أرشيف - غير مصنف
((أعطني الناي وغني))
بقلم حسين حرفوش
غالِيَتي .. أثارني توقيعك الجديد ..عقب رسائلك الالكترونية فهو هذه المرة من أبيات جبران ..والتي كتب لها البقاء بغناء فيروز لها بصوتها القادم من أودية السحر وينابيع الجمال.. وأثارني أكثر اختيارك لقوله
(( زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى
أعطني الناي وغني وانسى داء ودواء)) ..
ولا أدري لم قلقت عليك فعهدي بك متفائلة.. تملكين روحا تشع علينا فرحا وتمطرنا سرورا ..رغم ما في الحياة ..فقلت لابد من المشاغبة الفكرية معها .. علنا نخرج من اتجاه لاتجاه ..
يقول جبران:
أعطني الناي وغني فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل تخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمراً فى كؤوس من أثير
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب
هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضاء
زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى
أعطني الناي وغني وانسى داء ودواء
إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء
والشاعر جبران خليل جبران ينتمى الى مدرسة المهجر الشعرية
ودعيني أناقشك فأبدو معترضا.. لاتنزعجي .. ليس على شكل الكلام وأسلوب نظمه ..فهو في منتهى الروعة والرومانسية التي جعلت الشاعر يأخذ من الطبيعة ملاذا وملجأ لقلب أثقلته هموم واقعه ..وروح عذبتها الحياة ..فوجد راحته في تلك المشاهد الرائعة وراح وكأنه يظهر تميزه ليثير فينا غريزة المنافسة وطبيعة الغيرة .. بهل .. وهل .. وكأنه يفتخربما فعل ..ويرجو أن نفعل مثله في آن .. فنستمتع بالطبيعة على شاطئ النغم العذب مع رفيق يوافقنا في طبعه وميول قلبه .. فنجد الشاعر يختار الناي لما في صوته من الشجن المثير .. وراح يطلب من صديقه الغناء.. فاجتمعت مصادرالمتعة :طبيعة جميلة ..رفيق موافق ..
والنص يرجع الى مدرسة المهجر التي تمثلت فيها النزعة الروماسية..وتجلت تلك النزعة في اتخاذ الطبيعة ملجأ وملاذا آمنا يجد فيه الشاعر راحته ..ويبثه حنينه وشجونه ونجواه ..فجميع الصور ماتعة ..رائعة ..في لغة تسبح في خيال بديع عذب ..يجعلك تشعرين بجمال الفجر ونسيمه وروعة العطر وسحر النور وتتعجبين من تلك العناقيد.. التي تشع ..كثريات الذهب
@ ولكن المعنى لا أدري لم يرق لي منذ زمن بعيد ..و كنت كثيرا ما أعترض عليه ولا يتعدى اعتراضي حدود ذاتي ودخيلة نفسي..خوفا ممن أتحدث عنه فهو جبران ..وأنا ..من أنا ؟! أمامه وبجواره ..أنا والكثيرون غيري ..وأمثالي أقزام أمام هذا العملاق في الأدب شعرا ونثرا .. ..وكذلك خوفا من محبيه وهم كثر وأولهم نفسي التي بين جنبي .. ولكن لعلمي بأنك ممن يتميزون برقة الطبع فلن تجرحيني .. .. وتتميزين بسعة الفكر فستقبلين رأيي وتناقشينني فيه .. وتتميزين برقيق المجاملة فلن تكوني قاسية علىَّ ..وما عهدتك أبدا قاسية .. ..وتتميزين بكتمان السر لذا لك فقط سأبوح ..
