المؤتمر .. ومع هذا فلم يحاول عبد الناصر ان يستخدم اسلامه وتدينه فى اى اغراض سياسية ، وكان عهد الثورة الذى نشأت فيه وقتها بالمدارس والجامعة كقبطى ، عهدا لم ينظر فيه احد ، ولاأعلن فيه احد فى التلفزيون او من على منبر المساجد ، ان الاقباط المسيحيين كفار .. كما حدث بعد ذلك بشكل متزايد فى عهد السادات .. ولم تقع فيه اى حوادث عنف واراقة دماء ضد الاقباط – كما حدث فى رئاسة الرئيس “المؤمن” محمد انور السادات- و منذ حرق كنيسة الخانكة عام 72م ، والى احداث الكشح المروعة فى مطلع الالفية.. نجحت الثورة اذن فى تأمين السلام الاجتماعى والامن والنسيج الداخلى الى ابلغ حد ، وعمل كافة المصريين معا فى الحرب والسلام يدا واحدة ، كما كانوا أيام سعد زغلول وثورة 19م .. ولكن هذا الانجاز الاجتماعى الهام بدأ مثل معظم الانجازات الاخرى الاجتماعية والثقافية والفنية على الاخص – فى التدهور والانهيار من لحظة رحيل عبد الناصر . ويثبت هذا مرة اخرى ان التقدم الاجتماعى والنهضة الثقافية والفنية كانت من صنع عبد الناصر ، ومن احدى سمات الناصرية المميزة والفريدة .
فلننظر الى الاهتمامات الشخصية لعبد الناصر بالادب والفكر منذ بداية ترعرعه .. فنجد ان قراءاته فى المرحلة الثانوية قد شملت “عودة الروح لتوفيق الحكيم “والأيام” لطه حسين وسير حياة صناع التاريخ من عمر بن الخطاب ومحمد على الى نابليون وبسمارك وفولتير .. وفى صورة من صفحة من مجلة “مدارس النهضة المصرية” عام 1934م تقرأ اسم جمال عبد الناصر فى قائمة المحررين لمجلة المدرسة التى حصل منها على ” البكالوريا – أدبى” عام 36م .. وفى هذه المجلة نشر عبد الناصر – الطالب ذو الستة عشر عاما – مقالا بعنوان “فولتير – نجم الحرية فى سماء القرن الـ 18 ” .. كما تشى رسائل عبد الناصر الخاصة الى اصدقائه وخلال تكوينه حركة الضباط الاحرار بوعيه الفكرى والسياسى الناضج والمتمرد على الاوضاع المذلة لوطنه وابناء امته .. ان دارسى فن القيادة والزعامة يعرفون ان شخصية القائد واسلوبه وفكره واهتماماته لها تأثير كبير على اتباعه سواء كان ذلك على مستوى مؤسسة صغيرة او كبيرة او على مستوى امة كاملة .. ولهذا لم يكن غريبا ان تحدث فى عهد عبد الناصر المهتم بالادب والفكر والفن أعظم نهضة ثقافية فى مصر منذ قرون عديدة .. وقد أنشأ عبد الناصر “عيد العلم” لتكريم العلماء والادباء والفنانين. وفى ديسمبر 1958 اقيم اول عيد ، وكانت اول جائزة تقديرية من عبد الناصر هى لعميد الادب العربى دكتور طه حسين – تبعه عباس العقاد عام 59م ، ثم توفيق الحكيم عام 60م تقديرا من عبد الناصر للكاتب الذى اثر فيه بكتابه “عودة الروح” .. ومن الطريف ان توفيق الحكيم هو الذى كتب بعد هزيمة 67م عن “غيبة الوعى” يبرر فيه انسياقه مع غيره من المثقفين وراء سحر الثورة .. وهو عذر أقبح من ذنب ، فما معنى ان يعتذر مفكر مثقف بفقدانه الوعى على مدى سنوات طويلة رغم انه – كمفكر – لاعمل ولاهم له سوى التأمل والتفكير والوعى ؟!
أما علاقة عبد الناصر الحميمة برموز الفن المصرى الاصيل فى عهده ، ام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ، فكانت علاقة فريدة ، وقد كان تقليدا وطنيا جميلا ان يقدم عبد الحليم اغنية وطنية مميزة فى كل عيد ثورة ، يغنيها وعبد الناصر يستمع له فى الصف الاول .. وكانت هذه الاغنية تعد حدثا فنيا كبيرا .. استمعنا منها الى اعمال فنية متكاملة ومميزة فى الكلمة واللحن والاداء ، منها ما تضمن تلخيصا لتاريخ مصر الوطنى ، مثل اغنية “ذكريات” .. ومنها ما كان يلهب المشاعر مثل ” يا أهلا بالمعارك” …أما عبد الوهاب فقد كان ينشد للثورة منذ اول حملاتها العامة لتسليح الجيش .. عندما أنشد “زود جيش اوطانك .. واتبرع لسلاحه” وقد كان ذلك زمنا يحاول فيه القائد مع الشعب تمويل جيشهم من اموالهم الخاصة او من محصول القطن . وهكذا كانت مشاعر العزة والكرامة والاستقلال هى المحركة لكافة المواقف والمشروعات والمبادرات …
ويقال ان عبد الوهاب وام كلثوم لم يجتمعا فى اول عمل فنى لهما – انت عمرى – الا استجابة لرغبة عبد الناصر. ومما يزيد ان ام كلثوم هى الوحيدة التى كرمها عبد الناصر مرتين : بوسام الدولة للفنون عام 65م . ثم بجائزة الدولة التقديرية عام 68م .. وعندما فجعها نبأ وفاة عبد الناصر وهى فى موسكو فى رحلة فنية فى سبتمبر 1970 م قطعت رحلتها عائدة الى مصر حيث لزمت غرفتها فى فترة حزن طويلة ، والغت موسمها الغنائى لعام 70-71 م .
ليس غريبا اذن ان تظل بقلوب المثقفين – حتى من دخل منهم سجون عبد الناصر – حسرة مريرة وهم يعايشون بعده زمنا ساد فيه فقر ثقافى مدقع وتراجعت فيه كافة مظاهر الفن والادب فى مصر تراجعا موجعا هو هزيمة حضارية لاتليق بمصر الحضارة ، كان سببها هو التنكر لروح ثورة يوليو والتسربل بالاردية الدينية السلفية الوهابية المصدر . فمع مثل هذا التوجه تخمد كل حركة ثقافية وفنية وابداعية ، وهو حالنا عبر ثلث القرن الأخير .
كاتب من مصر يقيم في نيويورك