أما سر اعتراضي أيها الملاك الجميل الطاهر ..هو وقوف الشاعر عند حدود المتعة والتمتع بالمظهر الذي رأى ..ثم يدعو بعد ذلك إلى عدم التفكير في الآتي ..أو الماضي .. لأنه والبشر كلهم لا أثر .. فهم سطور مكتوبة بماء على ماء ! ( قد تقولين ألا يكفي أن يكون التمتع هدفا في حد ذاته ..وهل يذهب الناس للشاطئ أو في سفر بعيد إلا لتحقيق متعة؟!) أجيبك يا غاليتي فأقول : أجل ..ولكن هي وسيلة في حياة الناس وليست هدفا محضا ..وهكذا خلق الله المتعة والتلذذ بها ..وأعطيك بعض الأمثلة ..ثم نعكسها ( فبضدها تتميز الأشياء كما يُقال )
فأطايب الطعام متعة ..ولكنها وسيلة لكي يحفظ الانسان بها بدنه وإلا فلا .. لذا لن نوافق على من يجعل الطعام والشراب لمجرد المتعة ..لأنه لو سلّمنا بهذا ..لأصبح لمن يتناول المخدرات عذر.. فهو يستمتع .. !! والقرب من الحبيب متعة ..ولكنه وسيلة لراحة الروح والنفس والأنس به وبوجوده أنيسا في ظلام الدروب.. ورحلة الحياة ..وإلا لو كانت المتعة محصورة في مجرد مظهر المتعة الذي يتحقق برغبة وشهوة .. فهو لن يتحمل ما يعتري الحبيب من تغير تحت وطأة حلول مرض أو مظاهر تقدم في العمر
وحتى النظر الى ما في الطبيعة من مظاهر الجمال متعة .. ولكنه وسيلة لشحذ همة الروحة واستعادة لياقة البدن وتعافيه من عناء أيامه ولياليه ..ليعود الانسان بهمة .. لأداء ما الكثير من المطالب المهمة .. وإلا فماذا سيحدث لو حل الخريف فسقطت الأوراق عن الشجر..وجاء الشتاء فتغير المنظر..
إن الوقوف بما في الحياة عند حدود المتعة والتمتع .. لهو مبدأ مادي خطير ..لأن الأشياء التي نتمتع بها ليست ثابتة على الدوام .. بل هي متغيرة .. وأعيد فأقول فإن كان التمتع فقط هو الغاية .. فماذ نفعل لو تغير وجه الحبيب الجميل الذي كان مجرد النظر له متعة تحت معالم مرض أو سن .. ( بتلك النظرة لابد من تركه والبحث عن آخر جميل ).. إن تلك النظرة أراها سلبية .. وتتأكد حين تصلين إلى نهاية القصيدة ..التي تؤكد العدمية فلا أثر ولا وجود فالناس لاأثر لهم ..ولا وجود باق ..لأنهم سطور ..ويالروعة الخيال وحدته وقسوته ! فهم سطور مكتوبة بالماء على الماء .. كيف؟! ألم تمتد حياة الإنسان وتبقى في أثره وآثاره ..؟! فمثلا أرى طيفك في كلماتك وأنت تقدمين لنا روعة الفكرة على طبق من جميل اللفظ ورائق الخيال .. لذا أقول إن تلك السلبية ..وذلك الانسحاب من الحياة ..التي ذكرتها ( ورغم أنها من خصائص الرومانسية الزائدة في شخصية الشاعر ومدرسته التي نعلمها ) إلا أنني أعترض على ذلك الزهد في الآتي ..ونسيان الماضي ..
( زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى )( أعطني الناي وغني وانسى داء ودواء)
يكون فقط لمن لديه حالة يأس وانسحاب من الحياة ولا يريد لها علاجا …!!! فالاستلقاء على طري العشب والتَّلَحُف بصفاء السماء ..والزهد في المستقبل.. ونسيان الماضي .. ونسيان الداء والدواء .. والعيش هكذا .. ( نقبله للحظة ) ولكن نرفضه إذا كان منهج حياة..يدعو إلى انسحاب وسلبية ( قد تقولين : لقد وجد مخرجا ..وجعل هذا ” ليلا” .. أي مرة من المرات في ليلة من الليالي !) ..لكن أقول.. أعترض أيضا حتى ولو للحظة ..فأجمل ما في الحياة أن يعيش الإنسان جمال اللحظة التي يحياها ..فينظر ويستمتع فيتأمل .. ويعتبرو يتأثر فيغني .. وبهذا يعيش اللحظة بحلوها ومرها وتعيش اللحظة فيه
فمن حزن الى فرح ومن يأس الى تفاؤل .. وهكذا دوالَيْك..وتسير عجلة اللحظات في تصاعد مفرحٍ مُغْـرٍ … وربما يكون العكس ..لكن هكذا الدنيا ..وهكذا حالها …ومهما يكن من أمر فستبقى كلمات الأديب العالمي جبران .. نثرا وشعرا نبعا أستمد منه روعة ومتعة وحكمة وفلسفة..
(( وفي النهاية .. هذا رأي الشخصي ..لا أفرضه ..وإنما أعرضه )).. ..ويا جميلتي .. أعلم حبك لراقي الكلام نثرا وشعرا.. لأنك تملكين فطرة نقية وروحا طاهرة ونفسا رقيقة ..لذلك أقرربأنني إن أغضبتك بما قلت فأعتذر ..وإن راقك سأفتخر.. عشت في خير ودمت في سعادة ..
وأعطني الناي وغني..
حســـــين حـرفـــوش